العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
أن يكون الثمن في صرة، ولم يعرف ما فيها من خارج، ثم رأى الدراهم التي فيها، كان له الخيارُ، ويسمى خيار الكمِّيَّةِ . ومن شواهده قول ابن عابدين : "إذا قال اشتريت بما في هذه الخابية، ثم رأى الدراهم التي كانت فيها كان له الخيار؛ لأن الخابية يعرف مقدار ما فيها من خارجها، فكان له الخيار، وهذا يسمى خِيَارَ الكمِّيَّةِ لا خيار الرؤية ".
أن يكون الثمن في صرة، ولم يعرف ما فيها من خارج، ثم رأى الدراهم التي فيها، كان له الخيارُ، ويسمى خيار الكمِّيَّةِ.
التَّعْرِيفُ:
1 - (الْكَمِّيَّةُ) ، مَصْدَرٌ صِنَاعِيٌّ مِنْ (كَمْ) وَهِيَ الأَْدَاةُ الْمَوْضُوعَةُ فِي اللُّغَةِ لِلسُّؤَال عَنِ الْمِقْدَارِ (1) . وَخِيَارُ الْكَمِّيَّةِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، عَلَى مَا عَرَّفَهُ صَاحِبُ الْفَتَاوَى السِّرَاجِيَّةِ: خِيَارُ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ (2) . وَالْمُرَادُ بِهِ (حَقُّ الْبَائِعِ فِي الْفَسْخِ لِخَفَاءِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ عِنْدَ التَّعَاقُدِ) .
وَيُسَمَّى هَذَا الْخِيَارُ خِيَارَ الْكَمِّيَّةِ، لأَِنَّهُ بِسَبَبِ جَهْل كَمِّيَّةِ الثَّمَنِ، لِعَدَمِ رُؤْيَتِهِ رُؤْيَةً مُفِيدَةً، بَل يُرَى فِي وِعَاءٍ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ.
وَهَذَا الْخِيَارُ شَدِيدُ الشَّبَهِ مِنْ حَيْثُ الْغَرَضُ، بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْدَرِجْ فِيهِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لاَ يَثْبُتُ فِي النُّقُودِ (3) .
وَلِهَذَا الْخِيَارِ تَطْبِيقَاتُهُ - عَلَى قِلَّتِهَا - لَكِنَّهُ يَقَعُ فِي حَال الْمُسَاوَمَاتِ الْوُدِّيَّةِ، وَفِي الْمُصَالَحَةِ عَنِ الْحُقُوقِ، فَيَلْجَأُ الْمُبَادِل إِلَى تَقْدِيمِ صُرَّةٍ مِنَ الْمَال أَوْ رَبْطَةٍ مِنَ الأَْوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ. بَل فِي الْمُبَايَعَاتِ الْعَادِيَةِ أَحْيَانًا يَشْتَرِي الشَّخْصُ شَيْئًا بِمَا فِي جَيْبِهِ أَوْ حَقِيبَتِهِ مِنَ النُّقُودِ دُونَ بَيَانِ الْمِقْدَارِ، وَإِثْبَاتُ هَذَا الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ عِنْدَ مَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ، يُحَقِّقُ تَمَامَ التَّرَاضِي.
مَشْرُوعِيَّتُهُ:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْخِيَارِ، وَأَدْرَجُوهُ فِي عِدَادِ الْخِيَارَاتِ الَّتِي أَحْصَوْهَا، وَرَأَوْا أَنَّهُ مُكَمِّلٌ لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا لِثُبُوتِهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى خِيَارِ الْعَيْبِ، فَهُوَ عَلَى هَذَا خِيَارُ نَقِيصَةٍ، وَرُبَّمَا كَانَ ثُبُوتُهُ عِلاَجًا لِلْجَهَالَةِ - وَهِيَ الَّتِي ثَبَتَ لأَِجْلِهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ - دَرْءًا لِلْجَهَالَةِ وَتَخْفِيفًا لِلْغَرَرِ. وَصَنِيعُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمُقَارَنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ يَدْنُو بِهِ إِلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، فَكَأَنَّهُ هُوَ، لَوْلاَ تَخْصِيصُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ بِالأَْعْيَانِ، وَأَمَّا خِيَارُ الْكَمِّيَّةِ فَهُوَ لِلنُّقُودِ (5) .
أَحْكَامُ خِيَارِ الْكَمِّيَّةِ:
3 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَوَصْفُهُ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مِنَ الزُّمْرَةِ الَّتِي تُدْعَى: الأَْثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ مُطْلَقَةً عَنِ الإِْشَارَةِ إِلَيْهَا. وَلِذَا اشْتُرِطَ مَعْرِفَةُ الْمِقْدَارِ وَالْوَصْفِ لِتَنْتَفِيَ الْجَهَالَةُ الْفَاحِشَةُ الَّتِي تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ وَالتَّسَلُّمَ. بِخِلاَفِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. فَالْعِلْمُ بِالْمِقْدَارِ: كَأَنْ يَقُول عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَالْعِلْمُ بِالصِّفَةِ: أَنْ يُحَدِّدَ الدَّرَاهِمَ بِأَنْ يَنْسُبَهَا النِّسْبَةَ الْمُمَيِّزَةَ لَهَا عَنْ غَيْرِهَا إِذَا كَانَ ثَمَّةَ دَرَاهِمُ مُخْتَلِفَةٌ، فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ دَفْعَ الأَْدْوَنِ، وَالْبَائِعُ يَطْلُبُ الأَْرْفَعَ، فَلاَ يَحْصُل مَقْصُودُ شَرْعِيَّةِ الْعَقْدِ.
وَالْعَقْدُ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا بِقِيمَتِهِ أَوْ بِمَا حَل بِهِ، أَوْ بِمَا يُرِيدُ الْمُشْتَرِي، أَوْ بِمَا يُحِبُّ، أَوْ أَنْ يَجْعَل الثَّمَنَ رَأْسَ الْمَال أَوْ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ أَوْ بِمِثْل مَا اشْتَرَى فُلاَنٌ، وَلَمْ يَعْلَمَ الْمُشْتَرِي بِقَدْرِ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ. أَمَّا لَوْ عَلِمَ بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ (6) .
وَمِنْهُ مَا لَوْ بَاعَهُ بِمِثْل مَا يَبِيعُ النَّاسُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا لاَ يَتَفَاوَتُ. وَمِنْهُ أَنْ يَبِيعَ عَلَى قَدْرِ مَا بَاعَ بِهِ - وَقَدِ اخْتَلَفَ مَا بَاعَ بِهِ - أَوْ عَلَى مَا يَبِيعُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَل فَهَذَا فَاسِدٌ (7) .
4 - وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ مُسَمًّى بِالْعَدَدِ وَالنَّوْعِ بَل كَانَ مُشَارًا إِلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الإِْشَارَةُ إِلَى ذَاتِهِ أَوْ إِلَى وِعَائِهِ، فَفِي الإِْشَارَةِ الْمُبَاشِرَةِ إِلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ فِي يَدِهِ وَهِيَ مَرْئِيَّةٌ لَهُ، فَإِنَّهُ بِقَبُول الْعَقْدِ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ، فَلاَ خِيَارَ لَهُ، وَالْوَجْهُ فِي هَذَا أَنَّ الْبَاقِيَ هِيَ جَهَالَةُ الْوَصْفِ (يَعْنِي الْقَدْرَ) وَهِيَ لاَ تَضُرُّ، إِذْ لاَ تَمْنَعُ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُشَارًا إِلَيْهِ وَلَكِنَّهُ فِي وِعَاءٍ مَانِعٍ مِنْ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهِ - وَلَوْ عَلَى سَبِيل التَّقْرِيبِ - كَمَا لَوْ كَانَ فِي صُنْدُوقٍ أَوْ خَابِيَةٍ، ثُمَّ رَأَى الثَّمَنَ بَعْدَئِذٍ بَادِيًا دُونَ وِعَاءٍ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ قَبْل مِقْدَارَهُ مِنَ الْخَارِجِ. كَمَا لَوْ كَانَ فِي صُرَّةٍ. فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمُ التَّخْيِيرِ، لأَِنَّهُ عَرَفَ الْمِقْدَارَ.
أَمَّا صَاحِبُ الدُّرِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدْ فَصَّل فِي الْعِبْرَةِ عَلَى أَسَاسِ مَعْرِفَةِ مَا فِيهَا مِنْ خَارِجٍ، فَإِنْ كَانَتْ تُعْرَفُ فَلاَ خِيَارَ، وَإِنْ كَانَتْ لاَ تُعْرَفُ مِنَ الْخَارِجِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ بِمَثَابَةِ الْخَابِيَةِ. وَالضَّابِطُ فِي هَذَا: " أَنَّ الْوِعَاءَ الْمُشْتَمِل عَلَى الثَّمَنِ إِنْ كَانَ يَدُل عَلَى مَا فِيهِ. (دَلاَلَةً تَقْرِيبِيَّةً) فَلاَ يَثْبُتُ مَعَهُ خِيَارُ الْكَمِّيَّةِ، وَإِلاَّ ثَبَتَ الْخِيَارُ " (8) .
وَقَدْ تَعَرَّضَ الشَّافِعِيَّةُ لِمَا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُسَمًّى وَلاَ مُحَدَّدًا، بَل كَانَ صُرَّةً مِنَ الدَّرَاهِمِ تَمَّتِ الْمُبَادَلَةُ بِهَا جُزَافًا لاَ يَعْلَمُ وَاحِدٌ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَدْرَهَا، لَكِنَّهَا مُشَاهَدَةٌ مِنْهُمَا، صَحَّ الْبَيْعُ بِلاَ خِلاَفٍ. لَكِنْ هَل يُكْرَهُ الْبَيْعُ بِصُرَّةِ الدَّرَاهِمِ جُزَافًا؟ فِيهِ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ حَكَاهُمَا الْخُرَاسَانِيُّونَ، أَصَحُّهُمَا: يُكْرَهُ، وَبِهِ قَطَعَ الشِّيرَازِيُّ وَآخَرُونَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ. وَالثَّانِي: لاَ يُكْرَهُ، لأَِنَّهَا مُشَاهَدَةٌ (9) .
__________
(1) القاموس المحيط مادة: " كم "، مغني اللبيب 2 / 183، والمصباح المنير.
(2) حاشية الحموي على الأشباه لابن نجيم 1 / 327، ورسالة حدود الفقه لابن نجيم.
(3) فتح القدير 5 / 82، رد المحتار 4 / 22، والفتاوى الهندية 3 / 127، نقلاً عن قاضيخان.
(4) رد المحتار 4 / 46، والأشباه والنظائر لابن نجيم، والبحر الرائق له 2 / 3.
(5) البدائع 5 / 220.
(6) البدائع 5 / 220، ويشكل هذا صورة رئيسة لخيار الكمية مجالها بيوع الأمانة.
(7) فتح القدير 5 / 83، رد المحتار 4 / 21.
(8) ابن عابدين 4 / 22، والفتح 5 / 82.
(9) المجموع شرح المهذب 9 / 343.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 166/ 20
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".