الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
وذكَروا له معانيَ أخرى، فقالوا: وأصله مِن (أَلِهَ - يَألَهُ): إذا تحيَّرَ؛ لأن العقول تَتحيَّر في عظمته.
وإذا كان مشتقًّا من مادة (وله)، فـ(الإله): مِن الوَلَهِ؛ وهو: شِدَّة المحبة، أو مِن الفَزَع والالتجاء؛ لأنه سبحانه يَوْلَهُ الناسُ إليه في حوائجهم، ويضرعون إليه فيما يُصِيبُهم، ويَفزَعون إليه في كلِّ ما ينُوبُهم.
اسمٌ من أسماء الله تعالى يعني استحقاقَه جل وعلا للعبادة بما له من الأسماءِ والصفات، والمَحامدِ العظيمة؛ فـ(الإله): هو المألوه؛ أي: المستحِقُّ لأن يُعبَد، ولا يستحِقُّ شيءٌ أن يُؤْلَهَ ويُعبَد إلا اللهُ وحده. وكلُّ معبود سِواه مِن لَدُنْ عرشِه إلى قرار أرضه: باطلٌ؛ إذ لا يصلُحُ أن يكون معبودًا كما لا يصلح أن يكون خالقًا رازقًا. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (13 /202).
يدل اسمُ (الإله) على إثبات صفة (الألوهيَّة) لله سبحانه وتعالى.
سبق بيانُ الفرقِ بين اسمَيِ (الله) و(الإله) من ناحية اللغة؛ وهو: أن الثانيَ أصلٌ للأول على أشهر الأقوال.
وأما الفرقُ في الاصطلاح: فهو أن الأولَ معناه: المعبودُ بحقٍّ، والثانيَ معناه: المعبودُ بحقٍّ أو باطل؛ فـ(الإلهُ): اسمٌ يُطلَق على الله تعالى، وعلى غيرِه عند مَن يعتقد أنه حقٌّ؛ بخلافِ (الله)؛ فلا يُطلَق إلا عليه جل وعلا.
انظر: الرباسمُ (الإله) اسمٌ ثابتٌ في مواضعَ كثيرةٍ من كتاب الله عز وجل؛ منها:
* قوله تعالى: ﴿لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ اْلرَّحْمَٰنُ اْلرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 163].
* وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَآ إِلَٰهُكُمُ اْللَّهُ اْلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمٗا﴾ [طه: 98].
* وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [الأنبياء: 108].
* وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ اْلَّذِي فِي اْلسَّمَآءِ إِلَٰهٞ وَفِي اْلْأَرْضِ إِلَٰهٞۚ وَهُوَ اْلْحَكِيمُ اْلْعَلِيمُ﴾ [الزخرف: 84].
ومن أحسَنِ ما قيل في تفسيره في هذا الموضعِ الكريم: «وقال تعالى: ﴿وَهُوَ اْلَّذِي فِي اْلسَّمَآءِ إِلَٰهٞ وَفِي اْلْأَرْضِ إِلَٰهٞۚ﴾ [الزخرف: 84]؛ أي: هو النافذُ أمرُه في كلِّ شيء، وهو المستحِقُّ لأن يُعبَدَ في السماء والأرض». "فتح الرحمن" للعليمي (6 /239).
ورَد هذا الاسمُ كثيرًا في الأحاديث التي حَوَتْ لفظ شَهادة التوحيد؛ منها:
* عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يقول: . .. اللهمَّ إنِّي أعُوذُ بعِزَّتِك - لا إلهَ إلا أنت - أن تُضِلَّني». أخرجه مسلم (2717).
* عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُغِيرُ إذا طلَعَ الفجرُ، وكان يستمِعُ الأذانَ، فإن سَمِعَ أذانًا أمسَكَ، وإلا أغارَ، فسَمِعَ رجُلًا يقولُ: اللهُ أكبَرُ اللهُ أكبَرُ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «على الفِطْرةِ»، ثم قال: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «خرَجْتَ مِن النارِ»». أخرجه مسلم (382).
* عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «الإيمانُ بِضْعٌ وسبعون - أو بِضْعٌ وسِتُّون - شُعْبةً، فأفضَلُها قولُ: لا إلهَ إلا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريقِ». أخرجه مسلم (35).
* عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «ما مِن عبدٍ قال: لا إلهَ إلا اللهُ ثم مات على ذلك إلا دخَلَ الجنَّةَ». أخرجه البخاري (5827)، ومسلم (94).
والأحاديثُ في بيان أنَّ (الإلهَ) بمعنى المألوهِ المعبود المطاع: كثيرةٌ جدًّا يطول ذكرُها.
وكما يمتنِعُ أن يكونَ للعالَمِ رَبَّانِ قادران، يمتنِعُ أن يكونَ للعالَم إلهانِ معبودان؛ فإنَّ كَوْنَ أحدهما قادرًا يناقِضُ كونَ الآخَرِ قادرًا؛ لامتناعِ اجتماع القادرَينِ على مقدورٍ واحد، وامتناعِ كون أحدهما قادرًا على الفعل حين يكون الآخَرُ قادرًا عليه، وامتناعِ ارتفاع قدرة أحدهما بقدرة الآخَرِ مع التكافؤ.
كذلك يمتنِعُ أن يكونَ إلهانِ معبودان محبوبان لذاتهما؛ لأنَّ كَوْنَ أحدِهما هو المعبودَ لذاته يناقِضُه أن يكونَ غيرُه معبودًا لذاته؛ فإن ذلك يستلزم أن يكونَ بعضُ المحبة والعمل لهذا، وبعضُ ذلك لهذا؛ وذلك يناقِضُ كَوْنَ الحُبِّ والعمل كلِّه لهذا؛ فإنَّ الشركةَ نقصٌ في الحب، فلا تكونُ حركةُ المتحرك بإرادته له، فلا يكون أحدُهما معبودًا معمولًا له إلا إذا لم يكُنِ الآخَرُ كذلك؛ فإن العملَ لهذا يناقِضُ أن يكونَ له شريك، فضلًا عن أن يكونَ لغيره.
وكلُّ مَن أحَبَّ شيئين فإنما يحبهما لثالثٍ غيرِهما، وإلا فيمتنِعُ أن يكونَ كلٌّ منهما محبوبًا لذاته؛ إذ المحبوب لذاته هو الذي تريده النفسُ وتطلبه، وتطمئنُّ إليه؛ بحيث لا يبقى لها مرادٌ غيرُه، وهذا يناقِضُ أن يكونَ له شريكٌ». انظر: "الجواب الصحيح" لابن تيمية (6 /38- 39).
* حُبُّ اللهِ عز وجل: فإنَّ اللهَ وَحْده هو المستحِق للمحبة لذاته، ومَن أحَب مع الله أحدًا كحُبِّه لله فهو مشرك، وحُبُّه فساد؛ وإنما الحبُّ الصالح النافع: حُبُّ الله، والحبُّ لله. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (14 /31).
* التعلُّق بالله سبحانه، والاستغناء به عن كلِّ سبب، وفي كلِّ حال، ومِن كلِّ وجه؛ لأن اللهَ هو الغنيُّ، وما سِواه إليه فقيرٌ؛ كما قال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّاسُ أَنتُمُ اْلْفُقَرَآءُ إِلَى اْللَّهِۖ وَاْللَّهُ هُوَ اْلْغَنِيُّ اْلْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15]، وكلما صحَّ الافتقارُ إلى الله عز وجل، صح الاستغناءُ به عن كلِّ ما سِواه.
* الإخلاصُ لله عز وجل في كلِّ قول وعمل؛ فإن العبدَ إذا آمن بالله سبحانه معبودًا واحدًا أحدًا حقًّا، توجَّه بنِيَّتِه له، وكانت أعمالُه كلها ابتغاءَ وجهِ الله، لا يريد بها من الناس جزاءً ولا شكورًا، ولا ينتظر بها مَدْحَهم، ولا يرجو بها دَفْعَ ذَمِّهم، ولم يكن عملُه مشُوبًا برياءٍ أو نفاق، أما مَن لم تكُنْ هذه حالَه، فقد جَهِلَ شأنَ الناس، وشأنَ ربِّه؛ لأن مَن عرَف الناسَ أنزَلهم منازلهم، ومَن عرَف اللهَ أخلَص له أعماله وأقواله، وعطاءه ومَنْعَه، وحُبَّه وبُغْضَه. انظر: "المدارج" لابن القيم (1 /83).
* ويَتبَعُ ذلك - وهو أيضًا من آثارِ الإيمان بهذا الاسم -: موافقةُ العملِ الذي يقوم به العبدُ: أَمْرَ الله الحقِّ سبحانه، وما يُحِبه ويرضاه.
فإذا تحقَّقَ في عملِ العبد الأمرانِ معًا: (الموافقة، والإخلاص)، رُجِيَ له القَبولُ عند الله؛ كما قال عز وجل: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا﴾ [الكهف: 110].
* فوجود الكون: علامةٌ على وجود الله، واستحقاقِه للعبادة دون غيره.
* وانتظامُ الكون واتساقُه من أدقِّ تفاصيله إلى أعظَمِ أجرامه: علامةٌ دالة على وجود الله، واستحقاقه للعبادة.
* وتدبيرُ الكون وتقسيمُ الأرزاق والأقدار بين الخَلْقِ فيه: علامةٌ دالة على ذلك.
ومَرجِعُ ذلك وغيرِه - مما يطول ذكرُه -: أن يقالَ: «ما مِن أثرٍ إلا وله مؤثِّر»؛ كما اشتهر في قول الأعرابيِّ الذي سُئِل: كيف عرَفْتَ ربَّك؟ فقال بفِطْرته السليمة: «البَعْرةُ تدل على البعير، والأثرُ يدل على المسير؛ فسماءٌ ذاتُ أبراج، وأرضٌ ذاتُ فِجاج، وجبالٌ وبحار وأنهار؛ أفلا تدل على السميعِ البصير؟!».
ينظر: "ترجيح أساليب القرآن" لابن الوزير (ص83).
«ولمَّا عبَّر بالعبادة، احتاج إلى أن يوضِّحَها بقوله: «ولا تُشرِك به شيئًا»، ولم يَحتَجْ إليها في روايةِ عُمَرَ رضي الله عنه؛ لاستلزامِها ذلك».
ابن حَجَر العَسْقَلَاني "فتح الباري" (1 /119).
«ذو الألوهيَّة والعبودية على خَلْقِه أحمعين».
ابن جَرير الطَّبَري "جامع البيان" (1 /123).