مدينة النحاس

مدينة النحاس


مَدينَةُ النّحَاسِ


ويقال لها مدينة الصّفر، ولها قصة بعيدة من الصحة لمفارقتها العادة، وأنا بريء من عهدتها إنما أكتب ما وجدته في الكتب المشهورة التي دوّنها العقلاء ومع ذلك فهي مدينة مشهورة الذكر فلذلك ذكرتها، قال ابن الفقيه: ومن عجائب الأندلس أمر مدينة الصّفر التي يزعم قوم من العلماء أن ذا القرنين بناها وأودعها كنوزه وعلومه وطلسم بابها فلا يقف عليها أحد وبنى داخلها بحجر البهتة وهو مغناطيس الناس وذلك أن الإنسان إذا نظر إليها لم يتمالك أن يضحك ويلقي نفسه عليها فلا يزايلها أبدا حتى يموت، وهي في بعض مفاوز الأندلس، ولما بلغ عبد الملك بن مروان خبرها وخبر ما فيها من الكنوز والعلوم وأن إلى جانبها أيضا بحيرة بها كنوز عظيمة كتب إلى موسى بن نصير عامله على المغرب يأمره بالمسير إليها والحرص على دخولها وأن يعرّفه ما فيها ودفع الكتاب إلى طالب بن مدرك فحمله وسار حتى انتهى إلى موسى بن نصير وكان بالقيروان، فلما أوصله إليه تجهز وسار في ألف فارس نحوها، فلما رجع كتب إلى عبد الملك بن مروان: بسم الله الرحمن الرحيم، أصلح الله أمير المؤمنين صلاحا يبلغ به خير الدنيا والآخرة، أخبرك يا أمير المؤمنين أني تجهزت لأربعة أشهر وسرت نحو مفاوز الأندلس ومعي ألف فارس من أصحابي حتى أوغلت في طرق قد انطمست ومناهل قد اندرست وعفت فيها الآثار وانقطعت عنها الأخبار أحاول بناء مدينة لم ير الراؤون مثلها ولم يسمع السامعون بنظيرها، فسرت ثلاثة وأربعين يوما ثم لاح لنا بريق شرفها من مسيرة خمسة أيام فأفزعنا منظرها الهائل وامتلأت قلوبنا رعبا من عظمها وبعد أقطارها، فلما قربنا منها إذ أمرها عجيب ومنظرها هائل كأن المخلوقين ما صنعوها، فنزلت عند ركنها الشرقيّ وصلّيت العشاء الأخيرة بأصحابي وبتنا بأرعب ليلة بات بها المسلمون، فلما أصبحنا كبّرنا استئناسا بالصبح وسرورا به، ثم وجّهت رجلا من أصحابي في مائة فارس وأمرته أن يدور مع سورها ليعرف بابها فغاب عنها يومين ثم وافى صبيحة اليوم الثالث فأخبرني أنه ما وجد لها بابا ولا رأى مسلكا إليها، فجمعت أمتعة أصحابي إلى جانب سورها وجعلت بعضها على بعض لينظر من يصعد إليها فيأتيني بخبر ما فيها، فلم تبلغ أمتعتنا ربع الحائط لارتفاعه وعلوه، فأمرت عند ذلك باتخاذ السلالم فاتخذت ووصلت بعضها إلى بعض بالحبال ونصبتهاعلى الحائط وجعلت لمن يصعد إليها ويأتيني بخبرها عشرة آلاف درهم، فانتدب لذلك رجل من أصحابي ثم تسنّم السلّم وهو يتعوّذ ويقرأ، فلما صار على سورها وأشرف على ما فيها قهقه ضاحكا ثم نزل إليها فناديناه: أخبرنا بما عندك وبما رأيته، فلم يجبنا، فجعلت أيضا لمن يصعد إليها ويأتيني بخبرها وخبر الرجل ألف دينار، فانتدب رجل من حمير فأخذ الدنانير فجعلها في رحله ثم صعد فلما استوى على السور قهقه ضاحكا ثم نزل إليها فناديناه: أخبرنا بما وراءك وما الذي ترى، فلم يجبنا، ثم صعد ثالث فكانت حاله مثل حال اللذين تقدماه فامتنع أصحابي بعد ذلك من الصعود وأشفقوا على أنفسهم، فلما أيست ممن يصعد ولم أطمع في خبرها رحلت نحو البحيرة وسرت مع سور المدينة فانتهيت إلى مكان من السور فيه كتابة بالحميرية فأمرت بانتساخها فكانت هذه:

وقال للجنّ:
ليعلم المرء ذو العز المنيع ومنيرجو الخلود وما حيّ بمخلود
لو أن حيّا ينال الخلد في مهللنال ذاك سليمان بن داود
سالت له العين عين القطر فائضةفيه عطاء جليل غير مصرود
أنشوا فيه لي أثرايبقى إلى الحشر لا يبلى ولا يودي
فصيّروه صفاحا ثم ميل بهإلى البناء بإحكام وتجويد
وأفرغوا القطر فوق السور منحدرافصار صلبا شديدا مثل صيخود
وصبّ فيه كنوز الأرض قاطبة،وسوف تظهر يوما غير محدود
لم يبق من بعدها في الأرض سابغةحتى تضمّن رمسا بطن أخدود
وصار في قعر بطن الأرض مضطجعامضمنّا بطوابيق الجلاميد
هذا ليعلم أن الملك منقطعإلا من الله ذي التقوى وذي الجود

ثم سرت حتى وافيت البحيرة عند غروب الشمس فإذا هي مقدار ميل في ميل وهي كثيرة الأمواج وإذا رجل قائم فوق الماء فناديناه: من أنت؟ فقال: أنا رجل من الجن كان سليمان بن داود حبس ولدي في هذه البحيرة فأتيته لأنظر ما حاله، قلنا له: فما بالك قائما على وجه الماء؟ قال: سمعت صوتا فظننته صوت رجل يأتي هذه البحيرة في كل عام مرة فهذا أوان مجيئه فيصلي على شاطئها أياما ويهلل الله ويمجده، قلنا: فمن تظنه؟ قال: أظنه الخضر، عليه السلام، ثم غاب عنّا فلم ندر أين أخذ فبتنا تلك الليلة على شاطئ البحيرة وقد كنت أخرجت معي عدة من الغواصين فغاضوا في البحيرة فأخرجوا منها حبّا من صفر مطبقا رأسه مختوما برصاص فأمرت به ففتح فخرج منه رجل من صفر على فرس من صفر بيده مطرد من صفر فطار في الهواء وهو يقول: يا نبي الله لا أعود، ثم غاصوا ثانية وثالثة فأخرجوا مثل ذلك فضجّ أصحابي وخافوا أن ينقطع بهم الزاد فأمرت بالرحيل وسلكت الطريق التي كنت أخذت فيها وأقبلت حتى نزلت القيروان، والحمد لله الذي حفظ لأمير المؤمنين أموره وسلّم له جنوده! فلما قرأ عبد الملك هذا الكتاب كان عنده الزهري فقال له: ما تظن بأولئك الذين صعدوا السور كيف استطيروا من السور وكيف كان حالهم؟ قال الزهري:خبّلوا يا أمير المؤمنين فاستطيروا لأن بتلك المدينة جنّا قد وكلّوا بها، قال: فمن أولئك الذين كانوا يخرجون من تلك الحباب ويطيرون؟ قال: أولئك الجنّ الذين حبسهم سليمان بن داود، عليه السّلام، في البحار.

مدينة النحاس


ويقال لها أيضاً مدينة الصفر. لها قصة عجيبة مخالفة للعادة جداً، ولكني رأيت جماعة كتبوها في كتب معدودة كتبتها أيضاً ومع ذلك فإنها مدينةمشهورة الذكر.
قال ابن الفقيه: ذهب العلماء الأقدمون إلى أن مدينة النحاس بناها ذو القرنين وأودعها كنوزه وطلسمها، فلا يقف عليها أحد، وجعل في داخلها حجر البهتة وهو مغناطيس الناس، فإن الإنسان إذا وقف حذاءه جذبه كما يجذب المغناطيس الحديد، ولا ينفصل عنه حتى يموت، وانه في مفاوز الأندلس.
ولما بلغ عبد الملك بن مروان خبر مدينة النحاس وخبر ما فيها من الكنوز، وان إلى جانبها بحيرة فيها كنوز كثيرة وأموال عظيمة، كتب إلى موسى بن نصير عامل المغرب، وأمره بالمصير إليه والحرص على دخولها، وان يعرفه حالها، ودفع الكتاب إلى طالب بن مدرك، فحمله إلى موسى وهو بالقيروان، فلما قرأه تجهز وسار في ألف فارس نحوها، فلما رجع كتب إلى عبد الملك: بسم الله الرحمن الرحيم. أصلح الله الأمير صلاحاً يبلغ به خير الدنيا والآخرة. أخبرك يا أمير المؤمنين أني تجهزت لأربعة أشهر وسرت في مفاوز الأندلس، ومعي ألف رجل، حتى أوغلت في طرق قد انطمست ومناهل قد اندرست، وعفت فيها الآثار وانقطعت عنها الأخبار، فسرت ثلاثة وأربعين يوماً أحاول مدينة لم ير الراؤون مثلها، ولم يسمع السامعون بنظيرها. فلاح لنا بريق شرفها من مسيرة ثلاثة أيام، فأفزعنا منظرها الهائل وامتلأت قلوبنا رعباً من عظمها وبعد أقطارها. فلما قربنا منها إذا أمرها عجيب ومنظرها هائل، فنزلنا عند ركنها الشرقي ثم وجهت رجلاً من أصحابي في مائة فارس وأمرته أن يدور حول سورها ليعرف بابها، فغاب عنا يومين ثم وافى اليوم الثالث فأخبرني انه ما وجد لها باباً ولا أرى إليها مسلكاً، فجمعت أمتعة أصحابي إلى جانب سورها وجعلت بعضها على بعض لأنظر من يصعد إليها فيأتيني بخبر ما فيها، فلم تبلغ أمتعتنا ربع الحائط لارتفاعه، فأمرت عند ذلك باتخاذ السلالم وشد بعضها إلى بعض بالحبال، ونصبتها إلى الحائط، وجعلت لمن يصعد إليها ويأتيني بخبر ما فيها عشرة آلاف درهم، فانتدب لذلك رجل من أصحابي يتسنم ويقرأ ويتعوذ. فلما صار على سورهاوأشرف على ما فيها قهقه ضاحكاً ونزل إليها، فناديناه أن أخبرنا بما فيها وبما رأيته فلم يجبنا. فجعلت لمن يصعد ويأتيني بخبر ما فيها وخبر الرجل ألف دينار، فانتدب رجل من حمير وأخذ الدنانير ثم صعد. فلما استوى على السور قهقه ضاحكاً ثم نزل إليها، فناديناه أن أخبرنا بما ترى فلم يجبنا. فصعد ثالث وكان حاله مثل حال الرجلين، فامتنع أصحابي بعد ذلك من الصعود، فلما أيست عنها رحلت نحو البحيرة وسرت مع سور المدينة، فانتهيت إلى مكان من السور فيه كتابة بالحميرية فأمرت بانتساخها فكانت:

ليعلم المرء ذو العزّ المنيع ومنيرجو الخلود وما حيٌّ بمخلود!
لو انّ حيّاً ينال الخلد في مهلٍلنال ذاك سليمان بن داود
سالت له العين عين القطر فائضةًفيه عطاءٌ جزيلٌ غير مصرود
وقال للجنّ أنشوا فيه لي أثراًيبقى إلى الحشر لا يبلى ولا يودي
فصيّروه صفاحاً ثمّ ميل بهإلى البناء بإحكامٍ وتجويد
وأفرغوا القطر فوق السّور منحدراًفصار صلباً شديداً مثل صيخود
وصبّ فيه كنوز الأرض قاطبةًوسوف تظهر يوماً غير محدود
لم يبق من بعدها في الأرض سابغةًحتى تضمّن رمساً بطن أخدود
وصار في قعر بطن الأرض مضطجعاًمضمّناً بطوابيق الجلاميد
هذا ليعلم أنّ الملك منقطعٌإلاّ من الله ذي التقوى وذي الجود

قال: ثم سرت حتى وافيت البحيرة عند غروب الشمس، فإذا هي مقدار ميل في ميل، كثيرة الأموج، فإذا رجل قائم فوق الماء فناديناه: من أنت؟ فقال: أنا رجل من الجن! كان سليمان بن داود حبسه والذي في هذه البحيرة. فأتيته لأنظر ما حاله، قلنا له: فما بالك قائماً فوق الماء؟ قال: سمعت صوتاً فظننته صوت رجل يأتي هذه البحيرة في كل عام مرةً، وهذا أوان مجيئه، فيصليعلى شاطئها أياماً، ويهلل الله ويمجده. قلنا: من تظنه؟ قال: أظنه الخضر، عليه السلام. فغاب عنا فلم ندر كيف أخذ. قال: وكنت أخرجت معي عدة من الغواصين فغاصوا في الماء، فرأوا حباً من صفر مطبقاً رأسه مختوماً برصاص، فأمرت به ففتح، فخرج منه رحل من صفر على فرس بيده رمح مطرد من صفر، فطار في الهواء وهو يقول: يا نبي الله لا أعود! ثم غاصوا ثانية وثالثة فأخرجوا مثل هذا، فضجوا خوفاً من قطع الزاد. فأخذت الطريق التي سلكتها أولاً حتى عدت إلى قيروان، والحمد لله الذي حفظ لأمير المؤمنين أموره وسلم له جنوده والسلام.
قال: فلما قرأ عبد الملك كتاب موسى، وكان عنده الزهري، قال له: ما تظن بأولئك الذين صعدوا السور؟ قال الزهري: يا أمير المؤمنين لأن لتلك المدينة جناً قد وكلوا بها! قال: فمن أولئك الذين يخرجون من الحباب ويطيرون؟ قال: أولئك مردة الجن الذين حبسهم سليمان بن داود، عليه السلام، في البحار؛ هذا ما رواه ابن الفقيه.
وقال أبو حامد الأندلسي: دور مدينة النحاس أربعون فرسخاً وعلو سورها خمسمائة ذراع فيما يقال. ولها كتاب مشهور في كتابها أن ذا القرنين بناها، والصحيح أن سليمان بن داود، عليه السلام، بناها. وليس لها باب ظاهر وأساسها راسخ، وان موسى بن نصير وصل إليها في جنوده، وبنى إلى جانب السور بناء عالياً متصلاً به، وجعل عليه سلماً من الخشب متصلاً بأعلى السور، وندب إليه من أعطاه مالاً كثيراً. وأن ذلك الرجل لما رأى داخل المدينة ضحك وألقى نفسه في داخل المدينة، وسمعوا من داخل المدينة أصواتاً هائلة، ثم ندب إليه آخر وأعطاه مالاً كثيراً وأخذ عليه العهد أن لا يدخل المدينة ويخبرهم بما يرى، فلما صعد وعاين المدينة ضحك وألقى نفسه فيها، وسمعوا من داخلها أصواتاً هائلة أيضاً، ثم ندب إليه رجلاً شجاعاً وشد في وسطه حبلاً قويا، فلما عاين المدينة ألقى نفسه فيها فجذبوه حتى انقطع الرجل من وسطه. فعلم أنفي المدينة جناً يجرون من علا على السور فأيسوا منها وتركوها.
وذكر أبو حامد الأندلسي في وصف مدينة النحاس قصيدة منها:

وتقبّل الملكوت ربعي حيث مافلك البروج يجرّ في سجداته
أرض بحيرةٍ التي دانت بهاجنّ الفلا والطّير في غدواته
والرّيح يحمله الرّخاء فإنّماشهرين مطلعها إلى روحاته
كالطّود مبهمةً بأسٍّ راسخٍأعيا البريّة من جميع جهاته
والقطر سال بها فصاغ مدينةًعجباً يحار الوهم دون صفاته
حصن النّحاس أحاط من جنباتهاوعلى غلوّ السّهم في غلواته
فيها ذخائره وجلّ كنوزهوالله يكلأها إلى ميقاته
في الأرض آياتٌ فلا تك منكراًفعجائب الأشياء من آياته