الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
سل نفسك: من الذي خلقك من ترابٍ! ثم من نطفةٍ ثم سواك رجلا! من الذي غذَّاك وأنت في رحم أمك! وآواك حين قَدِمت إلى هذه الدنيا! من الذي رزقك وأنت جنينٌ لا تملك لنفسك حولًا ولا طَولا! من الذي حفظك وآواك حينما خرجت من هذه الدنيا! حفظك في الرحم، وحفظك في الصِغر حتى صرت رجلًا، ألم تتفكر في شق سمعك وبصرك! ما هذا السمع وما هذا البصر! إنما هو قطعة لحمٍ وعظمٍ تشكَّلت فصارت هذه تُبصر، وتلك تسمع، وهذه تنطق.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين...أما بعد:
فلئن كان لقسوة القلب أسبابٌ فللينه ولصلاحه أسبابٌ أخرى، بوابتها الكبرى: ملء القلب بعظمة الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه-, تلكم الصفة التي نعى الله -عز وجل- على الكفار انعدامها أو ضعفها في قلوبهم، فتقرأ يا عبد الله في كتاب الله قولَ ربك -عز وجل-: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)[الزمر:67].
وتقرأ قول الله -عز وجل- وهو يُخبرنا عن نوحٍ واعظًا قومه: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا)[نوح:14-25]، وقال -سبحانه- وهو يذكر وعظ إبراهيم الخليل لقومه أيضًا: (فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات:87].
وإن حقًّا علينا يا عباد الله -ونحن نشكو إلا من رحم الله- قسوةً في قلوبنا أن نبحث عن إجابة هذا السؤال الكبير العظيم المهم: كيف ننمِّي عظمة الله في قلوبنا؟
إن أول ما يلفت نظر المؤمن القارئ لكتاب الله -عز وجل- أنه سيجد في كتاب الله أمورًا واضحة جليلة في الدلالة على الإجابة على هذا السؤال.
1) ومن أعظمها: أن يتأمل العبدُ في عظمة مخلوقات الله -عز وجل-، فالمخلوق العظيم دالٌ على خالقٍ أعظم, ومن أعظم مخلوقاته -سبحانه- السموات والأرض (لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ)[غافر:57].
وليتأمل في صفة الملائكة التي حدّث النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بعضها فقال - واصفًا جبريل إمام الملائكة وأفضلهم -: «رأيته منهبطًا من السماء، سادًّا عِظم خَلْقه ما بين السماء إلى الأرض» (صحيح مسلم ح(177).
هذا ملكٌ واحدٌ فقط يا عباد الله! فكيف ببقية الملائكة الذين ملئوا السموات والأرض؟! كما حدّث النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذرٍ رضي الله عنه بسندٍ لا بأس به, قال: «أطّت السماء وحُق لها أن تئط» أي: أنها ثقلت بمن فيها، ثم بين سبب ذلك فقال: «ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملكٌ ساجد» انظروا إلى لفت النظر إلى العظمة يا عباد الله!
ثم قال رسول الله: «لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ولا تلذذتم بالنساء على الفُرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله -عز وجل-» فلما حدّث أبو ذرٍ -رضي الله عنه- بهذا الحديث قال: "والله لوددت أني شجرة تُعضد"! (أحمد ح(21516)، المستدرك ح(3883)، سنن الترمذي ح(2312)، وقال الترمذي: حسن غريب)، وهو يُعبر بذلك عن خوفه ووجله من لقاء الله سبحانه.
ومن الأمور التي تُعين على ملأ القلب بعظمة الرب جل وعلا:
2) التفكر في دقيق صنعه -سبحانه- في خلقه, فتأمل أيها المؤمن في هذه الأفلاك؛ فهي من ملايين السنين وهي تسبح في الكون دون أن يختل نظامها (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)[الأنبياء:33]، في كونٍ كظيظ بالنجوم والأفلاك، فيه مليارات المليارات من النجوم! (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل:88].
وتأمل أيها العبد الفقير في خلقك الذي دعاك مولاك إلى التفكر فيه (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)[التين:4]، ألم ترَّ كيف جعل الله لك يدين، وفي أطرافها كفين, وفي كل كفٍ منها أصابع لو جُمعت في قطعةٍ واحدة لتعطلت بعضُ مصالحك! ألم تتأمل في حُسن خلق وجهك! ألم تتأمل في حسن تقسيمه ما بين سمعٍ وبصرٍ ومنطقٍ وذوقٍ! (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)[الذاريات:21].
سل نفسك: من الذي خلقك من ترابٍ! ثم من نطفةٍ ثم سواك رجلا! من الذي غذَّاك وأنت في رحم أمك! وآواك حين قَدِمت إلى هذه الدنيا! من الذي رزقك وأنت جنينٌ لا تملك لنفسك حولًا ولا طَولا! من الذي حفظك وآواك حينما خرجت من هذه الدنيا! حفظك في الرحم، وحفظك في الصِغر حتى صرت رجلًا، ألم تتفكر في شق سمعك وبصرك! ما هذا السمع وما هذا البصر! إنما هو قطعة لحمٍ وعظمٍ تشكَّلت فصارت هذه تُبصر، وتلك تسمع، وهذه تنطق.
يقول الله -عز وجل-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون: 12-14].
وهذا كثيرٌ في القرآن الكريم؛ يدعو الله -سبحانه- عباده إلى النظر والفكر في مبدأ خلقهم ووسطه وآخره؛ إذ نفس الإنسان وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره, وأقرب شيءٍ إلى الإنسان هي نفسه التي فيها من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمارُ في الوقوف على بعضها, ومع ذلك فأكثر الناس غافلٌ عن ذلك مُعرضٌ عن التفكر فيه.
أيها المؤمنون: ومن أعظم ما يفتح القلب على بوابة العظمة:
3) التفكر في أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، استمع إلى ربك وهو يمدح نفسه العلية في قوله سبحانه: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ -سبحانه- وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر:67]، واستمع لقوله تعالى وهو يمدح نفسه بعدد من الأسماء الحسنى الكريمة في أواخر سورة الحشر -التي طال ما قرأناها وقل أن نتوقف عندها-: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الحشر: 22-24].
ويتمدح نفسه العلية بسعة علمه جل جلاله فيقول: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[الأنعام:59].
تأملوا يا عباد الله في موقف موسى لما سأل ربَّه الرؤية، وانظروا في أثر تفكّره في عظمة أسماء الله وصفاته -جل وعلا-, قال موسى لربه: (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ)، انظر إلى الأثر: (قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)[الأعراف:143].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ما تجلى منه إلا قدر الخنصر"؛ فجعل الجبل ترابًا، وخر موسى مغشيًا عليه.
انظروا يا عباد الله أولَ جملة قالها موسى: (سبحانك)! هذا هو التعظيم الذي يرثه القلب حينما يتأمل ويتفكر في أسماء الله وصفاته، وليس هذا فحسب؛ بل يورثه توبةً وإنابة (سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)؛ لأن من عصى الله وأصر على معصيته فما عرف قدرَه، وقد يكون نقص المعرفة هذا إما نقصًا كليًّا أو نقصًا جزئيًّا، بحسب الذنوب والمعاصي.
أيها المسلمون: ومما تُستجلب به عظمةُ الله إلى هذه القلوب القاسية:
4) كثرة ذكره جل جلاله؛ فمن أحب شيئًا وعظّمه أكثرَ مِن ذِكره ولابد, وذكر الله -عز وجل- من أحب وأعظم القربات إليه سبحانه, ومِن محبته له: أمر به في جميع الأحوال؛ في الصلاة, والزكاة, والصيام, والحج, بل أثنَى -سبحانه- على طائفةٍ من عباده -جعلنا الله وإياكم منهم- فقال عنهم: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)[آل عمران:191].
ولحب الله لهذه العبادة أمرَ بالإكثار منها فقال -عز وجل-: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الأنفال:45].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- موضحًا حقيقة هذه العبودية:
"لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء معلومًا، ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذِّكر؛ فإن الله لم يجعل له حدًا ينتهي إليه, ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على عقله, فقال: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ)[النساء: 103], بالليل والنهار, في البر والبحر, وفي السفر والحضر, والغنى والفقر، والسقم والصحة, والسر والعلانية, وعلى كل حال".
وفي مقابل ذلك يُحذّر -عز وجل- من الغفلة عن ذِكره, وأن تكون هذه الأموال التي بين أيدينا, أو الأموال والأهلون سببًا في الغفلة عن ذلك, فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[المنافقون:9].
فمن أكثر مِن ذكر الله -تعالى- بقلبٍ حاضر, وتأملٍ لمعاني ما يذكر؛ فلا ريب أنه سيستدرج عظمة الله في قلبه ولابد، فمن أكثر فالله أكثر, وإنه ليُرجى لمن أكثر من ذكر مولاه في حال الرخاء أن يكون آخر ما يلهج به عند فراق الدنيا هو ذكر إلهه ومحبوبه, وأن يُختم له بالتوحيد: "لا إله إلا الله".
فنسأل الله الكريم من فضله.
أيها المسلمون: إن لامتلاء القلب بعظمة الله -عز وجل- آثارًا عظيمة، يجدها الإنسان في الدنيا قبل رحيله عنها, ومن أعظم هذه الآثار:
أولاً: أن يمتلأ القلب بسر سعادته, وسر طمأنينته, وسر راحته وانشراحه ألا وهو امتلاؤه بإجلال الله وتعظيمه، كما قال موسى في الآية السابقة: (سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف:143].
ولما راجع نوحٌ ربَّه في شأن ابنه وعاتبه الله على ذلك؛ قال نوح -عليه السلام- تائبًا معتذرًا: (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[هود:47].
ولما جاء جبريل إلى مريم البتول - عليهما السلام - يريد أن ينفذ ما أُمر به؛ لم تجد شيئًا تخوفه به إلا أن تذكّره بعظمة الله وجلاله: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا)[مريم:18].
ثانيًا: ومن آثار امتلاء القلب بعظمة الله وجلاله ازدياد محبته في القلب, والشوق إلى لقائه, وهذا أمرٌ معلوم يجده المؤمنون المعظّمون لله -سبحانه- وتعالى, وإذا كان الخلق - ولله المثل الأعلى - يجدون هذه المحبة والتعظيم فيمن يحبونهم من الناس؛ فكيف بامتلاء القلوب بمحبة علام الغيوب جل جلاله.
ثالثًا: ومن آثار امتلاء القلب بعظمة الله وهو أثرٌ عظيم نحتاج إليه كثيرًا في أيامنا كلها - وخصوصًا ونحن مقبلون على شهر العبادة - ذلكم الأثر: هو النشاط في العبادة, والتوفيق للطاعة.
يقال لنبينا -صلى الله عليه وسلم- بعد أن قام طويلًا حتى تشققت قدماه من طول القيام، - تقول له عائشة -رضي الله عنها-: يا رسول الله! أتفعل هذا وقد غَفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!
فيُجيب إجابة العبد الأواه الشاكر: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»! هبي يا عائشة أنه ليس ليّ ذنبٌ يُستر بفضل الله وكرمه؛ فأين مقام الشكر؟ أين مقام العبودية لله -سبحانه- وتعالى؟ فمتى امتلأ قلبُه بعظمة الله -تعالى- فإنه ينشط للعبادة؛ إذ لا يبقى في القلب شيءٌ إلا ما يريده الربُّ جل وعلا، فيوفَّق العبدُ حينها فلا ينطق إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطَق نطَق بالله, وإن سمِع سمِع بالله, وإن نظَر نظَر بالله, وإن بطَش بطَش بالله, فهذا هو معنى قوله -تعالى- في الحديث القدسي: «فإذا أحببته كنتُ سمعَه الذي يسمع به, وبصَره الذي يُبصره به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينّه, ولئن استعاذني لأعيذنَّه».
رابعًا: ومن آثار امتلاء القلب بالعظمة: هو الرهبةُ من المعصية, والوجل من الوقوع فيها، وإن وقع فلا معصوم إلا من عصمه الله, وانظروا كيف يُعبّر ابنُ مسعود عن هذه الحال حينما قال: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه» فقال به هكذا.
والفرق هو هذه القلوب أيها المؤمنون! قلب المنافق لا وقار فيه لله, وقلب المؤمن فيه وقارٌ عظيم، يشعر معه بوخز الذنب, ولهذا كان من فقه الصحابة -رضي الله عنه-م: أنهم كانوا يسألون عن أي الذنب أعظم؛ حتى لا يقعوا في المحذور, فإنّ وقار الله وجلاله في القلب يدعو إلى ترك صغار الذنوب فضلًا عن كبارها.
يقول بشر الحافي -رحمه الله-: "لو فكّر الناسُ في عظمة الله -تعالى- ما عصوه"، يقصد بذلك: ما أقدموا عليها عمدًا، ولو وقع فإنه يعود ويرجع فورا, ولقد كان من شريف أدعيته -صلى الله عليه وسلم-: "وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة, وكلمة الحق في الغضب والرضا".
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن خشي الله في الغيب والشهادة, وممن يقول كلمة الحق في الغضب والرضا. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم ليّ ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه استغفروه, استغفروه إن ربي رحيمٌ ودود.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين...أما بعد:
فإذا قام بنيانُ العظمة في قلبك، أو بدأت تبنيه أيها المؤمن؛ فاحذر أن تهدمه بمعولٍ هو من أعظم معاول هدم عظمة الله في قلب العبد: تلكم أيها الأحبة هي الذنوب والمعاصي!
يقول ابن القيم -رحمه الله-؛ مبينًا شيئًا من آثار هذه الذنوب على القلب, وشيئًا من عقوباتها: "ومن أعظم عقوباتها: أنها تُضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله، وتُضعف وقاره في قلب العبد ولابد شاء أم أبا, إذ لو تمكن وقارُ الله وعظمتُه في قلبه لما تجرأ على معاصيه, وربما اغتر المغترُ وقال: إنما يحملني على المعاصي حُسن الرجاء, وطمعي في عفوه، لا ضعف عظمته في قلبي!
قال: وهذا من مغالطة النفس! فإن عظمة الله -تعالى- وجلاله في قلب العبد تقتضي تعظيمَ حرماته, وتعظيم حرماته يحول بينه وبين الذنوب, والمتجرأ على معاصيه ما قدر الله حق قدْره, وكيف يقْدُره حق قدره أو يعظّمه؟ أو يُكبّره؟ ويرجو وقاره ويُجلّه مَن يهون عليه أمرُه ونهيه؟! هذا من أمحل المحال، وأبين الباطل, وكفى بالعاصي عقوبةً أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله, وتعظيم حرماته, ويهون عليه حقه", انتهى كلامه رحمه الله.
فيا من يشكو قحط عينيه, يا من يشعر بجفاف قلبه! هذه بوابة العظمة فادخل منها.
يا من يشكو ضعفًا في التلذذ بالطاعة, يا من يصلي ولا يجد الأثر, يا من أقبل عليه رمضان.. هذا مغتسل التوبة فاغمس قلبك فيه، هذا مورد العظمة فاملأ قلبك منه؛ بتذكر نِعم الله وآلاءه، ولحظة القدوم عليه ولقائه, تذكّر عظيمَ آلائه وأسمائه وصفاته، أُخل بنفسك؛ فإنه ما من شيء أعظم من أن تشفق عليه من قلبك هذا الذي لا نجاة ولا سلامة لك يوم القيامة إلا أن يَقدُم على الله سليمًا.
اللهم ارحم قلوبًا أحبتك وما ذاقت لذة الأُنس بك, اللهم أُجبر قلوبًا ما سجدت إلا لك، ولا تحرمها لذة التعبد لك والوقوف بين يديك, اللهم اجعلنا ممن إذا تذكروا عظمتَك انكسرت قلوبهم, ووجلت أفئدتهم, وخافوا منك, وأحبوا لقاءك, اللهم لا تحل بيننا وبين صلاح قلوبنا بذنوبنا ومعاصينا.
اللهم يا حي يا قيوم أصلح لنا قلوبنا, اللهم أصلح قلوبنا, اللهم أصلح قلوبنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام يا رب العالمين, يا من أذقت أولياءك لذة التعبد لك, ولذة مناجاتك, والأنس بخلوتك يا رب العالمين, اللهم أذقنا ذلك بمنك وكرمك يا رب العالمين...