الشاكر
كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
لقد كتب الله الموت على كل واحد منا، وهو ملاقيه لا محالة؛ فـ(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185]. أجل كلُ واحد منا ذائقٌ لكأس المنون في الوقت الذي قضاه الله وحدده، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، قد قدّر الله ذلك وحدده، ولن يتجاوز أحد ما حدده، وأجرى به القلم...
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: فواجع وفيات مرت على بعض الأسر في الأيام القلية الماضية، ربما عاينها بعضنا لقربه منهم، أو سمع أخبارها المؤكدة من وسائل الإعلام، فهذا شاب في مقتبل العمر نام ولم يقم، وذاك رجل في منتصف عمره وعنفوان عطائه يعيش في أحلى أيام عمره سقط مغشياً عليه وأسعف بسرعة البرق، وما هي إلا سويعة أو جزء منها وإذا بالطبيب ينعاه، وتلك أسرة بكاملها خرجت بكل أفرادها في زيارة أو نزهة وإذا هي خبر بعد عين، نزل بها المنون فلم تبق منهم عين تطرف، قد فنوا عن بكرة أبيهم، وأغلق بموتهم بيت من بيوت المسلمين كان يعج بالحياة، نعم أغلق ولم يبق من ساكنيه أحد فيه حياة، وذاك، وذاك... فسبحان (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:2].
لقد كتب الله الموت على كل واحد منا، وهو ملاقيه لا محالة؛ فـ(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185]. أجل كلُ واحد منا ذائقٌ لكأس المنون في الوقت الذي قضاه الله وحدده، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، قد قدّر الله ذلك وحدده، ولن يتجاوز أحد ما حدده، وأجرى به القلم، فهي مكتوبة عنده في اللوح المحفوظ، فعن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: رَبِّ: وَمَاذَا أَكْتُبُ؟! قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ". رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني.
ويكتبُ الملك الكريم -عليه السلام- "رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؛ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ". رواه البخاري وغيره.
على جبين كل جنين وهو في بطن أمه أجله، وينفخُ فيه الروح، فعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: "أَنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؛ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ". رواه البخاري وغيره.
أحبتي: إذاً، مَن ماتَ مات بأجله الذي قدَّره الله تعالى وأمضاه، فقد قال: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا) [آل عمران:145]، وكلُ النفوسِ معلقةٌ بآجالها بإذن الله وقدره وقضائه، فمن قدرَ اللهُ عليه أن يموت مات ولو بغير سبب، ومن أراد اللهُ بقاءَه فلو أَتَى من الأسبابِ كُلَ سببٍ لم يضرْهُ ذلك قبل بلوغ أجله، وذلك أن اللهَ قضى الموتَ وقدَّرَه وكتبَه إلى أجلٍ مُسمى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف:34].
والموت حَقٌّ على الإنس والجن، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ؛ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ -لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ- أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ". رواه مسلم وروى البخاري بعضه.
أيها الإخوة: وأكثر ما ينبغي للمؤمن أن يخافه في الموت أن يباغته وهو لم يتهيأ له، وهو ما يسمى بموت الفجأة؛ ذلك أن من عادة الإنسان التسويف في التوبة والعمل الصالح، وطول الأمل والرغبة في الدنيا، وإلا فإن المقدم على الموت لمرض عُضال أصابه أو نحوه تتغير حياة أكثرهم في آخر أيامه، فترخُصُ عنده الدنيا وتَعْظُمُ الآخرة، فيكونُ ما ألَمَّ به من علامات الموت ومقدماته خيراً له؛ فيجدد التوبة ويخرج من المظالم ويكفرُ الله مِنْ خَطَايَاهُ بما أصابه من مصيبة المرض، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ –تعب- وَلاَ وَصَبٍ –مرض-، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ". رواه البخاري.
أيها الأحبة: في الحديث: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ مِنْ اقْتِرَاب السَّاعَة أَنْ يُرَى الْهِلاَل لِلَيْلَة فَيُقَالُ: لِلَيلَتَينِ، وَأَنْ يَظْهَر مَوتُ الْفَجْأة، وَأَنْ تُتَّخَذ الْمَسَاجِد طُرُقاً". رواه الطبراني عَنْ أَنَس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وحسنه الألباني.
وموت الفجأة موجود من قديم الزمان، ولكن كثر ظهوره وانتشاره في هذه الأزمان، والمتابع للأخبار اليوم يجد عجبًا من كثرته سواء على المستوى الفردي أم الجماعي.
وموت الفجأة لا يخرج عن قدر الله تعالى وتدبيره، ومعلوم أن الدعاء يرد القدر، وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أَعُوذُ بِكَ من الْهَدْمِ، وَأَعُوذُ بِكَ من التَّرَدِّي، وَأَعُوذُ بِكَ من الْغَرَقِ وَالْحَرَقِ". رواه أبو داود والنسائي عن أبي الْيسر -رضي الله عنه-، وصححه الألباني.
والجامع بين هذه الأربعة شدتها وكونها فجأة، وروى ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما- قال: كان من دُعَاءِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أَعُوذُ بِكَ من زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ". وموت الفجأة قد يكون من فُجاءة النقمة.
أحبتي: وخلاصة أقوال أهل العلم في موت الفجأة: أنه تخفيف عن العبد المؤمن ومحبوب للمراقبين المستعدين للموت، وقد مات به جماعة من الأنبياء؛ فقد قيل: مَاتَ خَلِيلُ اللهِ فَجْأَةً، وَمَاتَ دَاوُدُ فَجْأَةً، وَمَاتَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ فَجْأَةً، وكذلك بعض الصالحين.
أما من ليس مستعداً للموت بكونه مثقل الظهر بالمظالم فليس بمحبوب، وبذلك يجتمع القولان.
ومفاجأة الموت ربما تفوّت على الإنسان أشياءً كثيرة؛ فقد يكون في حاجة إلى أن يوصي، فتفوته الوصية، وقد يكون يعمل في عمل دنيا بعيد عن ذكر الآخرة أو الموت، فيفوّت عليه أن يكون آخر كلامه لا إله إلا الله.
أيها الإخوة: ومع كثرة موت الفجأة إلا أن جملة منا في غفلة، وكأن الأمر لا يعنيه ولن يأتيه أو يقرب من داره.
عجبًا لنا!! كيف نجرؤ على أن نعصي الله وأرواحنا بيده!! وكيف نغفُل عن رقابته والموت بأمره يأتي فجأة، أما سأل أحدنا نفسه: لماذا لا يستطيع أحد أن يعلم متى سيموت؟! إنها حكمة بالغة، ليبقى المؤمن طوال حياته مترقبًا وَدَاعَ الدنيا، مستعدًا للقاء ربه، فهل لنا أن نتنبه لذلك؟!
يا لها من غفلة أن نسير في هذه الدنيا ولسان فِعَلنا كأن أحدنا سيُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُنجيه مِنَ الْموتِ أَنْ يُعَمَّرَ! ونغفل كأن بيننا وبين الموت ميعادًا مؤجلاً! كم قريبًا دَفَنَّا، وكم حبيبًا ودَّعنا، نفضنا أيدينا من غبار قبره، وعدنا من دُوْرِ اللحود، وعادت معنا الدنيا لنغرق في همومها وملذاتها، وكأن الأمر لا يعنينا، بل نجد منا من لا يفتر عن حديث الدنيا وهو قائم على تلك الأجداث، وكأن معه صكًّا إِلهَيًّا بالخلود في الدنيا.
أين العيون الباكية من خشية الله؟! أين القلوب الوجلة من لقاء الله؟! لم لا نعود أنفسنا على توديع هذه الدنيا كل يوم، فنحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبها الله؟! ونؤدي للعباد كل ما علينا قبل أن يؤديه الله من أعمالنا الصالحة؟! لمَ لا نعزم على مضاعفة الأعمال الصالحة من صلاة واستغفار وذكر وبر وصلة؟! لم لا نفكر بجدية مقرونة بعمل أن نقلع من معاصينا، ونتوب من تقصيرنا في حق الله تعالى؟! لم لا نجعل ساعة الموت هذه واعظًا لنا في هذه الدنيا الفانية من الغفلة عن الله تعالى؟! لمَ... لمَ... لمَ...
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).
أحبتي: يا لَلَّه للموتِ من زائر ما أسرعه!! ومن آخذ ما أعجله!! ومن مرسل ما أطوعه!! ومن حقٍ ثابتٍ نتجاهله!!
وبعد:
أيها الأحبة: لنلهج كلُنا ونقول:
يا كثــيرَ العَفْوِ عَمَنْ | كَثُـرَ الذَنْـبُ لَـدَيْه |
جَـاءَكَ المُـذْنِبُ يَرْجُو | الصَفْحَ عَنْ جُرْمِ يَـدَيْه |
أَنَا ضَيْفٌ وجَزَاءُ الضَـ | ـيْفِ إِحْسَــانٌ إِلَيْه |
اللهم ارحم ضعفنا، وآنس وحشتنا، وذكرنا بك ما حيينا.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الخطبة الثانية:
قال ابن الجوزيّ: "الواجب على العاقل أخذ العدّة لرحيله؛ فإنّه لا يعلم متى يفجؤه أمر ربّه، ولا يدري متى يستدعى، وإنّي رأيت خلقًا كثيرًا غرّهم الشّباب ونسوا فقدان الأقران، وألهاهم طول الأمل".
واجتمع ذات يوم وهيبُ بنُ الورد وسفيانُ الثوري ويوسفُ بن أسباط فقال الثوري: كنت أكره موت الفجأة قبل اليوم، واليوم وددت أني مت، فقال له يوسف: لم؟! قال: لما أتخوف من الفتنة، فقال يوسف: لكنى لا أكره طول البقاء، فقال سفيان: لم؟! قال: لعلي أصادفُ يوماً أتوبُ فيه وأعملُ صالحاً، فقيل لوهيب: إيش تقول أنت؟! فقال: أنا لا أختار شيئًا، أحب ذلك إليَّ أحبه إلى الله -سبحانه وتعالى-، فقبله الثوري بين عينيه، وقال: روحانية ورب الكعبة.
أيها الإخوة: قال بعضهم: أعجب حالات الإنسان أنه يحسب لكل شيء حسابًا ويستعدُ له، يخشى الفقر فيدخر له المال، ويخشى البردَ فيستعدُ له، والحر كذلك.
ويخشى الشيخوخةَ والكبر فيسعى في تحصيل الأولاد، لعلهم يخدمونه عند العجز، ويخلفونه في شؤونه الدنيوية والأخروية... وهكذا.
لكنه لا يدخل الموت الذي ربما فاجأه في حسابه فلا يستعد له مع أنه يشاهد الموتى يذهبون ولا يعودون.
وهو مهدد بالموت في كل ساعة، خصوصًا في زمننا الذي كثرت فيه أسباب موت الفجأة. نسأل الله أن يوقظ قلوبنا للاستعداد له.
وقال علي -رضي الله عنه-: "أيها الناس: اتقوا الله الذي إن قلتم سمعْ، وإن أضمرتم علم، وبادروا الموت الذي إن هربتم عنه أدرككم، وإن أقمتم أخذكم، وإن نسيتموه ذكركم". وقال -رضي الله عنه-: "إذا كنت في إدبارٍ والموتُ في إقبالٍ فما أسرعَ الملتقى".
أيها الإخوة: من فوائد تذكر الموت: إنّ تذكّر الموت بصورة دائمة يجعل المسلم يعطي كلّ لحظة حقّها من الواجب، ويبتعد عن المخالفات الشّرعيّة.
ويجعل المؤمن يعمل في حياته ما يدوم له أجره بعد موته، أسأل الله أن يبصرنا في ديننا، وأن يوفقنا للاستعداد لما أمامنا.