الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إننا في هذه الحياة أشبه بالتجار؛ فمنا المتاجر مع الشيطان، ومنا المتاجر مع الرحمن، ومنا المتاجر مع الهوى، وكل متاجر يحتاج إلى متابعة تجارته، وتفقد أحواله وإلا عادت التجارة خسارة، والربح هو الندامة. والمتاجر الحقيقي هو المتاجر مع الله الكريم الذي يعطي الأرباح بلا عد ولا حصر ..
الخطبة الأولى
إن الحمد لله...
أما بعد:
فيا أيها الناس: إن من أهم المهمات التي ينبغي أن يسعى إليها المرء، بل يقدمها على كل غال ونفيس، هو متابعة نفسه وتفحصها كل حين وتصحيح الأخطاء التي تقع منه وترك الروتينِ والعاداتِ التي سيطرت على العبادات، فلا تكاد تجد من له نيةٌ في الخير قائمة.
عباد الله: إننا في هذه الحياة أشبه بالتجار؛ فمنا المتاجر مع الشيطان، ومنا المتاجر مع الرحمن، ومنا المتاجر مع الهوى، وكل متاجر يحتاج إلى متابعة تجارته، وتفقد أحواله وإلا عادت التجارة خسارة، والربح هو الندامة.
والمتاجر الحقيقي هو المتاجر مع الله الكريم الذي يعطي الأرباح بلا عد ولا حصر، من خزائنه التي لا تنفد قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) [فاطر:29] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الصف:10-11]
معاشر المؤمنين: إن كثيرا من الخلق إلا من رحم الله -عياذا بالله من حالهم- قد طار بهم الشيطان على سرج الأمل، فنسوا الغاية العظيمة التي من أجلها خلقوا، وكثير من هؤلاء لا يستيقضون إلا في عسكر الآخرة يوم لا يجد العبد مناصا ولا مفرا إلا إلى الله، (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89] ، لهذا كان لزاما على العبد أن يصحح من سيره في كل لحظة فلعله يسير على غير الصراط المستقيم وهو لا يشعر (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر:8] وقال: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف:103-104]
فمن هذا يتبين لنا جليا أن البعض يعمل العمل ويظن أنه صواب أو أنه مأجور، ثم يتبين له أنه على غير هدى، فقل لي بربك من لم يحاسب نفسه فمتى يعلم أنه على خطأ ومتى يصحح طريقه.
أيها الناس: إن محاسبة النفس تدل العبد على خطئه، وتدعوه إلى التصحيح، وهذه هي النقطة الثانية التي يغفل عنها البعض ألا وهي تصحيح الأخطاء؛ فمَن من الناس ليس لديه أخطاء؟! والكل يعلم أنه مخطئ ولكن أين المصححون؟!.
عباد الله: لقد دعا الله -جل وعلا- الناس إلى محاسبة النفس وإلزامها طريق الحق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "قد دل وجوب محاسبة النفس قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال: أمن الصالحات التي تنجيه أن من السيئات التي توبقه؟ قال قتادة: "ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد". والمقصود صلاح القلب بمحاسبة النفس وفساده بإهمالها والاسترسال معها". ا.هـ
معاشر المسلمين: إن محاسبة النفس على نوعين: قبل العمل وبعده، فأما الأول: فهو أن يقف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحان فعله على تركه.
قال الحسن البصري: "رحم الله عبدا وقف عند همه فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر".
وأما النوع الثاني: فهو المحاسبة بعد العمل فهو على ثلاثة أنواع: أحدها: محاسبة النفس على الطاعة التي قصرت فيها من حق الله -تعالى-، فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي.
الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركُه خيرا من فعله.
الثالث: أن يحاسب نفسه على كل أمر مباح أو معتاد: لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار الأخرة؟ فيكون رابحا، أو أراد به الدنيا وعاجلها فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر.
أيها الناس: إن من سار على هذا النهج سلم من كثير من الآفات، وسعد في الدارين، وبعد عن مزالق الشيطان، وأثمرت محبة الله في قلبه، فأضاء قلبه، وسلك الصراط المستقيم.
اللهم اجعلنا ممن يحاسب نفسه، ويسلك بها طريق الخير يا رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ...
معاشر المؤمنين: لقد كان سلفنا الصالح يحاسبون أنفسهم على كل صغيرة وكبيرة، وكأن نفوسهم ليست لهم بل كأنها غريم يطالبونه بالسداد، أو أجيرٌ يراقبونه على عمله.
كما قال ميمون بن مهران رحمه الله: "لا يكون الرجل تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه".
هذا ولقد تكاثرت النصوص عن سلف الأمة في محاسبتهم لأنفسهم، وحث الناس على ذلك، ولنمر على بعضها سريعا:
فها هو أبو بكر الصديق -رضى الله عنه- يدخل عليه ابن مسعود فيجده قد أمسك بلسانه وهو يقول: "هذا الذي أوردني الموارد".
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يوما وخرجت معه حتى دخل حائطا فسمعته يقول -وبيني وبينه جدار «عمر أمير المؤمنين- بخ بخ، والله بُنَيَّ الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك" (الزهد للإمام أحمد).
وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له: "أتتركون الخليفة حين يكون فارغا حتى إذا شغل بأمر المسلمين أتيتموه"؟ وضربه بالدرة، فانصرف الرجل حزينا، فتذكر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرة، وقال له: "اضربني كما ضربتك" فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك، فقال عمر: "إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقك" فقال الرجل: تركته لله، فانصرف عمر إلى منزله فصلى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: "يا ابن الخطاب كنت وضيعا فرفعك الله، وضالا فهداك الله، وضعيفا فأعزك الله، وجعلك خليفة فأتى رجل يستعين بك على دفع الظلم فظلمته؟!! ما تقول لربك غدا إذا أتيته؟ وظل يحاسب نفسه حتى أشفق الناس عليه" (مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب) لابن الجوزي).
وقال إبراهيم التيمي: "مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، قلت لنفسي: يا نفس، أي شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً! قلت: فأنت في الأمنية فاعملي" (الزهد للإمام أحمد).
وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال: كنت أصحبه فكان عامة صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحس بالنار ثم يقول لنفسه: "يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟" (ذم الهوى).
وكان عمر بن عبد العزيز شديد المحاسبة لنفسه قليل الكلام، وكان يقول: "إنه ليمنعني من كثير من الكلام مخافة المباهاة" (سير أعلام النبلاء للذهبي).
ونقل عن ابن الصمة: أنه جلس يوماً ليحاسب نفسه فعد عمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي واحد وعشرون ألفا وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: "يا ويلتي! ألقى الملك بواحد وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب"؟!! ثم خر فإذا هو ميت!! فسمعوا قائلا يقول: يا لك ركضةٌ إلى الفردوس الأعلى.
فهكذا ينبغي أن يحاسب العبد نفسه على الأنفاس، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كل ساعة، ولو رمى العبد بكل معصية حجراً في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة قريبة من عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي، والملكان يحفظان عليه ذلك "أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ" [المجادلة:6] (الإحياء).
وقال عبد الله بن قيس: "كنا في غزاة لنا فحضر العدو، فَصِيح في الناس فقاموا إلى المصاف في يوم شديد الريح، وإذا رجل أمامي وهو يخاطب نفسه ويقول: "أي نفسي! ألم أشهد مشهد كذا فقلت لي: أهلك وعيالك؟!! فأطعتك ورجعت! ألم أشهد مشهد كذا فقلت لي: أهلك وعيالك؟!! فأطعتك ورجعت! والله لأعرضنك اليوم على الله أخذك أو تركك، فقلت: لأرمقنك اليوم، فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا (أي هربوا) فكان في موضعه، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتل؛ فوالله ما زال ذلك به حتى رأيته صريعاً، فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة" (الإحياء).
اللهم ايقضنا من الغفلات قبل الممات، اللهم اغفر للمسلمين...