الوتر
كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد آل يحيى الغامدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | كتاب الجهاد - أركان الإيمان |
لقد وعد الله عباده المؤمنين بوعود جاءت في القرآن الكريم وعلى لسان سيد المرسلين، وجعل هذه الوعود مرتبة على شروط شرعية, فمن حقق الشرط فقد استحق الوعد، وإن الشرط الأكبر الذي رتب الله -تعالى- عليه جميع وعوده هو...
الخطبة الأولى:
إن الله لا يخلف الميعاد، وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
لقد وعد الله عباده المؤمنين بوعود جاءت في القرآن الكريم وعلى لسان سيد المرسلين، وجعل هذه الوعود مرتبة على شروط شرعية, فمن حقق الشرط فقد استحق الوعد، وإن الشرط الأكبر الذي رتب الله -تعالى- عليه جميع وعوده هو: تحقيق الإيمان.
الإيمان بالله -تعالى- كما أراد الله -تعالى-.
إن الذي ينظر في واقع المسلمين اليوم ليعلم أن الأمة بمجموعها بعيدة عن الإيمان الصحيح الذي كان عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا قليلا من المؤمنين.
إننا لا نرى وعود الله تتحقق في واقع الأمة، وحاشا لله أن يخلف الموعد ولكن الأمة هي التي ابتعدت عن طريق الإيمان، يعد المسلمون بالملايين ولكن المؤمنين الصادقين يعدون بالمئات, ولا يستوي المسلم والمؤمن، فالله -تعالى- قد حكم لأناس بالإسلام وهم غير مؤمنين، كما قال تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون) [الحجرات: 14 - 15].
فالإيمان تصديق القلب بالله وبرسوله.
التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب.
التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب، ولا تهجس فيه الهواجس، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور.
والذي ينبثق منه بعد ذلك العمل والجهاد بالمال والنفس في سبيل الله.
فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان، واطمأن إليه، وثبت عليه، لا بد وأن يندفع لتحقيق حقيقته خارج القلب، في واقع الحياة، في دنيا الناس، يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان، وما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور وواقع الحياة، ولا يطيق الصبر على المفارقة بين الصورة الإيمانية التي في حسه، والصورة الواقعية من حوله، يريد أن يحقق الصورة الوضيئة التي في قلبه، ليراها ممثلة في واقع الحياة.
وقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال: 2- 4]، نعم، المؤمنون حقا هم الذين يستحقون الوعود التي وعد الله -تعالى- بها، فما هي هذه الوعود؟
الوعد الأول: لقد وعد الله -تعالى- عباده المؤمنين بالنجاة في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 103].
إنها الكلمة التي كتبها الله على نفسه، أن تبقى البذرة المؤمنة، وتنبت وتنجو بعد كل إيذاء، وكل خطر، وبعد كل تكذيب، وكل تعذيب.
وقال تعالى عن نبيه يونس -عليه السلام-: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 88].
(وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) كما أنجينا يونس، وأخرجناه من بطن الحوت، فإننا ننجي كل مؤمن، ونخرجه من كل كرب.
وقال تعالى: (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [فصلت: 18].
قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "انتدب الله لمن يخرج في سبيله لا يخرجه إلا الإيمان بي والجهاد في سبيلي، أنه علي ضامن حتى أدخله الجنة بأيما كان، بقتل أو وفاة، أو أرده إلى مسكنه الذي خرج منه مع أجر أو غنيمة".
الوعد الثاني: الأمن في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82] الذين آمنوا وأخلصوا أنفسهم لله، لا يخلطون بهذا الإيمان شركا في عبادة، هؤلاء لهم الأمن، وهؤلاء هم المهتدون.
وقال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) [النــور: 55]، ونعمة الأمن في الدنيا والآخرة، هي من أعظم النعم التي لا تتحقق إلا بالإيمان.
الوعد الثالث: التمكين في الأرض، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النــور: 55].
ذلك وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد أن يستخلفهم في الأرض، وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ذلك وعد الله، ووعد الله حق، ووعد الله واقع، ولن يخلف الله وعده.
بهذا الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه، وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا، بهذا الإيمان يتحقق التمكين في الأرض.
إن التمكين في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح، لا على الهدم والإفساد، وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر، وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان!
هذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض، كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم، ليحققوا النهج الذي أراده الله؛ ويقرروا العدل الذي أراده الله.
الوعد الرابع: النصر على الأعداء، قال تعالى: (فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47].
وسبحان الذي أوجب على نفسه نصر المؤمنين؛ وجعله لهم حقا، فضلا وكرما، وأكده لهم في هذه الصيغة الجازمة التي لا تحتمل شكا ولا ريبا، وكيف والقائل هو الله القوي العزيز الجبار المتكبر، القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، يقولها سبحانه معبرة عن إرادته التي لا ترد، وسنته التي لا تتخلف، وسلطانه الذي يحكم الوجود.
وقد يبطئ هذا النصر أحيانا -في تقدير البشر-؛ لأنهم يحسبون الأمور بغير حساب الله، ويقدرون الأحوال لا كما يقدرها الله، والله هو الحكيم الخبير، يصدق وعده في الوقت الذي يريده ويعلمه، وفق مشيئته وسنته، وقد تتكشف حكمة توقيته وتقديره للبشر وقد لا تتكشف.
ولكن إرادته هي الخير وتوقيته هو الصحيح، ووعده القاطع واقع عن يقين، يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين، فإن لم يكن النصر في الدنيا كان في الاخرة؛ كما قال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر: 51 - 52].
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 171 - 173].
والوعد واقع، وكلمة الله قائمة، ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض، وقام بناء الإيمان، على الرغم من جميع العوائق، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمصلحين.
هذه بصفة عامة، وهي ظاهرة ملحوظة في جميع بقاع الأرض في جميع العصور.
وهي كذلك متحققة في كل دعوة للهن يخلص فيها الجند، ويتجرد لها الدعاة، إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق، وقامت في طريقها العراقيل، ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار، وقوى الدعاية والافتراء، وقوى الحرب والمقاومة، وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها، ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله، والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه، الوعد بالنصر والغلبة والتمكين.
هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية، سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها؛ وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان؛ ولكنها مرهونة بتقدير الله، يحققها حين يشاء.
ولقد تبطئ آثارها الظاهرة ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف, ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك، وتدور عليهم الدائرة، ويقسو عليهم الابتلاء؛ لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر.
ولأن الله يهيئ الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع، وفي خط أطول، وفي أثر أدوم.
لقد سبقت كلمة الله، ومضت إرادته بوعده، وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 171 - 173]، وهذا لا يتحقق إلا بالإيمان.
الوعد الخامس: رغد العيش، والحياة الطيبة، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96].
قد ينظر بعض الناس فيرى أمماً -يقولون: إنهم مسلمون- مضيقاً عليهم في الرزق، لا يجدون إلا الجدب والمحق!
ويرى أمماً لا يؤمنون ولا يتقون، مفتوحاً عليهم في الرزق والقوة والنفوذ، فيتساءل: وأين إذن هي السنة التي لا تتخلف؟ وهذا لا شك وهم تخيله ظواهر الأحوال، وسوء فهم لآيات الكون.
إن أولئك الذين يقولون: إنهم مسلمون! لا يتحقق في أكثرهم أنهم مؤمنون ولا متقون! ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مؤمنين حقاً، دانت لهم الدنيا، وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض، وتحقق لهم وعد الله.
إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى، بركات في الأشياء، وبركات في النفوس، وبركات في المشاعر، وبركات في طيبات الحياة، بركات تنمي الحياة وترفعها في آن واحد، وليست مجرد وفرة في المال مع الشقاء والتردي والانحلال، وإنما هي الحياة الطيبة التي قال الله فيها: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]، نعم وهو مؤمن فبغير هذا الشرط, وبغير هذه القاعدة لا يقوم بناء.
إن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض، لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال، فقد تكون به، وقد لا يكون معها.
وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية، فيها الاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه.
وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة، وسكن البيوت، ومودات القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة، وليس المال إلا عنصرا واحدا يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله، فالحياة الطيبة مع الإيمان والإيمان مع الحياة الطيبة.
الوعد السادس: الرزق الكريم المغفرة والجنة، ولو لم يكن للإيمان من ثمرة إلا هذا لكفى، فرضى الله منية نفوس المؤمنين وهدف العاملين وبغية المصلحين.
والجنة هي قمة النعيم وفي سبيلها يرخص الغالي وتبذل النفوس والأموال، قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً) [النساء: 122].
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال: 74].
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 82].
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي جاءت بجزاء المؤمنين ومدحهم.
أسأل الله -تعالى- أن يجعلني وإياكم من المؤمنين حقا، وأن يرزقنا جنات النعيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين...
(إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 111].
هذه حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين باللّه، حقيقة البيعة التي أعطاها المؤمن لربه طوال حياته، فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف المؤمن، وتتمثل فيه حقيقة الإيمان، وإلا فإن إيمانه دعوى تحتاج إلى دليل.
حقيقة هذه البيعة -أو هذه المبايعة كما سماها اللّه كرماً منه وفضلاً وسماحة- أن اللّه -سبحانه- قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم؛ فلم يعد لهم منها شيء، لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله، لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا، كلا إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفت ولا يتخير، ولا يناقش ولا يجادل، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام، والثمن: هو الجنة، والطريق: هو الجهاد بالمال والنفس، والنهاية: هي النصر أو الاستشهاد: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ)، من بايع على هذا، من أمضى عقد الصفقة، من ارتضى الثمن ووفى، فهو المؤمن، فالمؤمنون هم الذين اشترى اللّه منهم فباعوا، ومن رحمة اللّه أن جعل للصفقة ثمنا، وإلا فهو واهب الأنفس والأموال، وهو مالك الأنفس والأموال، ولكنه كرم هذا الإنسان فجعل له الخيار في هذه الصفقة.
وإنها لبيعة رهيبة، بيعة في عنق كل مؤمن قادر لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه.
ولقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين على عهد رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-، فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم؛ ولم تكن مجرد معان يتأملونها بأذهانهم، أو يحسونها مجردة في مشاعرهم، كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها، لتحويلها إلى حركة منظورة، لا إلى صورة متأملة.
هكذا أدركها عبد اللّه بن رواحة -رضي اللّه عنه- في بيعة العقبة الثانية عندما قال لرسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-: "اشترط لربك ولنفسك ما شئت"، فقال: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً؛ وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم" قال: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال: الجنة"، قالوا: ربح البيع، والله لا نقيل ولا نستقيل".
هكذا: "ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل"، لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين؛ انتهى أمرها، وأمضي عقدها، ولم يعد إلى مرد من سبيل: "لا نقيل ولا نستقيل"، فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار؛ والجنة ثمن مقبوض لا موعود! أليس الوعد من اللّه؟ أليس اللّه هو المشتري؟ أليس هو الذي وعد الثمن، وعداً قديماً في كل كتبه: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ) [التوبة: 111].
أجل (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ)؟
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن، كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين اللّه، إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ) [البقرة: 251].
(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا) [الحـج: 40] ما دام في الأرض باطل، وما دامت في الأرض عبودية لغير اللّه تذل كرامة الإنسان، فالجهاد في سبيل اللّه ماض، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء، وإلا فليس بالإيمان: "ومن مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من النفاق".
(فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 111]، استبشروا بإخلاص أنفسكم وأموالكم للّه، وأخذ الجنة عوضاً وثمناً، كما وعد اللّه، وما الذي فات؟ ما الذي فات المؤمن الذي يسلم للّه نفسه وماله ويستعيض الجنة؟
واللّه ما فاته شيء، فالنفس إلى موت، والمال إلى فوت، سواء أنفقهما صاحبها في سبيل اللّه أم في سبيل سواه! والجنة كسب، كسب بلا مقابل في حقيقة الأمر ولا بضاعة! فالمقابل زائل في هذا الطريق أو ذاك!
ودع عنك رفعة الإنسان وهو يعيش للّه، ينتصر -إذا انتصر- لإعلاء كلمته، وتقرير دينه، وتحرير عباده من العبودية المذلة لسواه، والإيمان ينتصر فيه على الألم، والعقيدة تنتصر فيه على الحياة.
إن هذا وحده كسب، كسب بتحقيق إنسانية الإنسان، فإذا أضيفت إلى ذلك كله الجنة، فهو بيع رابح يدعو إلى الاستبشار؛ وهو فوز لا ريب فيه ولا جدال: (فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 111].
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها اللّه على الجنة، واشترى منها الأنفس والأموال، لتمضي مع سنة اللّه الجارية منذ كان دين اللّه، جهاد في سبيل اللّه بالمال والنفس والوقت والقلم واللسان والسنان.
ليست الحياة لهواً ولعباً، وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعاً، وليست الحياة سلامة ذليلة، وراحة بليدة ورضا بالسلم والذل والخضوع، إنما الحياة كفاح في سبيل الحق، وجهاد في سبيل الخير, وانتصار لإعلاء كلمة اللّه، أو استشهاد كذلك في سبيل اللّه، ثم الجنة والرضوان.
هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون باللّه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال: 24].
أيها المؤمن: إن الله -تعالى- قد وهبك النفس والمال، ثم اشتراها منك، ثم استخلفك عليها، وجعلها أمانة عندك، فالمؤمن لا يملك نفسه، ولا يملك ماله، ولا يستطيع أن يتصرف فيهما إلا بما أذن الله فيه.
والذي يتبع نفسه هواها، وينفق أوقاته وأمواله فيما لا يرضي الله، فهو خارج من هذه الصفقة، منحل من هذه البيعة.
والكثير منا لا يعطي من نفسه لله، ولا يعطي من ماله لله، ولا يعطي من وقته لله، ولا يعطي من لسانه لله، ولا يعطي من قلمه لله، ولا يعطي من علمه لله، ولا يعطي من عقله لله، فكيف يستحق وعد الله وكيف يستحق جزاء الله وجنة الله، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة، على أننا نرجو للمحسن الموحد ونخاف على المسيء المفرط؟