الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - الأديان والفرق |
إن من أبلغ صور الإهانة أن يرمى شخص بأن فيه شبهاً من اليهود، وحُقَّ للإنسان أن يغضب إذا شُبّه بهذه الأمة البغيضة الملعونة على ألسنة رسلها، بل التي لعنها ربها عز وجل. ولكن كم نحن بحاجة أن نكون منصفين مع أنفسنا.. لننظر هل فينا شيء من هذه الصفات أم لا؟ فإننا وإن سَلِمْنَا من رمي أحد لنا بصفة من هذه الصفات، فلن نسلم من آثارها السيئة، وعقوباتها التي تصل إلى القلب، وإلى حياتنا كلها.. أيها المسلمون! إليكم شيئاً من هذه الصفات التي عرفوا بها، واشتهروا بها حتى صارت سمةً من سماتهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن من أبلغ صور الإهانة أن يرمى شخص بأن فيه شبهاً من اليهود، وحُقَّ للإنسان أن يغضب إذا شُبّه بهذه الأمة البغيضة الملعونة على ألسنة رسلها، بل التي لعنها ربها عز وجل.
ولكن - أيها الأحبة - كم نحن بحاجة أن نكون منصفين مع أنفسنا.. لننظر هل فينا شيء من هذه الصفات أم لا؟
فإننا وإن سَلِمْنَا من رمي أحد لنا بصفة من هذه الصفات، فلن نسلم من آثارها السيئة، وعقوباتها التي تصل إلى القلب، وإلى حياتنا كلها..
أيها المسلمون! إليكم شيئاً من هذه الصفات التي عرفوا بها، واشتهروا بها حتى صارت سمةً من سماتهم:
1- كتمان الحق:
قال تعالى: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 42].
وإليك مثلاً تطبيقياً من تلطخهم بهذه الجريمة:
أُتِيَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيهودي ويهودية قد زنيا، فقال لهم -صلى الله عليه وسلم-: "ما تجدون في كتابكم"؟ قالوا: إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبية، قال عبد الله بن سلام: ادعهم يا رسول الله بالتوراة، فأتي بها فوضع أحدهم يده على آية الرجم، وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له ابن سلام: ارفع يدك فإذا آية الرجم تحت يده، فأمر بهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرجما".
وفي قصة قتلهم للبقرة، قال الله عنهم: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)[البقرة: 72]! وما أكثر الأدلة على تلبسهم بهذه الجريمة!
وقال عز وجل: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)[آل عمران: 187].
والسؤال - أيها الإخوة -: كم هم الذين يتلبسون بهذه الجريمة العظيمة من المسلمين؟! سواء ممن عنده أثارة من علم، أو عنده شهادة بحق لو لم يشهدها لضاع الحق، أو غير ذلك من صور الكتمان؟! (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ)[البقرة: 140].
ومن أخص صفاتهم القبيحة: الحسد:
استمع إلى وصف ربك لهم: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)[البقرة: 109].
ويقول جل وعلا: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[النساء: 54].
ففتش عن قلبك -أيها المؤمن- هل أنت ممن يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؟! أم أنت من الذين إذا رأوا خيراً على إخوانهم المسلمين، دعوا لهم، وسألوا الله الكريم من فضله؟!
ومن صفاتهم القبيحة: أكل الربا:
قال الله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْه)[النساء: 160، 161].
فكم في أمة الإسلام من أناس يستجلبون لعائن الله إلى أنفسهم بأكلهم الربا؟ بل ويضعون أنفسهم في خندق حرب مع الله ورسوله؟! إنها عبادة المال التي أعمت اليهود ومن شابههم عن التفكير في مصدر أموالهم أهي مما يحل أو يحرم؟! فهم جماعون للمال، بخلاء في إنفاقه، ولذلك لو فتشت فيمن عرفوا بأكل الربا لم تكد تجد لهم دعماً لمشاريع الخير، وهذا من الداء المركب في عباد المال: حرص على الجمع، وبخل في إنفاقه، وسبحان من وصفهم بقوله: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا)[النساء: 53]!
ومن صفاتهم القبيحة: أخذ الرشوة:
استمع إلى قول الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ)[التوبة: 34].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وذلك أنّهم يأكلون الدّنيا بالدّين، ومناصبهم ورياستهم في النّاس، يأكلون أموالهم بذلك كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهليّة شرف، ولهم عندهم خراج وهدايا وضرائب تجبى إليهم"(تفسير ابن كثير: 4/ 138).
وقد فسر جمع من أهل العلم قوله تعالى - عن اليهود -: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[المائدة: 62، 63] فسروه بأن أكل السحت: هو أخذ الرشوة!
والمتأمل في الواقع يجد أمراً يمض الفؤاد، ويُقَرِّحُ الكبد ألماً على ما آل إليه أمر الرشوة في الوزارات والإدارات الحكومية!
وهذا كما أنه خيانة لله ورسوله، وغش لولي الأمر والأمة، فهو أيضاً جريان في ركاب اليهود الذين كانوا يتحايلون في جمع المال بأي وسيلة كانت!
ومن أخص صفاتهم القبيحة: التحايل على حرمات الله:
ومن أظهر الأمثلة على ذلك - مع كثرتها - قصة أصحاب السبت، الذين حرم عليهم صيد السبت في ذلك اليوم، فابتلاهم اللّه وامتحنهم، فكانت الحيتان تأتيهم (يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا)[الأعراف: 163] أي: كثيرة طافية على وجه البحر (وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ)[الأعراف: 163] أي: إذا ذهب يوم السبت (لَا تَأْتِيهِمْ)[الأعراف: 163] أي: تذهب في البحر فلا يرون منها شيئاً (كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)[الأعراف: 163] ففسقهم هو الذي أوجب أن يبتليهم اللّه، وأن تكون لهم هذه المحنة، وإلا فلو لم يفسقوا، لعافاهم اللّه. (ينظر: تفسير السعدي، ص306).
يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "وقد عاتب الله من أسقط الواجبات واستحل المحرمات: بالحيل والمخادعات كما ذكر ذلك في سورة" ن"، وفي قصة أهل السبت، وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" (مجموع الفتاوى 29/336).
ويقول ابن القيّم -رحمه الله-: "سالك طريق الخداع والمكر عند الناس أمقت، وفي قلوبهم أوضع، وهم عنه أشد نفرة ممن أتى الأمر على وجهه ودخله من بابه ولهذا قال أيوب السختياني - وهو من كبار التابعين وساداتهم وأئمتهم في هؤلاء -: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل عليهم" (إعلام الموقعين: 3/ 149).
وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: "هذه الحيل التي وضعها هؤلاء عمدوا إلى السنن فاحتالوا في نقضها، أتوا إلى الذي قيل لهم: إنه حرام فاحتالوا فيه حتى حللوه"! وقال رحمه الله:"ما أخبثهم - يعني أصحاب الحيل - يحتالون لنقض سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" (إعلام الموقعين: 4/ 177).
ففتش في نفسك - أيها المؤمن - وفتش في واقع الناس اليوم: كم في الناس من يتحايل في أمور البيوع، وأمور النكاح والطلاق، من أجل أن يصل إلى مبتغاه، ولو كان ذلك بهذه الطريقة اليهودية الخبيثة، أعاذني الله وإياكم من طريقهم، وسلك بي وبكم سبيل المتقين.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه،وبسنة خير أنبيائه...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ومن أخص صفاتهم القبيحة: ترك العمل بالعلم:
وهي الصفة التي أمرنا ربنا أن نستعيذ منها ومن سبيل أهلها في اليوم والليلة أكثر من 17 مرة، ألسنا نقرأ:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)[الفاتحة: 6، 7]؟!
ألسنا نسمع في كل جمعة تقريباً قول الله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[الجمعة: 5]؟
ولا يظنن أحدٌ أن هذه خاصةٌ بأهل العلم.. بل هي شاملة لكل من علم شيئاً من الشرع ولم يعمل! فيا طالب العلم.. فتش عن قلبك وعملك..
ويا كُلّ مسلم عَلِمَ حكماً من الأحكام.. فتش عن قلبك..
أيها المسلم: كم من معصية علمتَ حكمها منذ زمن، ولا زلتَ تصر عليها؟ وكم من واجب أدركتَ وجوبه ولا زلت تصر على تركه؟!
وإذا لم يكن هذا هو ترك العمل بالعلم، فما هو إذن؟!
ومن أخص صفاتهم القبيحة: نقض العهود:
قال تعالى: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ)[النساء: 154 ،155].
وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[المائدة: 12، 13].
وليس المقام مقام ذكر لصور نقض العهد، فهي كثيرة لا تحصى..
ولكنني أشير إلى معنى دقيق ولطيف نبَّه إليه العلامة: أبو الوفاء بن عقيل، لا يتفطن له إلا القليل، يقول: - وهو في أحد مواعظه -: "يا من يجد في قلبه قسوة، احذر أن تكون نقضت عهداً فإن اللّه تعالى يقول: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُم لَعَنَاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة)!
فيا هذا.. يا من يجد في قلبه قسوة حالت بينه وبين التلذذ بالطاعة، أو التأثر بالقرآن، أو حالت بينه وبين دموع تغسل صدأ القلب، وتُذهب وحشة الفؤاد: تفقد قلبك.. وراجع عهودك مع ربك, فلعلك عاهدت ثم نقضت، فوجدت من القسوة ما وجدت.. ولا يظلم ربك أحداً.