البحث

عبارات مقترحة:

القدير

كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...

المتكبر

كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...

الخالق

كلمة (خالق) في اللغة هي اسمُ فاعلٍ من (الخَلْقِ)، وهو يَرجِع إلى...

الطلاق بين أناة الشرع واستعجال الأزواج (2/2)

العربية

المؤلف عمر بن عبد الله المقبل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. وسائل الحد من ظاهرة الطلاق والتخفيف منها .

اقتباس

مما يخفِّف نسبة الطلاق: تطبيق سنة الرؤيةِ الشرعية قبل الزواج، فقد ثبت بالأرقام وفي الواقع أن عدداً من المطلِّقين اعتمد على وصفِ غيره، فلما دخل فإذا الخُبْرُ ليس كالخَبَر؛ فحصلت النُّفرة، ووقعت الرغبةُ في الطلاق والانفصال! ولقد...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله...

أما بعد:

فقد كان الحديث في الخطبة الماضية عن: "أسباب وقوع الطلاق والاستعجال فيه"، بعد إعلان الجهات الرسمية لتلك الأرقام المروّعة، عن انتشار هذه الظاهرة.

وما من شكٍّ أن حصرَ الأسبابِ يعين على تلمّس العلاج، فما من سببٍ للمشكلة إلا ويتضمن علاجاً، وذلك بترك ذلك السبب الذي تسبب في الطلاق، أو تخفيفه على الأقلّ.

ولعلنا في هذا المقام نُجمل الحديثَ عن أهمِّ الأسباب التي تُعين على تقليص نسبة الطلاق في المجتمع، إذْ الضررُ بانتشاره لا يعود على الزوجين فحسب، بل على أسرتي الزوجين وأولادهما، والمجتمع بأسْره.

فمما يعين على تخفيف هذه النِّسَب:

1- أن يعرف كلٌ من الزوجين ما له من حقوقٍ وما عليه من واجبات؛ فإن الجهل بذلك أحدث شَرخاً في حياةِ كثيرٍ من الأزواج، فمثلاً: من حقوق الزوج: القوامة، والسمع والطاعة له بالمعروف، ورعاية شؤون المنزل، ومن حقوق الزوجة: النفقة عليها، والمعاشرة بالمعروف، ورعاية البيت مع الزوج.

فإذا عرف الزوجان هذه الحقوق وقاما بها؛ ستجد أن دائرةَ الشِّقاق ستنحسر، فلن يغضبَ الزوجُ حين تطالبه الزوجةُ بعدم السهر خارجَ البيت لغير حاجة، ولن يَغضب حين تطالبه بالنفقة، فإن كان معدّداً: لن يغضب إن طولب بالعدل.

وقُل مثل هذا فيما على الزوجة: فلن تغضب إذا قام الزوجُ بواجبِ القوامة في منعها من بعض الأشياء التي يرى المصلحةَ في منعها، أو أمر ونهى بما يحقِّق المصلحةَ للبيت، دون إفراطٍ أو تفريط، وهكذا.

2- ومما يخفِّف نسبة الطلاق: تطبيق سنة الرؤيةِ الشرعية قبل الزواج، فقد ثبت بالأرقام وفي الواقع أن عدداً من المطلِّقين اعتمد على وصفِ غيره، فلما دخل فإذا الخُبْرُ ليس كالخَبَر؛ فحصلت النُّفرة، ووقعت الرغبةُ في الطلاق والانفصال! ولقد بيّن الناصحُ الأمين -صلى الله عليه وسلم- الحكمةَ في الأمر بالنظر، فقال: "فإنه أحرى أن يُؤدَمَ بينكما" [صحيح ابن حبان ح(4043)، وسنن الترمذي ح(1087)، سنن النسائي ح(3235)]، فانظروا -يا عباد الله- كم فات أولئك الذين تركوا هذه السنة من خير عليهم!

ويتأكد العمل بهذه السنة اليوم، في ظل هذا الانفتاح الإعلامي، الذي جعل بعض الأزواج يضع في ذهنه صورة مثالية للجمال الذي يحب أن تكون عليه زوجته!

ومع اليقين بأن الجمال مطلب فطري، لكن ليس من العقل المبالغة في تطلب صورة معيّنة، مع العلم أن أجمل امرأة في العالم لو قدر للإنسان أن يتزوجها، فسيذهب بهاء جمالها مع الأيام بسبب كثرة المماسة والمشاهدة، ولن يبقى إلا جمال الروح: "فاظفر بذات الدِّين تَربت يداك" [رواه البخاري ح(5090)، ومسلم ح(1466)].

ومن الخطأ في هذا الباب: ظنُّ بعضِ الناس أن النظر حاجةٌ للرجل، بل هو حاجةٌ للطرفين، فقد ترى المرأة ما لا يعجبها من الخاطب، وإنهاء الأمر من أول الأمر أهون منه بعد الدخول.

وإن تيسر أن يتحدثا إلى بعضهما شيئاً من الوقت بدون خلوة، فهذا حسنٌ إذ اللسان يكشف جمال المنطق وطريقة التفكير، وهو محقِّق للحكمة الشرعية: "فإنه أحرى أن يؤدم بينكما".

3- وحين نتحدث عن الظفر بذات الدين، فإن مما يخفف نسبة الطلاق: الحرص على هذا الوصف كثيراً، ذلك أن بعض الخُطاب يُغلّب جمالَ الظاهر على حساب الباطن، ويقول: تصلح بعدين! أو تقول الفتاة وأهلها -إذا تقدّم مَن ليس على قدْر مقبولٍ من التديّن-: يصلح بعدين! وكأن الحياة الزوجية ميدانٌ للتجارب! لا -يا عباد الله- الزواجُ ليس ميداناً لهذا، ولئن كان الزوجُ قد يطلّق ويجد من يزوّجه بعدُ، فليس الحالُ في مجتمعنا -وكثيرٌ من المجتمعات الإسلامية- مع المرأة بهذه السهولة.

الصالحُ والصالحةُ يعظّمون عقدَ الزوج لا خوفًا من الطلاق، بل خوفًا من الله.

الصالح والصالحةُ يعظّمون عقدَ الزوجية لعلمهم بأن هذا هو صمّام الأمان لاستقامة عيشِهم، وصلاح ذريتهم.

الصالحُ والصالحةُ يحرص كلٌّ منهما على أداء واجباته رغبةً في الأجر، يجتهد في ذلك قبل مطالبته بحقوقه.

الصالحةُ تحفظ زوجَها وإن غاب مدةً من الزمن، بل تحفظه في أولاده بعد وفاته: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) [النساء: 34].

4- ومما يعين على تخفيف نِسبة الطلاق: تركُ المقارنات بين البيوت -كما ذكرتُ في الخطبة السابقة- فإن مما أضرّ ببعض البيوت: ما تفعله بعضُ النساء من المقارنة بين حياة أختِها، أو زوجةِ أخيها، أو زوجةِ الجيران أو الأصدقاء، مع أن طبيعةَ زوجها المادية والاجتماعية قد تختلف، فحتى تَسودَ السعادة، وليَعيْش الزوجان حياتهم كما هي؛ فليتركوا المقارنة، وهذا لا يمنع من إبداءِ الرغبة في السفر -مثلاً- أو شراء شيءٍ ما، لكن دون دخولٍ في مقارناتٍ تشعر الرجل أنه ضعيف  أو أنه عاجز، مما يسبب جرحًا معنويًا له، قد يترجمه بالطلاق!

5- ومما يخفِّف الطلاقَ ويقلل نِسبته: حصر المشكلات الزوجية داخل سورِ البيت، أو إن شئتَ فقل داخل غرفة الزوجين، وعدم إقحام أحدٍ من الخارج إلا عند الضرورة.

والعاقل يعلم أن المشكلات المعتادة لم يَسلَم منها بيتُ النبوة، فقد هجر النبي -صلى الله عليه وسلم- نساءه شهراً، حتى ظن بعض الناس أنه صلى الله عليه وسلم طلقهن، ورأى صلى الله عليه وسلم ما تصنعه الغيرة بين نسائه، في قصص كثيرة معلومة، فكيف يظنّ بعض الناس أن يسلم بيته من ذلك؟

وههنا ينبغي أن يعلم الزوجان: أن ليس من الحكمة أن تكون كلُّ صغيرة وكبيرة محلاً للجدال والنقاش، بل لا بد من التغافل، فالعافية فيه -كما قال الإمام أحمد بن حنبل-، وانظر ماذا قال هذا الإمام الجليل عن زوجته -بعد أن ذكرها وترحم عليها-: "مكثنا عشرين سنة، ما اختلفنا في كلمة" [سير أعلام النبلاء (11/ 332)].

وهل تظنّ أن قصد الإمام أنه لم يحصل بينهم اختلاف في وجهات النظر في بعض المسائل البيتية؟

كلا، لكنه التفاهم حيناً، والتغافل وعدم الوقوف عند الأمور الصغيرة، وتقبّل الزوج والزوجة لكل واحدٍ منهما، واحتمال الفروق الفردية.

ولئن كان غياب الحوار في الحياة -أحد أبرز أسباب الطلاق- فإن تفعيله فيها مما يخفف كثيرا، كما أشرت إليه في الخطبة السابقة، وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حاور عائشة حين وقعت قضية الإفك، فأي مشكلة في الدنيا أعظم منها؟

أيها المسلمون:

6- وإذا كان الترف الذي تربت عليه كثير من الفتيات سبباً في ازدياد نسبة الطلاق، فالحلّ الذي يخفف هذا: تربية الأجيال على تحمل المسؤولية، قبل الزواج، من الطرفين، وخاصة من قبل الفتاة.

إن ترك الفتاة همَلاً بحجة عدم الإثقال عليها، ورمي جميع المسؤوليات للخادمة أو للأم، سيخرج جيلاً لا يقدّر حق القدر الحياة الزوجية، ولا يقدر قوله صلى الله عليه وسلم: "والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها" [رواه البخاري ح(893)].

وأنّى لجيلٍ ناعم أن يتحمل حياةً فيها من الخشونة والتعب ما فيها؟!

7 - ومما يخفف مشكلة الطلاق: دراسة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع زوجاته، وكيف كان تعامله معهن، مع اختلاف المشاكل وتنوع الأحوال، والنظر في كيفية ترجمته العملية؛ لقوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[النساء: 19]، ولقوله هو صلى الله عليه وسلم: "لا يفرك مؤمن مؤمنة..." [رواه مسلم ح(1469)].

ألا ما أحسن مبادرةَ الزوجين بعد البناء والدخول، وقبل وقوع المشكلات، على عقد جلساتٍ إيمانية، يُقرأُ فيها القرآنُ وشيءٌ من حديثِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والموضوعات ذات العلاقة بحياته الزوجية، فلذلك أثرٌ حسن.

8- وتبعاً للعلاج الماضي: ينبغي أن يَسبق الحياةَ الزوجية التحاقُ الزوجين جميعاً بدورة أو أكثر من الدورات التثقيفية للزوجين، فلقد ثبت بالأرقام أثرُ هذه الدورات على تخفيف نسبة الطلاق، بل وبأثرِهَا الحسن على إدخال السعادة على الحياة الزوجية.

ولئن كان الإنسانُ في منطقةٍ لا توجد فيها جمعيات تُقيم أمثالَ هذه الدورات؛ فإن في الشبكة العالمية -وعلى موقع اليوتيوب- دوراتٍ متميزة، مصورة ومسموعة، يمكن للزوجين استماعها، والإفادة منها.

ومن الخطأ البيّن الذي يرتكبه بعضُ الأزواج: ظنّهم أنهم في غنىً عن التثقيف في هذا الجانب، بحجة أنهم يعرفون كلّ شيء! وهذا يشير إلى معضلةٍ كبرى في ادّعاء المعرفة ممن هو خال منها!

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...

أقول قولي هذا، وأستغفر الله...

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على عبده ورسوله ومصطفاه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

9- فإن مما يضيّق دائرةَ الطلاق: الابتعاد عن مثيرات المشكلات، فإذا عَلم أحدُهما حساسيةَ الطرف الآخر من شيءٍ فلبيتعد، وعدم استشارته، وليبحث عن أسلوبٍ آخر يحلّ به المشكلة، ويتحدث عنها.

ومن ذلك: تجنّب النقاش حالَ تكدُّر الخاطر، أو عدم مناسبة الوقت، ونحو ذلك، فإن الجدال إذا وقع في مثل هذه الأحوال، انتقل من كونه نقاشاً مفيداً إلى جدلٍ يراد منه الانتصار لطرفٍ على حساب الآخر، والأعظم أجراً والأكبر عقلاً هنا: هو مَن يَحرص على أن يَسلك أقربَ طريقٍ للخروج الآمن.

10- ومما يعين على تخفيف نسبة الطلاق: عدم مدّ الزوجةِ عينَيها الى متاعِ الدنيا، فإنه يؤدي أحيانًا الى ازدراء نِعَم الله عليها، واستمع بقلب وأُذن: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه: 131 - 132].

إننا اليوم -أيها الأحبة- ومع انتشار مواقع التواصل -كالانستغرام والسناب شات- صارت العيونُ تمتد كثيراً إلى التوسع والنظر فيما عند الغير، دون مراعاة للفروق الفردية ولا المادية.

ولو علمت الزوجةُ أن هذه الوسائل لا تنقل في حياة أولئك "المسنبين" و"المستغرمين" كما يقال إلا الجانب الحسن؛ لزهدت في حياتهم، فإن عدداً ليس بالقليل من هؤلاء، يعيش حياةً فيها من التنغيص ما فيها، ومليئة بالمشاكل، والعاقل من لجم نفسَه، وعرف حقيقةَ هذه الحياة، وقنع بما آتاه الله، فإن الطمع بحرٌ لا ساحل له.

11- ومما يعين على تقليص دائرة الطلاق: حسنُ توفيق الزوج بين متطلبات الزوجة ووالديه وأهله، وعدم طغيان رغبة طرفٍ على طرف، فإن بعض الأزواج يُفْرِط في هذا، فتجده يهمل أو يضغط على زوجته، في أمور يظنها براً بوالده أو والدته، وهي في الحقيقة انتهاكٌ لحقها، والعاقل والموفّق هو من أعطى كل ذي حقٍّ حقه، فللوالدين حقوق وللزوجة حقوق.

هذه -يا عباد الله- من أهم الأمور المعينة على تخفيف الطلاق، والموضوع أكبر من أن تحيط به خطبة أو خطبتان، ولكن هي من باب: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِين)[الذاريات: 55].

وأختم فأقول: إن تثقيف الزوجين بمعرفة عظمةِ هذا الميثاق، وأنه -كما سماه الله- "ميثاق غليظ"، كفيلٌ بتخفيف هذه المشكلة، وحصر دائرتها، وأن يعلم الزوجان أن الطلاق ليس أوّل الحلول بل آخرها.

أسأل الله -تعالى- أن يصلح بيوت المسلمين، ويجنّبهم أسبابَ الشقاق والنزاع.