البارئ
(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...
العربية
المؤلف | زيد بن مسفر البحري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ثم ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن من علامات صحة القلب أنه لا نعيم ولا سرور ولا فرح إلا بذكر الله والأنس به، فبه يطمئن، وإليه يأوي ويسكن، ففي القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال على الله، وفي القلب مرض لا يشفيه غير عبادة الله، فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة والعقول الزاكية أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا أنعم ولا أسرّ من الأنس به...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا عباد الله، ورد سؤال سئل عنه سماحة الشيخ العثيمين -رحمة الله عليه- في كتابه لقاء الباب المفتوح، سئل عن السحر والعين والجن، فأجاب -رحمه الله تعالى- بما ملخصه:
مسألة السحر والجن والعين انتشرت في هذه الأيام، حيث انساق الكثير وراء الأوهام والتخيلات، فنحن لا ننكر أن الجن يمس الإنس، ولكن ليس معنى هذا أن كل ما أصاب الإنسان يكون من مس الجن، حتى لو أصيب أحدهم بما يشبه الزكمة قالوا هذا جن، هذا خطأ، الإنسان يعرض له أشياء كثيرة، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في صحيح مسلم: "إنه ليغان على قلبي"، قلت: ذكر النووي أن الهم قد يصيب النبي -صلى الله عليه وسلم- لما يشتغل به من مصالح أمته الدينية والدنيوية، "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة".
وكذلك مسألة العين والنفس، لا ننكر أن لها تأثيرا، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في صحيح مسلم: "العين حق، ولو سبق القدر شيء لسبقته العين".
ولكن؛ ليس كل ما يصاب به الإنسان يكون عينا، فعلى الإنسان أن يعتمد على الله، ولا تهلع نفسه ولا تضعف ولا تستولي عليه الأفكار الشيطانية. انتهى كلامه -رحمه الله- ملخَّصاً.
والغرض الذي من أجله سيقت إجابة الشيخ -رحمه الله- أن هناك تساؤلات يتعاقب أحدها الآخر: بم تفسر تلك العقد النفسية التي نفثت سمومها وعذابها بالشباب، والشابات خاصة، وعند غيرهم عامة؟.
وهذه حقيقة وظاهرة في المجتمع، فهذا يشكو من ضيق في الصدر، وذاك يئن من ارتفاع نبضات قلبه تارة وانخفاضها أخرى، وذاك يشعر بقلق، وهذه حقيقة نراها ونلمسها من خلال تلك الأفواج التي تحيط بأماكن القراء يبحثون عن العلاج وينفقون الأموال؛ بل كل منهم على استعداد أن ينفق كل ما بحوزته حتى يشفى، وهذا أمر لا ينكر.
وتلك العقد النفسية نعزوها لأسباب كثيرة: قد يكون منها العزوف عن الزواج، أو فوات سنه على الفتاة، ولكن من أكبر أسباب هذه الأمراض الروحية -والكثير عنها غافل- الإعراض عن ذكر الله، الغفلة، ما بك يا فلان؟ ضائق صدري! أتشكو من ضيق في الصدر؟ نعم، همّ وتوتر أعصاب، قلق، انقباض في النفس، وصدق الله العظيم: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) [طه:124].
يقول ابن القيم -رحمه الله- في "مدارج السالكين": المعيشة الضنك تكون في الدور الثلاث: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف:36]، (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار:13-14]، يقول ابن القيم -رحمه الله- كما في الداء والدواء: لا تحسب أن هذه الآية مقصورة على نعيم الآخرة وجحيمها، بل في الدور الثلاث، (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [الزخرف:76]، وعلى العكس من ذلك: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
ولا تظنن أن الذكر مقصور على اللسان فقط، بل كل عمل صالح فهو ذكر، سواء كان صلاة أم صياما أم تسبيحا، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيحين: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت".
نهارك يا مغرور سهو وغفلة | وليلك نـــوم والردى لك لازمُ |
وتكدح فيما سوف تنكر غبه | كذلك في الدنيا تعيش البــهائم |
تسر بما يفنى وتفرح بالمنـى | كما غَرَّ باللذات في النوم حـالم |
يقول ابن القيم -رحمه الله- كما في المدارج: كما أن الله -جل وعلا- جعل حياة البدن بالطعام والشراب، فكذلك حياة القلب بدوام ذكره؛ لأن البعض من الناس لا يخطر بباله إلا أن الاستقامة بالدين هو الكبت بعينه، هي العقد نفسها، هذا حلال، هذا حرام، هذا ممنوع، هذا جائز، ونحن نقول: كيف يكون الإنسان إنسانا بلا ضوابط؟ كيف تكون إنسانا بلا معالم، بلا حدود؟.
الإسلام لا يبيح لك أن تتدحرج لمرتبة البهائم، الإسلام لا يجيز لك أن تنحط إلى مرتبة الحيوان، ومن ثم فهو لا يحرم الاستمتاع بالطيبات: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف:32].
ومن هنا، لا يمكن أن ينشأ كبت إطلاقا في ظل الإسلام، لا يمكن أن يكون فيه بتاتا إرهاق للأعصاب.
ولو تساءلنا عن تلك العلل والأمراض التي ساقت أصحابها إلى المصحات النفسية وإلى العيادات العصبية؛ لقلت وقلنا بلا نزاع: الذنوب والفواحش، ولا غرو، فقد قالها -عليه الصلاة والسلام- طبيب القلوب محمد -صلى الله عليه وسلم- كما في سنن ابن ماجة: "خمس أعوذ بالله أن تدركوهن"، ذكر منها: "ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأوجاع والأمراض التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا".
فمنذ عهد ليس بالبعيد ما كانت هذه الأمراض الروحية متفشية ولا منتشرة عند الأجداد، ولو سألنا من يعيش بيننا الآن ممن يناهز عمره الثمانين أو السبعين لأدركت صدق ما أقول، ما كانوا يعرفون أمراضا بمثل هذه الأسماء، فضلا عن الأمراض الوبائية التي أصيب بها الكثير في هذا الزمن.
أسلافنا من السلف الكرام ما كانت العلل القلبية تسطو على قلوبهم، هذا إبراهيم بن أدهم يقول: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليها بالسيوف"، ولكن كيف كانت أحواله؟ اسمع إلى ما ذكره ابن رجب -رحمه الله- في جامع العلوم والحكم من أن رجلا قال: "نمت عند إبراهيم، فكلما استيقظت من الليل وجدته يذكر الله -تعالى-"، أغلق الباب في وجه الشيطان فلم يستطع الشيطان أن ينفذ إلى قلبه فيحزنه، أشهر سلاح الذكر في وجهه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في سنن أبي داود: "إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ تتنحى له الشياطين، ويقال: هديت، وكفيت، ووقيت. فيقول شيطان لآخر: كيف لك برجل قد هُدي، وكفي، ووقي؟".
أفتتمكن الهموم من قلوب رجال قال بعضهم: "مساكينُ أهل الغفلة! خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها"، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: "عبادة الله، والأنس به".
أفتظن أن الأحزان تتسلسل على قلوب رجال قال بعضهم: "إنه ليمر بالقلب ساعات يطرب فيها فرحا، أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه الآن؛ إنهم لفي نعيم!".
فالطمأنينة التي ينشدها كل مريض، والتي يتطلع إليها كل مبتلى، لا توجد إلا في طاعة الله -جل وعلا- ، كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في سنن أبي داود، إذا حزبه أمر قال: "أرحنا بالصلاة يا بلال"، وكان يقول -عليه الصلاة والسلام-، كما في سنن النسائي: "جعلت قرة عيني في الصلاة"، وكانت عائشة -رضي الله عنها-، كما في صحيح مسلم، تقول: "كان يذكر الله على كل أحيانه".
فتالله وبالله ووالله! لو حيزت الدنيا بحذافيرها من أولها إلى آخرها من أقصاها إلى أدناها ووضعت في أحضان رجل لا يعرف الله لن تكون عليه إلا تعاسة وشقاء! ماذا قال الله -عز وجل- عن المنافقين؟ إنهم لا يذكرون الله إلا قليلا، خزاناتهم مليئة بالجواهر والذهب والأموال، ومع ذلك قال الله -عز وجل- فيهم: (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:55].
فوالله! لن تنال مطلوبك من السعادة ولن تتلاشى عنك تلك الهموم التي تتوارد عليك وتشغلك عمن حولك، تالله لن تتلاشى إلا في ظل الإسلام ومبادئه! (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14].
الله أوجدك وخلقك، وهو يعلم ما فيه سعادتك وصحتك مما فيه شقاؤك وسقمك، فأين تلك العقول التي طارت؟ وأين تلك الأرواح التي فسدت وأفلست حينما أعرضت عن ذكر ربها؟ أين هي من سيرة الأفذاذ الذين كان أحدهم، كما ذكر ذلك ابن رجب في جامع العلوم والحكم، وهو خالد بن معدان الذي أدرك سبعين صحابيا، كان يسبح الله في كل يوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرؤه من القرآن! فهل عانى من مرض نفسي أو عذاب قلبي؟ هذا عمير بن هانئ كان يسبح مائة ألف تسبيحة إلا أن تخطئ الأصابع! يعدها بأصابعه.
وأقول مجددا: لا تحسبن أن الذكر خاص باللسان فقط، بل كل عمل يقربك إلى الله -جل وعلا- فهو ذكر: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]، يقول مالك بن دينار، كما في جامع العلوم والحكم: "ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله"، وهذا بعض السلف يقول: "ما طابت الدنيا إلا بذكره"، وقال أحدهم: "عجبت للخلائق! كيف استنارت قلوبهم بذكر سواه؟".
وانظر إلى تلك البلاد التي تكتنفها أصناف المتع ويتخللها كل ما يخطر في النفس من متطلبات الحياة، والتي حلت عليها نقمة الانتحار وظل يلاحقها ويطاردها مطاردة لا يكل ولا يمل، وكم سمعنا -ولا نزال نسمع- عن العذاب النفسي الذي ينصب عليهم انصبابا؛ أأغنت عنهم تلك المتع؟ بل على العكس من ذلك! لا تسمع إلا أعدادا هائلة وأرقاما خيالية عن الانتحار!.
فيا أيها المسلم: أناجي فيك الخير الذي فطرت عليه، أخاطبك، أحادثك حديث مشفق لا يرجو منك نفعا ولا تدفع عنه ضرا.
أيها الأخ الحبيب: لا أظنك إلا ترجو الخلاص وتتشوف إلى العلاج وإلى المخرج من هذه العلل القلبية التي عذبتك أو عذبت أحد بنيك، وطريق الخلاص سهل لا يكلفك مالا ولا يتطلب منك جهدا، المخرج أن تُخرج من بيتك كل ما حرم الله، أقول هذا لأن الشيطان بات وأمسى وأصبح وظل في بيوت كثير من المسلمين، فلم تعد تلك البيوت بيوتا قرآنية إيمانية بل تحولت إلى أوكار شيطانية، وليس هذا قولي بل قول رسولك -صلى الله عليه وسلم- إذ قال، كما في صحيح مسلم: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة".
أين تلك الآيات الوقادة المشرقة؟ أين تلك الآيات التي تلعب بجسم الشيطان؟ بُدِّلت -فإلى الله المشتكى- بدلت -وللأسف- بمزامير، بمراقص يطرب لها الشيطان فرحا؛ فأنى تكون السعادة؟ أنى تكون الطمأنينة؟ أنى يكون الشفاء في بيت كله ظلمات؟.
واسمع إلى ما قاله نبيك -صلى الله عليه وسلم-، كما في صحيح مسلم: "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند مدخله وعند مطعمه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، فإن دخل بيته ولم يذكر اسم الله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإن لم يذكر اسم الله عند مطعمه قال: أدركتم المبيت والعشاء"، ويكفي ما تعلم ما وراء مبيت الشيطان في بيتك من الآفات والشرور!.
فيا مسلم، يا مسلم، يا مؤمن، يا مسلم: كيف تنقذ نفسك وتنقذ أبناءك من المحن والشرور؟ وذلك الغش المسمى بالدش يصب عليك وعليهم من صنوف العذاب، من ألوان الجحيم، في روحك وأرواحهم فيقطعها ألما وينزل بك خللا وفتورا! "إن الله يغار وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرم الله"، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في صحيح البخاري: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ"، فمن استنفذهما في غير ما هما له سلبت منه وعوض عنهما بأمراض وعلل.
ولقد عجبت، وما لي لا أعجب؟ ودهشت، وما لي لا أدهش؟ من ذلكم الرجل الذي يقطع من جسده وهو يطير فرحا بذكر الله ناسيا ما يسببه هذا القطع من الآلام! فيا ترى؛ ما قصته؟ ما حكايته؟.
اسمع إلى ما ذكره ابن كثير في البداية، والذهبي في السير: تورمت ساق هذا الرجل فأجمع الأطباء على أنه لا مندوحة من بتر ساقه حتى لا يسري الورم إلى جسمه فأذعن للأمر، فلما حضر الجَرَّاح ومعه آلة القطع والنشر قال: أرى أن نسقيك خمرا حتى لا تشعر بآلام القطع، فقال: هيهات! لا أستعين بحرام على ما أرجوه من العافية، فتقدم نحوه طائفة من الرجال ليمسكوه فقال: ردوهم؛ لا حاجة لي بهم، وإني لأرجو الله أن أكفيكم بالذكر، فحضر الجراح وقطع اللحم، فلما بلغ العظم وضع المنشار وجعل ينشر وهذا الرجل يقول: لا إله إلا الله، وما فتئ الجراح ينشر وهذا الرجل يهلل حتى بترت الساق بترا، ثم أغلي على الزيت في مغارف الحديد فغمست به ساقه لتدفق الدم ولحسم الجرح فأغمي إغماءة طويلة حالت دونه وبين أن يقرأ حصته من كتاب الله في ذلك اليوم، فلما أفاق من إغماءته دعا بقدمه المبتورة فجعل يقلبها ويقول: والذي حملني عليك في عتمات الليل إلى المساجد، إنه يعلم أني لم أمش بك إلى حرام قط فيما أعلم! ثم أنشد يقول:
فوالله ما أهويت كفي لريبة | ولا حملتني نحو فاحشة رجلي |
ولا قادني سمعي ولا بصري لها | ولا دلني رأسي عليها ولا عقلي |
وأعلم أني لم تصبني مصيبة | من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي |
ولا عجب! فهو التابعي الجليل عروة بن الزبير، أبوه من؟ حواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي من خواص أصحابه، أمه من؟ أسماء بنت أبي بكر، جده لأمه من؟ أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، جدته لأبيه؟ صفية بنت عبد المطلب عمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، خالته من؟ عائشة -رضي الله عنها-.
والغرض الذي من أجله أوردت هذه القصة أنهم كانوا يعيشون مع الله لا كما نعيش نحن، فإلى أي واد سرت أو فج سلكت لن تجد الراحة إلا في طاعة ربك.
أقول ما تسمع وأستغفر الله لي ولك فاستغفره وتب إليه وعد إليه؛ إن ربي كان توابا رحيما.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا عباد الله، يقول بن القيم -رحمه الله- كما في كتابه: "إغاثة اللهفان"، يقول: من أحب شيئا سوى الله، ولم تكن محبته لهذا الشيء لله، ولا لكونه معينا له على طاعة الله، عذب به في الدنيا قبل الآخرة، كما قيل:
أنت القتيل بكل من أحببته | فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي |
وقد قالها النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في سنن ابن ماجة: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً".
ثم ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن من علامات صحة القلب أنه لا نعيم ولا سرور ولا فرح إلا بذكر الله، والأنس به، فبه يطمئن، وإليه يأوي ويسكن، ففي القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال على الله، وفي القلب مرض لا يشفيه غير عبادة الله، فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة والعقول الزاكية أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا أنعم ولا أسر من الأنس به، فالحلاوة التي يجدها في قلبه بذلك فوق كل حلاوة، والنعيم الذي يحصل له بذلك أتم له من كل نعيم، واللذة التي ينالها بذلك أعلى من كل لذة، فلو سعيت في كل طريق، واستفتحت كل باب، لن تجد البهجة إلا في طاعة ربك... ولهذا ترى من فوّت ورده وجد لفواته ألما أعظم من تألم الحريص على فوات ماله.
ثم أنتقل بك إلى كلامه في موضع آخر في "مدارج السالكين" وهو يذكر ما ذكره شيخه شيخ الإسلام -رحمه الله- إذ قال: سمعت شيخي يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، ثم ذكر ونقل عن شيخه -أيضا- أنه قال: إذا لم تجد للعمل الصالح حلاوة وانشراحا في صدرك فاعلم بأن عملك مدخول؛ لأن الرب شكور، لا بد أن يثيب العابد بحلاوة يجدها في الدنيا قبل الآخرة، فحيث لم يجد تلك الحلاوة فعمله مدخول، ومصداق ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام- كما في صحيح مسلم: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا"، وقال أيضا، كما في الصحيحين: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان".
ثم قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "الداء والدواء": "وهل النعيم إلا نعيم القلب؟ وهل العذاب إلا عذاب القلب؟ وأي عذاب أشد من الخوف والحزن؟".
جسمك بالحمية حصّنتَهُ | مخافةً من ألم طـــارئِ |
وكان أولى بك أن تحميه | من المعاصي خشية البارئِ |
إن كنت تزعم حبي | فَلِمْ هجرت كتابـــي |
أما تأملت ما فيـــ | ـــه مـن لذيـذ خطابـي |
وقال عثمان -رضي الله عنه-: "لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم".