الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن محمد السعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الأديان والفرق |
هذا كتاب ربنا بين أظهرنا، فيه شرفنا وعزنا؛ إن ابتغينا الهدى في غيره أضلنا الله، وإن طلبنا العزة بغيره أذلنا الله. أنزله الله ويسره، يسر تلاوته وفهمه، والعمل به...
الخطبة الأولى:
في شهر رمضان أنزل الله القرآن العظيم، على خاتم النبيين محمد -صلى الله عيه وسلم-؛ ليكون للعالمين نذيرا، فأبان به الهدى من الضلال، والرشد من الغي، وجعله فارقا بين الحق والباطل: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان: 1]، فهو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، ونوره المبين، أحسن الحديث، وأصدقه، وأبينه، فيه الشفاء والرحمة والهدى، مواعظه أبلغ المواعظ، وأنفعها, وأعمقها، يجلو الله بها صدأ القلوب، وتورث الخشية من علام الغيوب، وتبعث الطمأنينة في النفوس، وتقودها إلى البر والعدل والإحسان.
إنه عصمة من الفتن، وهداية للحيارى، ونور للبصائر، من آمن به أمّنه الله يوم الفزع الأكبر، ومن تلاه جعل الله له بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ومن عمل به هدي إلى صراط مستقيم: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 29 - 30]، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) [الإسراء: 9].
عباد الله: هذا كتاب ربنا بين أظهرنا، فيه شرفنا وعزنا؛ إن ابتغينا الهدى في غيره أضلنا الله، وإن طلبنا العزة بغيره أذلنا الله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف: 44].
أنزله الله ويسره؛ كما قال سبحانه: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر: 17] يسر تلاوته وفهمه والعمل به، فاشكروا مولاكم على ذلك، وأقبلوا على كتاب ربكم ولا سيما في شهر القرآن.
ولكي تنتفع -أيها المسلم- بهذا القرآن الكريم كن حريصا على أمور:
أحدها: استحضار عظمة هذا القرآن؛ فإنه كلام ربك العظيم، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو كلام لا يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه، محفوظ بحفظ الله له؛ حتى يرفع من الصدور والسطور في آخر الزمان.
وثانيها: كن حاضرا بقلبك وسمعك، غير مشتغل بسواه: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37].
وثالثها: اقرأه ترتيلا؛ كما أمر الله: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل: 4].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "زَيِّنُوا الْقُرآنَ بأصواتكم" [أخرجه أبو داود والنسائي] ذلك أن ترتيله وتزيين الصوت به، طريق تدبره وفهمه والتأثر به.
ورابعها: تدبر آياته لفهم معانيه، ومعرفة مقاصده وحدوده؛ فإن معرفة ذلك في ظاهره وخفيه ومتجدده، مما يقوي إيمانك، ويزيد يقينك، ويشرح صدرك للحق، ويصلك بالقرآن محبة له وتعظيما، وإقبالا عليه.
وخامسها: العمل بما دلّ عليه من الفرائض والحلال والحرام، وتصديق أخباره، والإيمان بوعده ووعيده، والحكم به، والتحاكم إليه، والرضا بذلك والتسليم؛ فإن ذلك هو الغاية من إنزاله كما قال سبحانه: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص: 29]. (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام: 155].
وسادسها: أخذه بجد واجتهاد وصدق ورغبة وإخلاص؛ بعيدا عن الهزل والكسل والرياء: (خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 63].
وسابعها: عدم استلال النفس من خطاب القرآن، فإن كثيرا منا يحرم الانتفاع بالقرآن؛ لأنه يقرؤه وكأن الخطاب والوعد والوعيد موجه لغيره، ولقوم ليس منهم، مع أنه مخاطب به في جملة الناس والمؤمنين، والوعد بالجنة وحال أهلها، والوعيد بالنار وحال أهلها، لن ينفك عن أن يكون من أحد الفريقين.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، وتوفنا وأنت راض عنا، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، وأنت على كل شيء قدير.
الخطبة الثانية:
لما أعرض الخوارج عن طريقة الصحابة في قراءة القرآن، اتبعوا المتشابه منه، وحرفوا معانيه، ووضعوا آياته في غير مواضعها؛ فكانوا كما أخبر عنهم الصادق المصدوق -صلوات ربي وسلامه عليه- في قوله: "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" [متفق عليه].
وكان من آثار ذلك: إعجابهم برأيهم، ومجانبتهم للصحابة، وخروجهم على خير الناس في وقتهم علي بن أبي طالب والصحابة من المهاجرين والأنصار -رضي الله عنهم-، وسل السيوف عليهم، ومبايعة أعرابي لا سابقة له ولا صحبة، ولا شهد الله له بخير قط، حتى قال قائلهم عن الخيار من الصحابة والتابعين: "فأشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا: أنهم قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والأعمال، وأن جهادهم حق على المؤمنين. فبكى رجل منهم، ثم حرض أولئك على الخروج على الناس" وقال في كلامه: "اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم -يعني بذلك الصحابة- فإن أنتم ظفرتم، وأطيع الله كما أردتم، أثابكم ثواب المطيعين له، العاملين بأمره، وإن قتلتم فأي شيء أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته" كذب وخسر، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بعد سياقه هذا الكلام: "وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد وسبق في قدره العظيم، وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج إنهم المذكورون في قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا) [الكهف: 103 - 106].
وإنما وقع الاغترار بالخوارج لما أظهروا من العبادة والزهد، كما وصفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم".
ومع ذكر حذر منهم، ووصفهم بأنه شر الخليقة أو من شرهم، قال الإمام الآجري -رحمه الله-: "فلا ينبغي لمن رأى اجتهاد خارجي قد خرج على إمام: عادلاً كان الإمام أم جائراً، فخرج وجمع جماعة وسل سيفه، واستحل قتال المسلمين، فلا ينبغي له أن يغتر بقراءته للقرآن، ولا بطول قيامه في الصلاة، ولا بدوام صيامه، ولا بحسن ألفاظه في العلم إذا كان مذهبه مذهب الخوارج".
ولا يزال هذا الفكر الخارجي يتوارث، فتراهم يقتلون المصلين، ويستحلون البغي والعدوان باسم الجهاد، ويمثلون بالمسلمين باسم إقامة الحدود، وينقضون العهود ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل باسم إقامة الملة، ويكفرون كل من أذنب ذنبا أو خالفهم في قضية، ويقتلون المرابطين على ثغور بلاد المسلمين وحدودهم، باسم نصرة الله ورسوله، لا يرعون لمؤمن حرمة، ولا لذي عهد عهده، ولا يقدرون المصالح، ولا يتورعون عن الحرمات فضلا عن الشبهات، فأسرفوا في سفك الدماء البريئة، ومزّقوا الأمة، وروعوا الآمنين، وصيروا أموال المسلمين بجهلهم وعدوانهم غنيمة وفيئا، بناء على أصلهم الفاسد في تكفير أهل الإسلام بأدنى ذنب، وأوهى شبهة؛ كما وصفهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سفهاء الأحلام".
ولئن كانت هذه الظاهرة مستشرية في بلاد كثيرة، فإن وباءها قد أصيب به بعض أبنائنا في هذه البلاد، فسلطهم أرباب هذا الفكر على بلادهم وأهليهم، وآخر ذلك قتل الجنود المرابطين لحماية بلادنا ومقدساتها وحرماتها، رحمهم الله وغفر لهم، وتقبلهم في الشهداء، بدم بارد، وعدوان غاشم، وتأويل جاهل، مستندين إلى فهم سقيم، وغيرة غالية، ومتأثرين بتحريض الخوارج القعدة، ودعاة الفتنة، الذين يقلبون الحقائق، ويضخمون الأمور، ويحرضون على الفتنة، خلف وسائل الإعلام والاتصال، ثم يسلون أنفسهم منها، والله لهم بالمرصاد.
فالواجب على من كان متأثرا أو فاعلا أو محرضا أن يتوب إلى الله، ويصلح من حاله؛ فإن أموال المسلمين ودماءهم وأعراضهم محرمة بالنصوص المتواترة القاطعة، لا يجوز انتهاكها إلا ببرهان من الله؛ ففي الصحيحين قوله صلى عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم واعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا".
وقد قال تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93].
وفي صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يزالَ المؤمِنُ في فُسحَة من دِينه ما لم يُصِبْ دما حراما".
وعلينا جميعا أن نقف صفا واحدا تجاه هذا الداء العضال بالنصيحة والحوار والدعاء والتعاون على قطعه، والتحذير منه صراحة وذم معتنقيه، وهجرهم، ودفع شبهاتهم، وإلا كنا غدا ضحاياه؛ فإن هذا الفكر يهدم ولا يبني، ويفرق ولا يجمع، ألم تروا كيف تفرقوا بعد أن كانوا جماعة واحدة؟! وأضحى بعضهم يقتل بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، ويكفر بعضهم بعضا، ويقتل أحدهم أخاه المسلم شر قتلة، ويمثل به، ويذيع ذلك على رؤوس الأشهاد وفي وسائل الإعلام، قال ابن حزم -رحمه الله- عن الخوارج: "ولهذا تجدهم يكفر بعضهم بعضا عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها، فظهر ضعف القوم، وقوة جهلهم".