الغفار
كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
وحديث خطبتنا اليوم عن يعسوب آل البيت، وعلَمهم المقدم، أشبه الناس بالرسول -صلى الله عليه وسلم- خُلُقاً وخَلْقاً، خطبتنا عن منقذ الأمة الإسلامية، وأكبر مصلحيها بعد جده عليه الصلاة والسلام، خطبتنا عن الحسن بن علي -رضي الله عنه-.
الخطبة الأولى:
الحمد لله يخلق ما يشاء ويختار, ويصطفي للشرف من شاء من الأخيار، شرّف رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- على كل البرية، وجعل ذريته أشرف ذريّة.
أحمد ربي -تعالى- وأشكره، وأثني عليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نتقرب إلى الله -تعالى- بمحبة رسوله وعترته الطاهرة الزكية، صلى الله وسلم وبارك عليهم وعلى الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فوصية الله -تعالى- للأولين والآخرين تقواه، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131].
إن من شرّف الله -عز وجل- ذاته، وأكرم معدنه، فإن ذاته الشريفة ومعدنه الكريم سينشر فضائله وبركاته على من كان حوله، كفيض العطور الفواحة التي تطرب لها النفوس، وتسكن بها العقول، وتزكو بها الأمزجة. وانظر إلى زجاجة العطر؛ كيف تبقى فوّاحة حتى بعد نفاد ما فيها! وتطلّع إلى جوار المصباح؛ وكيف استحال هالة من نور، وسوارًا من ضياء، من مجاورة الضياء، وميرافقة الثناء!.
وكذلك البشر، تفيض بركة المصطفين الأخيار منهم وتتعداهم إلى غيرهم، فكثير من سلالة إبراهيم الخليل -عليه السلام- غدوا أنبياء، وأصحاب عيسى -عليه السلام- صاروا حواريين، ورفاق محمد -صلى الله عليه وسلم- شرفوا بالصحبة فصاروا مصابيح الدجى، وأئمة الهدى، وأزواجه بمجرد اقترانهم به ومشاركته المأوى والمأكل، صرن أمهات للمؤمنين.
أما أعلى الشرف، وقمة الجبل، والشموس المضيئة، والأقمار المنيرة، والكواكب الدرية، فكانت من نصيب من تشرف وصار من نسله الكريم -صلى الله عليه وسلم-، فقد استحق وصف الشرف والسيادة، كيف لا؟! وفيه من دمائه دم، ومن روحه نبض، ومن نوره قبس، ومن شذاه عبق، ومن وجوده بقية، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه، وصلى على صحابته وسلّم تسليمًا كثيرًا.
وحديث خطبتنا اليوم عن يعسوب آل البيت، وعلَمهم المقدم، أشبه الناس بالرسول -صلى الله عليه وسلم- خُلُقاً وخَلْقاً؛ خطبتنا عن منقذ الأمة الإسلامية، وأكبر مصلحيها بعد جده عليه الصلاة والسلام، خطبتنا عن الحسن بن علي -رضي الله عنه-.
هو أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي المدني، الشهيد، سِبْط رسول الله، وريحانته من الدنيا، وهو سيد شباب أهل الجنة، فهو ابن السيدة الكاملة فاطمة بنت رسول الله، وأبوه أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-.
وقد ولد في نصف رمضان سنة ثلاث للهجرة، فكان يوم مولده يوم سعادة وسرور، وفرح وحبور في بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو أول الأسباط الذكور من الدوحة النبوية المطهرة.
كان -رضي الله عنه- أبيض اللون مشرّباً بحمرة، أدعج العينين، سهل الحديث، كثّ اللحية، جعد الشعر ذا وفرة، حسن البدن، بعيد ما بين المنكبين، ليس بالطويل وليس بالقصير، أكثر الناس شبها برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ظل الحسن بن علي يتربى على يد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ما يقرب من ثماني سنوات، ربّاه على عينه، وقد تولّى النبي تربيته منذ اليوم الأول لولادته؛ فسماه الحسن، وأذَّن في أذنه ليرسِّخ في قلبه معاني عظمة الله، وليطرد عنه الشيطان. كما برّك النبي الحسَن، وحنّكه، فاختلط الريق النبوي المبارك بريق الحسن، كما سرت نفس الدماء في العروق، فكان نوراً على نور.
وكان النبي يحب الحسن حبَّاً جمَّاً، ويداعبه كثيرًا، ويقبِّله، ويعانقه؛ حبًّا له وعطفًا عليه. وكان -صلى الله عليه وسلم- لا يصبر على فراقه، فكان لا يراه مقبلاً إلا سارع بضمه وتقبيله، حتى لو كان في أهم الاجتماعات، فقد نزل من على منبره وقطع خطبته لما رآه مقبلاً مع أخيه الحسين -رضي الله عنهما-، فضمهما وقبلهما. كما كان يطيل السجود من أجل امتطاء الحسن والحسين ظهره الشريف -عليه السلام- أثناء السجود حتى لا يقطع لعبهما.
وروى البخاري -بسنده- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كنت مع رسول الله في سوقٍ من أسواق المدينة فانصرف فانصرفت، فقال: "أَيْنَ لُكَع -ثَلاَثًا-، ادْعُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ". فقام الحسن بن علي يمشي وفي عنقه السّخاب -خيط من خرز يوضع في العنق مثل القلادة- فقال النبي بيده هكذا، فقال الحسن بيده هكذا، فالتزمه فقال: "اللَّهُم إِني أُحِبهُ، فَأَحِبهُ، وَأَحِب مَنْ يُحِبهُ". وقال أبو هريرة: "فما كان أحدٌ أحب إليَّ من الحسن بن علي بعدما قال رسول الله ما قال".
وعن عقبة بن الحارث أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- لقي الحسن بن علي -رضي الله عنهما- فضمَّه إليه، وقال: "بأبي، شبيهٌ بالنبي! لا شبيهٌ بعلي!". وعليٌّ يضحك.
وكان النبي يؤصِّل في الحسن منذ الصغر حب الإصلاح بين المسلمين، ويربط هذا الأمر بالسيادة؛ فقد روى البخاري -بسنده- عن أبي بكرة أن النبي صعد بالحسن بن علي المنبرَ فقال: "ابني هذا سيِّد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين". وقد تحققت هذه النبوءة التي تنبّأ بها رسول الله بعد ذلك.
أما عن جوانب العظمة والسمو البشري والأخلاقي في شخصية الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- فهي من الكثرة بمكان يدعنا حيارى على أي وديان الفضل نحط، ومن أي الأزهار والرياحين نستنشق، لكن أهم ما يميّزه هو هذا الملمح العظيم في شخصيته، وهو الحرص الواضح والدائم على حقن دماء المسلمين، والحرص على وحدتهم، واتحاد كلمتهم، وبقاء شوكتهم، ويكسو هذا الحرص حياة الحسن طولاً وعرضًا، ويؤكد ذلك المواقف الكثيرة التي عاشها الحسن، وتعايش معها؛ انطلاقًا من هذا المبدأ العظيم.
قال ابن الزبير -رضي الله عنهما-: "والله! ما قامت النساء عن مثل الحسن بن عليّ"، وقال محمد بن إسحق: "ما بلغ أحد من الشرف بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما بلغه الحسن بن عليّ".
كان كريما يجيب السائل. قال:
نحن أناسٌ سؤالنا خَضِلْ | يرفع فيه الرجاء والأمـلْ |
تجود قبل السؤال أنفسنا | خوفاً على ماء وجه من يسَلْ |
لقد كان للحسن -رضي الله عنه- أثر كبير في حياة المسلمين في فترة حرجة من حياة الأمة الإسلامية، وشرفه وسؤدده وخصاله كانت منارات للهدى وإرشاد الحيارى من كثرة اختلاط الأمور وتشابكها.
فلقد كان رحيماً بالأمة مشفقاً عليها، حانياً على فقرائها وعالتها؛ فعن علي -رضي الله عنه- أنه خطب ثم قال: إن ابن أخيكم الحسن بن علي قد جمع مالاً، وهو يريد أن يقسمه بينكم، فحضر الناس، فقام الحسن فقال: "إنما جمعته لفقرائكم"، فقام نصف الناس، فكان أول من أخذ منه الأشعث بن قيس.
وعن عبد الله بن شداد أن الحسن بن علي مر براعٍ يرعى، فأتاه بشاةٍ فأهداها له، فقال له: "حر أنت أم مملوك؟" فقال: مملوك. فردها عليه، فقال: "إنها لي". فقَبِلها منه، ثم اشتراه واشترى الغنم وأعتقه، وجعل الغنم له.
ولقد كان ناصحاً للأمة، معلماً لها، دالاً على سبل الخير، وطرق الصلاح والإصلاح، فكان يقول: علمني رسول الله كلمات أقولهن في قنوت الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت".
وعن سوادة بن أبي الأسود عن أبيه قال: دخل على الحسن بن علي نفرٌ من أهل الكوفة وهو يأكل طعامًا، فسلموا عليه وقعدوا، فقال لهم الحسن: "الطعام أيسر من أن يقسم عليه الناس، فإذا دخلتم على رجلٍ منزله فقرب طعامه، فكلوا من طعامه، ولا تنتظروا أن يقول لكم هلموا؛ فإنما يوضع الطعام ليؤكل". قال: فتقدم القوم فأكلوا، ثم سألوه حاجتهم فقضاها لهم.
وكان كثيراً ما يقول: حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة".
ولا ريب أن أعظم أعماله كان الصلح بين المؤمنين، يوم أن سلم الخلافة لمعاوية -رضي الله عنه-، فالتأم الصف، وصلح الحال.
وكان في تسليم الأمر لمعاوية ظهور معجزتين للنبي -صلى الله عليه وسلم-، إحداهما: ما حدث به أبو بكرة قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي بنا فيجيء الحسن وهو ساجد -صبي صغير- حتى يصير على ظهره أو رقبته فيرفعه رفعا رفيقا، فلما صلى صلاته قالوا: يا رسول الله، إنك لتصنع بهذا الصبي شيئا لا تصنعه بأحد! فقال: "إن هذا ريحانتي، وإن ابني هذا سيد، وعسى الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" فكان الأمر كذلك. والثانية: أنه حسب يوم تسليمه كان تمام ثلاثين سنة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "الخلافة بعدى ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا رسول بعده، محمد بن عبد الله، وعلى آل بيته وعترته وصحبه ومن والاه.
أما بعد: لا يتخيل البعض أن تنازل الحسن -رضي الله عنه- عن الخلافة لمعاوية وإصلاحه بين الناس بالأمر الهين والسهل، فلقد تحمل الحسن -رضي الله عنه- من أجل ذلك الكثير من الصعاب، تحمل غضب الأتباع، واتهام الموتورين، وسوء ظن المشككين، ولقد وصل الحال بالبعض لسب الحسن -رضي الله عنه- ووصفه بأنه "مسوّد وجوه المؤمنين"، وأنه "عار المؤمنين"! وهو صابر محتسب.
ولا أدرى؛ كيف يقال لمن أنقذ الأمة من التناحر والاختلاف وسفك الدماء، على الرغم من قدرته على مواصلة القتال ومنابذة الخصوم؛ هل يقال له مثل هذا الكلام الرديء؟!.
وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، قال: قلت للحسن -رضي الله عنه-: إن الناس يقولون إنك تريد الخلافة! فقال: "قد كانت جماجم العرب في يدي يحاربون من حاربت ويسالمون من سالمت، فتركتها ابتغاء وجه الله، وحقن دماء أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-".
مات -رضي الله عنه- مسموماً سنة خمسين للهجرة، ولا يعلم على وجه اليقين من سمه، ولا يصح فيه خبر، وكل الروايات التي تفيد تعيين قاتله فتتهم معاوية تارة ويزيد تارة أخرى وزوجته جعدة بنت الأشعث وغير ذلك، كلها لا تصح، مدارها على مجهولين أو كذابين، والذي ثبت رواية عمير بن إسحاق قال: "دخلت على الحسن وهو يجود بنفسه والحسين عند رأسه، وقال: يا أخي، من تتهم؟ قال: لم؟ لتقتله؟ قال: نعم، قال: إن يكن الذي أظن فالله أشد بأسا وأشد تنكيلا، وإلا يكنه فما أحب أن يقتل بي بريء"، ثم قضى، رضوان الله تعالى عليه.
قال ابن عبد البر: لما احتضر -رضي الله عنه- قال لأخيه الحسين: "يا أخي، إن أباك استشرف لهذا الأمر فصرفه الله عنه ووليها أبو بكر، ثم استشرف لها وصرفت عنه إلى عمر، ثم لم يشك وقت الشورى أنها لا تعدوه فصرفت عنه إلى عثمان، فلما قتل عثمان بويع علي ثم نوزع حتى جرد السيف فما صفت له، وإني -والله!- ما أرى أن يجمع الله فينا النبوة والخلافة، فلا أعرفن ما استخلفك سفهاء الكوفة فأخرجوك، وقد كنت طلبت من عائشة -رضي الله عنها- أن أدفن مع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقالت نعم، فإذا مت فاطلب ذلك إليها، وما أظن القوم إلا سيمنعونك، فإن فعلوا فلا تراجعهم".
فلما مات أتى الحسين إلى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، فقالت: "نعم وكرامة"، فمنعهم مروان، فغضب الحسين، وكاد أن يحدث قتال، لولا أن حجز بينهم أبو هريرة -رضي الله عنه-، ثم دفن بالبقيع إلى جنب أمه -رضي الله عنهما-.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين...