البحث

عبارات مقترحة:

العلي

كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...

الآخر

(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

الجواد

كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...

قصة إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام

العربية

المؤلف صلاح بن محمد البدير
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان - أعلام الدعاة
عناصر الخطبة
  1. في سِيَر السابقين عظة وهداية .
  2. قصة إبراهيم عليه السلام زاخرة بالفوائد .
  3. سرد القصة وفوائد تربوية منها .

اقتباس

في سِيَر السابقين عِظَةٌ وهداية، وفي قصص الأنبياء عِبرةٌ ودلالة، وما أحوجَ الأمة إلى النظر في تلك القصص والأنباء؛ لتكون علَمًا ومنارًا، ومحجَّةً وإسفارًا: (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ). وقصةُ أبي الأنبياء وإمامِ الحُنفاء إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، أشرف أُولِي العزم بعد نبيِّنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، قصةٌ مُجلَّلةٌ بالآيات والعِظات، مُكلَّلةٌ بالعِبَر والدلالات ..

الحمد لله بارئِ البريَّات، غافِرِ الخطيَّات، عالمِ الخفيَّات، المُطَّلِع على الضمائِرِ والنيَّات، أحمدُه حمدَ مُعترِفٍ بالتقصير، وأستغفِرُه استغفارَ مُذنبٍ يخافُ عذابَ السعير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحاطَ بكل شيءٍ علمًا، ووسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وحِلمًا، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله نبيُّ الرحمة الداعي إلى سبيل ربِّه بالحكمة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعته أعلى نسَب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

أيها المسلمون: في سِيَر السابقين عِظَةٌ وهداية، وفي قصص الأنبياء عِبرةٌ ودلالة، وما أحوجَ الأمة إلى النظر في تلك القصص والأنباء؛ لتكون علَمًا ومنارًا، ومحجَّةً وإسفارًا: (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120].

وقصةُ أبي الأنبياء وإمامِ الحُنفاء إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، أشرف أُولِي العزم بعد نبيِّنا وسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، قصةٌ مُجلَّلةٌ بالآيات والعِظات، مُكلَّلةٌ بالعِبَر والدلالات، إبراهيمُ الخليلُ الذي جُعِلَت الإمامةُ مُتصِلةً بسببه، وباقيةً في نسَبِه، وخالدةً في عقِبِه، لا ينالُها الظالمون من ذريَّته.

ومن خصائصه وفضائله: خِلعةٌ سنيَّةٌ لا تُضاهَى، ومرتبةٌ عاليةٌ لا تُباهَى، وخصوصيةٌ فريدةٌ لا تُسامَى، فكلُّ كتابٍ أُنزِل بعده من السماء على نبيٍّ من الأنبياء فذلك النبيُّ من ذريته وسُلالته، قال -جل في عُلاه-: (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) [العنكبوت: 27].

ولما كبُرَ إبراهيمُ وعقُمَت سارة اشتدَّت لوعةُ الوحدةِ ومرارةُ الوَحشة؛ فدعا إبراهيمُ ربَّه أن يهَبَ له عقِبًا صالحًا، فدخل -بمشورةِ سارة- على هاجر الأمينة المُؤمنة، فأنجبَت له إسماعيل -عليه السلام-، ومن هذا الفرع الشريف والغُصن المُنيف خرجَت الجوهرةُ الباهِرة والدُّرَّةُ الزاهرة وواسطةُ العِقد الفاخرة، وُولِد خيرُ أهل الأرض على الإطلاق، وسيدُ ولد آدم باتفاق: نبيُّنا وسيدُنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، الذي اختارَه ربُّه واصطفاه، ولم يُوجَد نبيٌّ من سُلالة إسماعيل سِواه.

ودبَّت الغيرةُ في نفس سارة، وتشعَّبَ لُبُّها، وثارَ حُزنُها وشجَنُها، وتمنَّت على إبراهيم أن يذهبَ بهاجر وابنِها إلى حيث لا تراهما، فركِبَ إبراهيم بهما يطوِي المراحِل، ويحدُو الرواحِل، حتى جاء -بأمر ربِّه- موضع البيت الحرام في موطنٍ مُقفِرٍ هواء، ومكانٍ خلاء، وبلادٍ جرداء، ووادٍ مُوحِش ليس به زرعٌ ولا ضَرع، ولا أنيسٌ ولا حَسيس، فتركَهما هناك لا يملِكان سوى جِرابٍ به قليلٌ من الغذاء، وسِقاءٍ به يسيرٌ من الماء.

فتبِعَته أمُّ إسماعيل فقالت: يا إبراهيم: أين تذهبُ وتتركنا في هذا الوادي؟! إلى من تتركُنا؟! فقال إبراهيم: إلى الله، قالت: رضِيتُ بالله. وفي لفظٍ: قالت: إذًا لا يُضيِّعُنا.

يا لها من عقيدةٍ صادقة تُوقِظُ الضمائر، وتُرهِفُ المشاعِر، استسلَمَت لقضاء الله وخضعَت لحُكمه، وانقادَت لأمره بلا تردُّدٍ ولا تعنُّت، وفوَّضَت أمرَها، وألجأَت ظهرَها، ووجَّهت وجهَها إلى الحيِّ الذي لا يموت.

فلتأخُذ المرأةُ المسلمةُ اليوم من هاجر المؤمنة نِبراسًا في الاتباع، وقُدوةً في الانقياد، وأُسوةً في الصبر والثَبات.

وانحدَرَ إبراهيم مُفارِقًا حُشاشة نفسه، مُودِّعًا قطعةَ قلبه، مُستسلمًا للقضاء، صابرًا على البلاء، داعيًا دُعاءَ المُوقِن بإجابة الدعاء: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم: 37].

ومكَثَت هاجرُ تُعالِجُ القضاءَ المحتُومَ، فنفَدَ زادُها وجفَّ ضرعُها، حتى لا تجِدَ لابنها ماءً يبُلُّ صداه، ولا لبنًا تتندَّى به شَفَتاه، في مخمصةٍ مُقسِعة، ومسغَبَةٍ مُعطِبة، فهاجَها التِياعُ طفلها، ونحيبُ صغيرها، وهو يتلوَّى ويتلبَّط، يفحَصُ الأرضَ برِجلَيْه، ويضربُ الصلطَ بقدَمَيْه، كأنه ينشطُ للموت.

فانطلَقَت كراهيةَ أن تنظُر إليه -وقد تقطَّعت نِياطُ قلبها-، فقامَت على الصفا واستقبَلَت الوادي لعلها ترى أحدًا، ثم استبطَنت الوادي ورفعَت دِرعَها، وسعَت جهدَها، حتى أتت المروةَ فقامَت فوقَها، ونظرَت لعل أحدًا يأتي نحوَها. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فذاك سعيُ الناس بينهما".

فلما أتمَّت سبعًا بين الصفا والمروة إذا هي بصوتٍ، فنادَت نداءَ اللَهفان، واستغاثَت استغاثةَ الظمآن: أغِث إن كان عندك غُواث، أغِث إن كان عندك غُواث.

فإذا هي بجبريل -عليه السلام-، فبحثَ بعقبِه الأرض، فانبثَقَ الماءُ وفار، وتفجَّرَ نبعُ زمزمَ وحارَ.

والله لا يُضيِّعُ من اتقاه، ولا يُخيِّبُ من رجَاه.

فرحِمَ الله ضعفَها، وفرَّج كربَها، وأنبَعَ الأرضَ تحتها، فجعلَت تُحوِّضُه بيديها وتغرِفُه بكفَّيها، وتسقِي وليدَها، وتملأُ سِقاءَها. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يرحم الله أمَّ إسماعيل؛ لو تركَت زمزم -أو لو لم تغرِف من زمزَم- لكانَت زمزم عينًا مَعينًا".

وها هي زمزمُ تسقي -بأمر ربِّها- الحَجيج، وتُطفِئُ لهبَ الأجِيج، ويُسمَع لها ثَجيج، خيرُ ماءٍ وُجِد على وجه الأرض، يقول فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنها لمُباركة، هي طعامُ طُعمٍ، وشِفاءُ سُقم".

وحلَّق الطيرُ فوق الماء، وحوَّم حول الرَّواء، وصفَّق بجناحَيْه في السماء، فرأَتْه رُفقةٌ من جُرهُم مُقبِلين من طريق كَداء، فأقبَلوا يستأذِنونها في النزول بجِوارِها والإقامة في ناحيتها، فألفَى ذلك أمَّ إسماعيل وهي تحبُّ جِنسَها، وأذِنَت لهم حتى أضحَوا أُنسَها، وتوافَدَت أبياتٌ منهم عليها، وهوَت أفئدةٌ من الناس إليها، ونشأَ إسماعيلُ بين وِلدانهم، وتكلَّم بلسانِهم، ونطقَ بعربيَّتهم، وأنفَسهم فقرَّبُوه، وأعجبَهم فزوَّجوه.

ثم فُجِع إسماعيل -عليه السلام- بموت أمه الصابِرة، وانتقال هاجر إلى الدار الآخرة، بعد أن أرضعَته جميلَ الشمائل والخِصال، وبادَرَته بالتأديب حتى بلغَ مبلغَ الرجال.

وتربيةُ الأولاد هي مهمةُ المرأةِ العُظمى، ووظيفتُها الأُولَى، ومتى ضُيِّعَت ضاعَت الأمةُ وأجيالُها، وفسَدَت أوضاعُها وأحوالُها.

وكان إبراهيم يفِدُ إلى ابنه لِمامًا، ويتفقَّدُه أحيانًا، تُهيجُه حُرقةُ الاشتياق، ويُزعِجُه ألمُ الفِراق، والشوقُ إلى الولد لا يردُّه صبر، ولا يستقِلُّ به صدر.

فجاء يومًا وإسماعيل يبرِي نَبلاً، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنعُ الوالدُ مع ولده عند التلاقي بعد طول الفِراق، ثم أخبر إبراهيمُ ابنَه بما أمره ربُّه؛ من بناءِ البيت على أساسٍ من التوحيد والحنيفية ونبذِ الشرك والوثنيَّة، فرفعَ إبراهيمُ القواعد من البيت، وإسماعيل بين عينيه، وطوعُ يديه، ورَهنُ كفَّيه، يأتي بالحِجارة، ويُعينُ أباه في البناء والعِمارة، فلما ارتفعَ البناء جاء له بحجرٍ ليقوم عليه، فقام إبراهيمُ على حجر المقام حافِيَ القدَمَيْن يبني وإسماعيلُ يُناوِلُه الحِجارة، وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 127].

وما شأنُ العمل بلا قبول، وما قيمتُه بلا رِضا، وما فائدتُه بلا أجرٍ ولا ثواب؟!

فاتَّخِذوا من الإخلاصِ وسيلةً إلى القَبول، ومن الموافقة والاتباع للرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيلةً إلى حصول الأجر والثواب المأمول؛ فالمُرائِي لا ينتفِعُ بعمله، والمُبتدِعُ لا يُثابُ على سعيِه.

وتم البناءُ، وصدَحَ إبراهيم في الأرض بالأذان والنداء، فأقبَلَت الوفود وتقاطَرت الحُشود من عهد أبينا إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وإلى يومنا هذا والمسلمون يأمُّون الكعبةَ المُعظَّمة والبِطاح المُقدَّسة والمشاعِر المُحرَّمة، وقد توحَّد منهم اللباس على اختلاف الأجناس، وتوحَّدت المناسِك على اختلاف البُلدان والممالِك، اجتمعوا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وعلى دين نبيِّنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى ملَّة أبينا إبراهيم حنيفًا مُسلِمًا وما كان من المُشركين.

بنيانٌ واحد، وجسَدٌ واحد، يسعَدُ بسعادة بعضه، ويتألَّمُ لألمِه ومرضِه، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلَّى صلاتنا، واستقبَلَ قِبلَتنا، وأكلَ ذبيحَتنا، فذلك المسلم، الذي له ذِمَةُ الله وذِمَّةُ رسوله، فلا تُخفِروا اللهَ في ذِمَّته". أخرجه البخاري.

وأصبحَت الكعبةُ المُشرَّفة قبلةً لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا)، ولكلٍّ طريقةٌ يرتضيها، ووجهُ السلم حيثُ توجَّه به دينُه، لا يخرُج عن جهته، ولا يُماثِلُ غيرَه في نِحلَته وحِليته، ولا يُشابِهُه في سُنَّته وهيئَته، ولا يُقارِبُه في خُلُقه وطريقته.

وأنَّى لأهل الإسلام أن يتوجَّهوا لغيره والوحيُ نزل عليهم، ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بُعِث فيهم، حتى صاروا ببركة رسالته ويُمن سِفارته ونور دعوته ودلالته خيرَ الأمم.

فالثَّباتَ الثبَات -يا أهل الإسلام-، والحذر الحَذر أن تزِلَّ بكم الأقدام؛ فدينُكم هو القبلةُ الصحيحة، وشريعتُكم هي الوِجهةُ المُستقيمة، وعقيدتُكم هي الفِطرةُ السليمة.

ثبَّتني الله وإياكم على الحق والهُدى حتى نلقاه. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الكبير المُتعال، أحمدُه على جزيلِ النوالِ وكريمِ الإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تقدَّس عن الأنداد والأضداد والأمثال، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله كريمُ الخِصال وشريفُ الخِلال، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه خيرِ صحبٍ وأكرمِ آلٍ.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله -عز وجل-؛ فبالتقوى تحصُلُ البركة وتندفِعُ الهلَكَة، إن العاقبةَ للمُتقين.

أيها المسلمون: ورأى إبراهيمُ في منامه رُؤيا -ورُؤيا الأنبياء حقٌّ-، محنةٌ تدُكُّ الجِبال، وتُثقِلُ الرجال، شيخٌ كبيرٌ جالدَ الأيام، وأحنَته الأحداثُ الجِسام، يُؤمَرُ بذبحِ ولدِه، وفرْيِ أوداجِ فِلذَة كبدِه وإنهار دمه بيده.

أيُّ نفسٍ تُطيقُ هذا البلاء، وأيُّ قلبٍ يقوَى هذا العناء؟!

ودخل إسماعيلُ ليقُصَّ عليه أبوه رُؤياه، ويُخبِره بمِحنته وبَلواه: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) [الصافات: 102]، فيقول إسماعيلُ -طائعًا لربِّه ومُلبِّيًا، صابِرًا ومُؤدِّيًا، مُنقادًا وراضِيًا-: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102].

(فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) طاوَعَه الابنُ الصالحُ بالتمكين، وكان لأبيه خيرَ مُعين (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ).

فلما أمرَّ على حلقه بالسكِّين ناداه أرحمُ الراحمين: (يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) [الصافات: 104-106]، وفَداهُ ربُّه بذِبحٍ عظيم، وخلَّصَه بكبشٍ لَحيم؛ ليُعلَمَ أن البلاء ليس للتعذيب، ولكنه للتمحيصِ والتهذيب.

فحينَ تعلَّقَت شُعبةٌ من قلب إبراهيم بمحبة إسماعيل، وقد اتخذَ الله إبراهيم خليلاً، أُمِر بذبح المحبوب، فلما شرعَ في ذبحِه دلَّ على أن محبةَ الله أعظمُ عنده من محبة ولده نفسه، فخلَصَت الخُلَّةُ من شوائب المُشارَكة، ولم يبقَ في الذبحِ مصلحة.

فأين من هامَ قلبُه، وتشتَّتَت نفسُه في العِشقِ والوَلَه، والعلَقِ والسَّفَه، والهوى والعَلَه، فيومًا بالعُذَيبِي ويومًا بالخُليصَاء، وتارةً ينتحِي نجدًا وآونةً شِعبَ العقيق وطورًا قصر تيماء، حبٌّ لغير الله، وخُلَّةٌ لم تُؤسَّس على تقواه، موطئٌ زلَق، ومسلَكٌ خطِر، وخِزايةٌ لا تَبلَى، ومسبَّةٌ لا تفنَى، ومعابَةٌ لا تُنسَى.

ولا يجتمعُ حبُّ الرب الأعلى بحبِّ المعشوقِ أبدًا: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) [البقرة: 165]، (الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 67].

فيا لها من موعظةٍ فأين السامِع؟! ويا لها من تذكرةٍ فأين التائبُ الراجِع؟! ويا لها من مُوقِظة فأين النادِمُ الخاشِع؟!

يُؤمَرُ الخليلُ بذبحِ ولده، فيُباشِرُ الذبحَ بيده، وتستكبِرُ نفوسٌ على الشرع الحكيم، وتستنكِفُ أن تلِينَ وتستكينُ لأحكام الدين، فويلٌ للمُستنكفين المُستكبِرين، الرافضين للحق، المُضلِّين للخلق، يوم يُحشَرون صاغِرين حقِيرين ذليلين: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور: 25].

أيها المسلمون: ومضَت سنةُ الأضاحِي عَلَمًا للملَّة الإبراهيمية، وسنةً في الشريعة المُحمَّدية، تُذكِّرُ بالتضحية والفداء، والصدقِ والوفاء، والصبر والثبات عند المِحنة والبلاء، وحُسن الاستجابةِ لله في السرَّاء والضرَّاء.

مضَت قصةُ إبراهيم وهاجر وإسماعيل تُبينُ بأن الإسلام ليس بمحضِ التسمِّي والانتماء، ولا بمحضِ الانتِساب والادِّعاء، ولكنه إيمانٌ راسخ، يقينٌ صادق، علامتُه الخُضوع والانقياد الذي لا يصُدُّ عنه صادٌّ، ولا يردُّ عنه رادٌ، ولا يحمِلُ على تركه مُضاد.

مضَت قصةُ الابتلاء العظيم تُذكِّرُ أمةَ الإسلام وهي تُعالِجُ أمواجَ البلاء بأنه لا حُجَّةَ في الزيغِ عن منهاجِ الاستقامة، ولا شُبهة للحِياد عن وجه الحق، ولا تعلُّل للتعالِي عن واضح المحجَّة، ولا معاذِيرَ في المُلايَنَة على حساب العقيدة والدين.

فسلامٌ على أبي الأنبياء، وسلامٌ على إمام الحُنفاء: (سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الصافات: 109].

عباد الله: إن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم -أيها المؤمنون- من جنِّه وإنسِه، فقال قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصر عبادك المُوحِّدين، ودمِّر الطغاة والبُغاة والمُعتدين، ودمِّر الطغاة والبُغاة والمُعتدين يا رب العالمين.

اللهم أدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها، وعِزَّها واستقرارها، ووفِّق قادتَها لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين.