الخالق
كلمة (خالق) في اللغة هي اسمُ فاعلٍ من (الخَلْقِ)، وهو يَرجِع إلى...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
إن الحدث جَلل، وهو يملي كلاماً كثيراً ينبغي أن يُقال، ولو باختصار؛ تذكيراً وترشيداً للتعامل الأمثل مع مثل هذه الأحداث، التعامل الذي يبقى أثرُه، ويمتد نفعُه بإذن الله، والذي يمكن تلخيصُه في الوقفات التالية:
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي قهر بقوته القياصرة، وكسر بعظمته جبروت الأكاسرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقصم من يشاء من الظالمين في الدنيا، ويؤخّر من شاء إلى الآخرة.
وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، الذي صارت أمّته -لما تمسكت بدينها- لما سواها من الأمم قاهرة، وبدينها على سائر الأديان ظاهرة، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، الذين جاهدوا في الله حق جهاده، فأورثهم عز الدنيا والآخرة.
أما بعد: فليس ثمة حدثٌ يَفرض نفسَه اليوم كالحديث عن جرحنا في حلب، ولن تكون فصاحة الخطباء -مهما بلغت- بأبلغ من صور النازحين والهاربين على وجوههم، الفارين بدينهم، الخائفين على أعراضهم، المشفقين على أطفالهم وشيوخهم.
أوّاهُ يا حلبَ الأمجادِ يا لُغة | من الشموخِ طوى إبداعَها الصّخبُ |
حربٌ تُشَنّ بلا وعيٍ ولا خُلُقٍ | فالطفلُ يُقتَلُ والأعراضُ تُغتَصَبُ |
إن الحدث جَلل، وهو يملي كلاماً كثيراً ينبغي أن يُقال، ولو باختصار؛ تذكيراً وترشيداً للتعامل الأمثل مع مثل هذه الأحداث، التعامل الذي يبقى أثرُه، ويمتد نفعُه بإذن الله، والذي يمكن تلخيصُه في الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: إلى الذين ما زالوا مغترين بمنظمات حقوق الإنسان، ألم ينكسر هذا الصنمُ من قلوبكم؟ ألم تتيقنوا بعدُ أن هذا القانون إنما صمِّم لدماء معيّنة، وبلدان معينة؟.
الوقفة الثانية: إن هذه الأحداث أثبتت أنه مهما تغير الأشخاص، وتغيرت الأزمان، وتبدلت المصالح؛ فإن الحقائق القرآنية التي نزلت على قلب نبينا -صلى الله عليه وسلم- لا تزال ثابتةً تتجدد، وهذه الحقائق منها ما يخص الكافرين والظالمين، ومنها ما يخص المؤمنين.
تأمل مثلاً هذه الحقيقة: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة:120]، ومنها: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [النساء:89]؛ فهاتان الحقيقتان تختصران لك كل محاور الاجتماعات واللقاءات التي تتم بينهم، وتُبين لك سراً من أسرار هذا التواطؤ العالمي، والصمت العجيب عن هذه المجازر التي لو وقعت أمثالها على كلابٍ لانتفضوا مستنكرين! أما حين يكون القتلى والمشردون مسلمين؛ فيكفي أن يعلن الأمين العام للأمم المتحدة عن قلقه تجاه ما يحدث!.
ومن تلك الحقائق القرآنية التي يراها المؤمن ماثلةً للعيان: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:141].
ومنها: ظهور سنة المدافعة بين الحق والباطل لمنع فساد الأرض: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقرة:251].
ومنها: معرفة حقيقة أعداء الإسلام: (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام:55].
ومنها: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران:140].
ومنها: أن يدرك القائمون على شأن الجهاد هناك ضرورة جمع الكلمة، وإلا حقّت سنة الله عليهم: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال:46]، وهذا ما يشاهَد الآن، فهل من وقفة صادقة عاجلة من قادة الجهاد هناك؟!.
ومنها: وهي من الحقائق البالغة البليغة، وهي قوله -تعالى-: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران:179]، وقد جاءت تعقيبًا على غزوة أُحد وما وقع فيها من هزيمة وبلاء، يقرؤها المؤمنُ لتلفت نظره إلى زاوية أخرى في أمثال هذه المصائب العظام، وهي أن لله -تعالى- في تقدير هذه المحن حِكَماً عظيمة، منها: ما أشار إليه ابن القيم بقوله: "فلولا ذلك التسليط لم تظهر فضيلةُ الصبر والعفو والحلم وكظم الغيظ، ولا حلاوة النصر والظفر والقهر، فإن الأشياء يظهرُ حسنُها بأضدادها، ولولا ذلك التسليط لم تستوجب الأعداء المحقَ والإهانةَ والكبتَ، فاستخرج بذلك التسليط ما عند أوليائه؛ فاستحقوا كرامتَهم عليه، وما عند أعدائه؛ فاستحقوا عقوبتَهم عليه، فكان هذا التسليط مما أظهر حكمتَه وعزتَه ورحمتَه ونعمتَه في الفريقين، وهو العزيز الحكيم" اهـ.
وغيرها من الحقائق القرآنية، التي لا يزداد المؤمنُ بتلاوتها وتدبّرها إلا يقينًا بأن هذا القرآن من عند الله، وأن النجاة من هذا الخزي والذل والعار لن يكون إلا بالرجوع إليه جملةً وتفصيلاً؛ وأن هذا الهوان الذي لبسته أمةُ الإسلام لن يخلعه عنها ولن يزيله إلا عودةٌ صادقة شاملة للعمل بالقرآن والسنة.
الوقفة الرابعة: لقد أثبت الحدَث أن في الأمة خيراً كثيراً، وأن رابطة الدين هي الرابطة الأعلى والأقوى، ومن يتابع مواقع التواصل الاجتماعي سيدرك ذلك بلا عناء، وسيرى حقيقة: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10] ظاهرةً للعيان، فما الذي رسم تلك الصور العظيمة من الحزن والغضب التي عبّرت عنها الملايين؟ ولكأن القتلى آباؤهم أو أمهاتهم أو أولادهم! وهل هذا إلا معنى من معاني الجسد الواحد؟! إنه الرابط الديني!.
وإن المواطنين ليأملون أن يوجّه وليّ الأمر -وفقه الله- بإطلاق حملةِ تبرعات شعبية عاجلة نضمّد بها بعض الجراح التي كست تلك الأجساد التي أنهكها البلاء، وشتتها الأعداء، كما فعل بعضُ إخواننا في الخليج، فلعلها تكون سببًا في دفع البلاء عنّا، وتعجيل النصر على عدونا في الجنوب، فبلادنا بلادٌ طالما نالَ خيرَها بلدانٌ لا تداني مآسيها مأساة أهلنا في حلب، وأهلُ هذا البلاد فيهم خيرٌ كثير، والأموالُ ستتدفق بعشرات ومئات الملايين فور البدء بهذه الحملة.
الوقفة الخامسة: ينبغي علينا جميعاً -ونحن نشاهد ما نشاهد من أذى وقرْح- أن نكون متفائلين تفاؤلاً إيجابيًا، وأعني بالتفاؤل الإيجابي: اليقين التام بأن دين الله منصور، وأن نصره متحقِّق بنا أو بغيرنا، وأن يدفعنا هذا الفأل إلى العمل الجاد المثمر، والتوبة من الذنوب على مستوى الأمة والأفراد.
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه على الثقة بموعود الله، وعلى التفاؤل وعدم اليأس في أحلك الظروف، فعندما اعترضت للصحابة صخرةٌ في حَفْرِ الخندق جاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأخذ المعول فضربها ثلاث ضربات، في الضربة الأولى يبشّر بفتح بلاد الروم، وفي الثانية بفتح فارس، وفي الثالثة بفتح اليمن؛ ثم يأتيه الخبر بنقض بني قريظة للعهد، فهل خار أو تحطم؟! لا، بل زاد تفاؤله، فقال: "الله أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين".
وما أحوجنا إلى هذا الدرس في هذه الأحداث العصيبة! فمهما كان واقع الأمة مؤلماً، يفرض على كثير من المسلمين أقسى الظنون؛ إلا أنها في طريق التغيير الإيجابي تسير، وهي الآن أفضل بكثير من سنوات مضت، فلا ينبغي استبطاء النصر، واستعجال الظفر.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإن من أهم ما ننصر به إخواننا في هذه المحنة العظيمة:
أولا: التذكير بقضيتهم في مجالسنا، وبمختلف الوسائل الإعلامية، وهي اليوم بأيدي الناس أكثر من أي وقت مضى: هذا يغرد، وهذا يذكّر بالدعاء، وهذا يحثّ على التوبة، وهكذا.
ثانيا: الحذر من نقل الأخبار غير الموثوقة، ونشر الشائعات؛ فإنها تفُتُّ في العضد، وتوهن الهمّة، وتقتل العزيمة؛ والعدوّ ليس بغافل عن أثر هذه الإشاعات وأثرها السلبي، ألسنا نذكر كيف أشاع الشيطان يوم أُحد خبر قتل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكيف أوهن هذا في صفوف بعض المسلمين؟!.
ثالثا: التواصي بالدعاء المقترن بالتضرع، الدعاء الذي يجعلك تستجمع مشاعرك وأحاسيسك، الدعاء الذي يجعلك تدعو وكأن أهلك أو بعض أهلك هناك يعانون الحصار، وتخشى عليهم القتل أو هتك العرض. لقد وصف الله دعاء المؤمنين في بدر فقال: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) [الأنفال:9].
ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- كثير التضرع والدعاء والاستعانة بالله, وخصوصًا في مغازيه، وعندما اشتد الكرب على المسلمين في أَحد مغازيه قال: "اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب؛ اهزمهم، وانصرنا عليهم" متفق عليه، فاستجاب الله -سبحانه- دعاء نبيه -صلى الله عليه وسلم-. فلله درُّ رجال ونساء استيقظوا وأيقظوا أولادَهم آخر الليل -حيث يتنزل الربُّ جل جلاله، وحيث تشتد الرغبة للنوم- فقاموا، لا لشيء، إلا ليرسلوا سهام الليل بالدعاء لإخوانهم هناك في (حَلب)، وفي (الحدّ الجنوبي)، وفي (الموصل)، وفي (اليمن)...
هكذا فلتكن المشاعر، وهكذا فلتكن الترجمة العملية للعيش مع الأحداث، بدلاً من النواح والبكاء السلبي.
فأروا الله من أنفسكم خيراً أيها الناس، وخصوصاً في يوم الجمعة الذي فيه ساعة لا يوافقها عبد قائم يصلي -أي: ينتظر الصلاة ويتحراها- إلا استجيب له.
وختاماً، لقد حدّثنا التاريخ أن (حلب) تعرّضت منذ منتصف القرن الرابع الهجري لحوادث عدوان فظيعة، استبيحت فيها الدماء والأموال، وانتهكت فيها الأعراض؛ بسبب بغي النصارى والباطنية ومِن بعدهم التتار، ثم عادت (حلب) إلى حاضنتها السنية، وأرضها الإسلامية، بعد أن كانت سلباً لأعداء الدين؛ وإننا لننتظر القصاص الإلهي العادل من المجرمين والمتواطئين على هذا الظلم العظيم الذي يقع على أهلنا في (حلب) و(الموصل)، فإن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102].
إلهي.. إلهي..:
مثلَــما أبدلْتَنــا يا ربِّ | بعـدَ الليلِ… صُبْحا |
أبدلِ اللهُمَّ حالَ الشـــامِ | بعد الضيقِ… فَتْحا |
يا ربّ وحدَك أنتَ المستعانُ فما | نرجو سواكَ إذا ما اشتدّت الكُرَبُ |
إيمانُنا بك يطوي كلَّ ما نشروا | من المآسي، ويُنهي كلّ ما جلَبوا |