الله
أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...
العربية
المؤلف | عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
في سِيرة سيد البَشرِ مُحَمِدٍ -عليه الصلاة والسلام- نَستَلْهِمُ فَهمَهُ لِلإِسلامِ، وَتَفْسِيَرهُ لِلقُرآنِ، وَتَنْزِيلَ ذَلكَ عَلى واقعٍ مؤلم ومصائب وأحزان؛ فاستحضروا قُلُوبَكُم؛ مَحَبةً لِلرسولِ العَظيمِ، وعزاءً لمصائبنا بفقده، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصابه بي -أي: بفقدي- فإنها أعظم المصائب" رواه الطبراني وصححه الألباني. اللهم اجبر مصابنا بفقده -صلى الله عليه وسلم-.
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ وحده، وأَشهَدُ أَلا إِله إِلا اَللهُ وَحَدَهُ لا شَريكَ لَهُ وأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَدَاً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، المصطَفَى مِن جَميعِ خَلقهِ، صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وصَحبهِ وسَلمَ تَسليمَاً.
أما بعد: أَيُّهَا الإِخوةُ المؤُمِنُونَ، اِتقُوا اَللهَ -تَعَالى- وتُوبُوا إِليه.
في سِيرة سيد البَشرِ مُحَمدٍ -عليه الصلاة والسلام- نَستَلْهِمُ فَهمَهُ لِلإِسلامِ، وَتَفْسِيَرهُ لِلقُرآنِ، وَتَنْزِيلَ ذَلكَ عَلى واقعٍ مؤلم ومصائب وأحزان؛ فاستحضروا قُلُوبَكُم؛ مَحَبةً لِلرسولِ العَظيمِ، وعزاءً لمصائبنا بفقده، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصابه بي -أي: بفقدي- فإنها أعظم المصائب" رواه الطبراني وصححه الألباني. اللهم اجبر مصابنا بفقده -صلى الله عليه وسلم-
مضى طاهر الأثواب لَم تبق روضةٌ | غداةَ مَضَى إلا اشتهت أنَّهـا قبرُ |
عليـك سـلامُ الله وقفًـاً فإنَّنِي | رأيتُ الكريمَ الْحرَّ ليسَ لـه عمرُ |
حَيَاتُه -صلى الله عليه وسلم- كَريمةٌ حَافَلَةٌ بِالخيرِ وَالعَطَاءِ، واللهُ -تعالى- لم يَكتُبْ الخُلُودَ لبَشَرٍ مَهَمَا عَلت مَنْزِلَتُهُ.
مات -صلى الله عليه وسلم- وَقَد بَيّنَ الإِسلامَ حَقَ البيانِ، وَما ترك شَيئًا إِلا وَأَعطى فِيهِ البُرهَان، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً) [المائدة:3]، وحمى الله دينَه ودعوتَه وَعَصمَ رَسُولَهُ ورسالته، وَهَذا أَعلى مَراتِبِ اليَقينِ، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:64].
وَفِي خُطْبَةِ عَرفةَ قَالَ: "أَيُّهَا النَاس، إِنكُم سَتُسَأَلُونَ عَني، فَماذَا أَنتم قَائِلون؟"، فَقَالوا: نَشهَدُ أَنكَ بَلّغت الرِسالةَ، وَأَدَّيتَ الأَمانَةَ، وَوَفّيتَ، وَأَديتَ الذي عَليكَ كُلَّه، ثُمَ رَفعَ -صلى الله عليه وسلم- سَبّابَتهُ إِلى السَمَاءِ ثُمَّ نَكَتَهَا إِلى الأَرضِ، ثُمَ قَال: "اَللهُمَّ فَاشهَدَ".
شَعَرَ -صلى الله عليه وسلم- بِوَعْكَةِ المرضِ الذي نَزَلَ بِهِ أَواخِرَ صَفرٍ مِنْ السَنَةِ الحَادِيةَ عَشرةَ حَتَى ثَقُلَ عَليهِ الوَجَعُ فَأَذِنَّ لَهُ نِسَاؤُهُ أَن يُمَرَّضَ فِي بيتِ عَائِشَةَ -رَضي اللهُ عَنهَا- لِمَا رَأَين مِن اِرتياحهِ لهَا، واشتدّتَ وطأَةُ المرَضِ وَالحرارةِ عليه -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "هَرِيقُوا عَليَّ سَبعَ قِرَبٍ مِنْ آبَارٍ شَتَى حَتَى أَخْرُجَ إِلى النَّاسِ فَأَعْهَدَ إِليهِم"؛ فَأَقْعَدْوهُ في مِخْضَبٍ لِحَفصَة، ثم صَبّوا عَليهِ الماءَ حَتى طَفِقَ يَقولُ: "حَسْبُكُم!".
وَعِندَمَا أَحَسَّ بالنشاط استَدعَى الفَضلَ بن عَمِّهِ اَلعبَاس فَقَالَ: "خُذْ بِيَدي يَا فَضل"، وَهُوَ مَوعُوكٌ مَعصُوبُ الرَأَسِ، فَدَخَلَ اَلمسجِدَ وَجَلَسَ عَلى المنبَرِـ ثُمَّ نَادَى مُنَادٍ فِي النَّاسِ فَاجتَمعُوا إِليهِ، ينظرون إِلى اَلرَجُلِ اَلَذي أَحيَا مَواتَ القُلُوبِ بِإِذنِ اللهِ، وَأخْرَجَهُم وَذُريَاتِهِم وَنِسَاءَهُم مِن الظُلُمَاتِ إِلى النُورِ بِدينِ اللهِ، تَطَلَّعت إِليهِ الأَعْيُنُ الحَائِرةُ فَرأَتهُ مُتعَبَاً اِنَهَزَمت اَلَعَافِيةُ فِي بَدَنِهِ الجَلد، إِلا أَنَّهُ أَخذَ يُحَدِّثُهُم ويُرَبِيهِم كما عَهدوه دَائِمَاً وأَنصَتُوا فَإِذَا هُم يَسمَعُونَ مِنهُ عَجَبَاً: "أَمَّا بَعدُ: أَيُّهَا النَاسُ، فَإنِّي أَحَمَدُ اَللهَ الذي لا إِلهَ إِلا هُوَ، فَمَن كُنتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهَرَاً، فَهَذَا ظَهري فَلَسيتقدْ مِنهُ، وَمَنْ كُنتُ شَتَمتُ لَهُ عِرْضَاً فَهَذَا عِرْضِي فَلَيَسَتَقِدْ مِنهُ، أَلا وَإِنَ الشَحَنَاءَ لَيستَ مِنْ طَبعِي وَلا مِنْ شَأَني، أَلا وَإِنَّ أَحبَّكُم إِلىَّ مَنَ أَخَذَ مِنّي حَقَاً إِنَ كَانَ لَهُ أَحَلَّني مِنهُ فَلَقَيتُ اللهَ وَأَنَا طَيبُ النَفس"؛ قَالَ الفَضلُ: ثُمَّ نَزلَ فَصلى الظُهرَ وَعَادَ إِلى بَيتهِ.
ثم خرج -صلى الله عليه وسلم- بعدها عَلى اَلمنبِرِ فَقَالَ: "إِنَ عَبداً خَيَّرهُ اَللهُ بَينَ أَنَ يُؤتِيَهُ مِنْ زَهَرَةِ الدُنيَا مَا شَاءَ وَبَينَ مَا عِندَ اَللهِ، فَاختَارَ مَا عِندَ اَللهِ"، فَبَكَى أَبو بَكرٍ وقَالَ: فَديتُكَ بِآبَائِنَا وَأُمهَاتِنَا يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ أَبو سَعيدٍ: فَتَعَجَّبنَا لَهُ، فَكَانَ -صلى الله عليه وسلم- هُوَ اَلمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكرٍ أَعلَمَنَا بِهِ، فقال -صلى الله عليه وسلم- لأَبِي بَكرٍ: "عَلى رِسلِكَ يَا أَبَا بَكرٍ"، وقال: "اُنْظُرُوا هَذِهِ الأَبَوابَ اللافِظَةَ فِي المسْجِدِ فَسدُّوهَا إِلا بَيتَ أَبِي بَكرٍ، فَإِنِّي لا أَعلَمُ أَحَداً كَانَ أَفْضَلَ فِي اَلصُّحُّبَةِ عِندي يَداً مِنهُ، فَإِنِّي لَو كُنْتُ مُتَخِذَاً مِنْ اَلعِبَادِ خَلِيَّلاً لاتَخَذتُ أَبَا بَكرٍ خَلِيلاً، وَلَكِنْ صُحُبَةٌ وَإِخَاءٌ وَإِيِمَانٌ حَتى يَجمَعُ اللهُ بَينَنَا عِندهُ" متفق عليه.
وَزَاد المرضُ عَليه -صلى الله عليه وسلم- حَتَى تَأثرت فَاطِمَةُ مِنْ شِدَةِ مَا يَلَقَى فَقَالت -رَضِيَ اللهُ عَنَهَا-: وَاكَربَ أَبَتَاهْ! فَقَالَ: "لا كَربَ عَلى أَبيكِ بَعدَ اليَوم" رَوَاهُ البُخَاريُّ.
وَأُغميَ عَليهِ مِرَارَاً، وَكَانَ إِلى جِوَارِهِ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ، يَغَمِسُ فِيهِ يَدَهُ ثُمَّ يَمسَحُ وَجْهَهُ الشريفَ بِالماءِ وَيَقُولُ: "لا إِلَهَ إِلا اللهَ! أَلا وَإِنَّ لِلمَوتِ سَكَرَاتٍ! اَللهُمَّ أَعِنّي عَلى سَكَرَاتِ الموتْ" أخرجه البخاري. تَقُولُ عَائِشَةُ: "كَانَ إِذَا اِشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفسِهِ بِالمعَوِّذَاتِ وَمَسَحَ عَنهُ بِيَدهِ" مُتَفَقٌ عَليهِ.
وَحينَ عَجزَ -عليه الصلاة والسلام- عَن الصَلاةِ بِالنَاسِ اِستَقَدَمَ أَبَا بَكرٍ لِيَؤُمَّهُم فَخَشِيتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اَللهُ عَنهَا- من الناس فَقَالتْ: إِنَّ أَبَا بَكرٍ رَجُلٌ رَقيقٌ، وإِنهُ حَتى يَقُمْ مَقَامَكَ لا يُطِيقُ، فَقَالَ: "مُرُوا أَبَا بَكرٍ فَلَيُصَلِّ بِالنَاسِ"، فَكرَرَت عَائِشَةُ اِعتِرَاضَهَا، فَغَضِبَ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ: "إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ! مُروا أَبَا بَكرٍ فَلَيُصَلِّ بِالنَاسِ"، يَأَبَى اَللهُ ذَلِكَ وَالمسلِمُونَ إِلا أَبَا بَكرٍ، وَكَرَرَّهَا، فَصَلَّى أَبُو بَكرٍ بِالنَّاسِ سَبعَ عَشرةَ صَلاةً.
وصَحَّ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: "إِنِّي أُوُعَكُ كَمَا يُوعَكُ اَلرَجُلانِ مِنكُم". ورغم فيح الَحُمَى وَحِدَةِ مَسِّهَا لِبَدَنِهِ ظَلَّ -عليه الصلاة والسلام- يَقِظَ الذِهنِ، مَهمُومَاً بِتَعَالِيمِ الرِسَالَةِ، حَرِيصَاً عَلى تَذكِيرِ النَّاسِ بِهَا، وَإِخلاصِ التَوحيدِ لِلهِ، فكان وَهُوَ يُعَالِجُ سَكَراتِ الموت يَطرحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلى وَجهِهِ فَإِذَا اِغتَّمَ كَشَفَهَا فيقول: "أَلا لَعنَةُ اَللهِ عَلى اَليَهُودِ وَالنَصَارَى! اِتَخَذُوا قُبُورَ أَنَبِيَائِهِم مَسَاجِدَ"، يُحَذِّرُ مَا صَنعُوا رواه البخاري.
وكأنه -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك لمبتدعةٍ رأيناهم قبل أيام بالمسجد النبوي يستقبلون القبر ويستدبرون القبلة ويدعون الرسول من دون الله ويشركون! وَعَن أَنَسِ بِن مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانت عَامَةُ وَصِيتهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ حَضَرَهُ اَلموتُ: "اَلصَلاةَ الصلاةَ! وَمَا مَلَكَت أَيَمَانُكُم!" حَتَى جَعَلَ -صلى الله عليه وسلم- يُغَرِغِرُ بِهَا صَدره ومَا يَكَادُ يَفَيضُ بِهَا لِسَانُهُ. أَخرَجَهُ اِبنُ مَاجَه وَأَحمد.
وكان -صلى الله عليه وسلم- مُعَلّقَ اَلقَلبِ بِشُؤُونِ أُمَتِهِ، فأَرادَ أَن يُطمْئِنَهُ عَلى كَمَالِ اِنقِيَادِهَا وَحُسنِ إتباعها، فَأشهَدَهُ آخِرَ وَقَتٍ حَضَرهُ وَهُوَ في الدُنيَا، إِذ أَقبلَ المؤُمنونَ إِلى اَلمسجِدِ فَجرَ الاثنَينِ الثَالِث عَشرَ مِن رَبيعٍ الأَولِ، وَاِصطَفُوا لِصَلاتِهم خَاشِعِينَ مُخَبِتِينَ خلف الصدّيق، وَرَفَعَ -صلى الله عليه وسلم- السِترَ المضرُوبَ عَلى مَنزِلِ عَائِشَةَ وفَتَحَ البَابَ وبَرزَ لِلنَاسِ، فَكَادَوا يَفْتَتِنُونَ فِي صَلاتِهِم اِبتِهَاجَاً بِرُؤيَتِهِ -صلى الله عليه وسلم- ظَناً مِنهُم أَنَّهُ شفيَ، وَانفَرجوا يَفسَحُونَ لَهُ مَكَانَاً، فَأَشَارَ بِيَدِهِ الَكَرِيمَةِ أَن اثبتُوا عَلى صَلاتِكم، وتَبَسَّمَ -صلى الله عليه وسلم- فَرِحَاً مِنْ هَيئَتِهِم فِي صَلاتِهِم واِنِتِظَامِهِم كَالبُنيَانِ المرصُوصِ كَأَنَّهُ يُوَدِعُ مشهدهم، قَالَ أَنسُ بن مَالكٍ -رضي الله عنه-: "مَا رَأَيتُ رَسُولَ اَللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَحسنَ هَيئَةً مِنهُ فِي تِلكَ السَاعَةِ!".
ثُمَّ رَجَعَ، وانصَرَفَ النَّاسُ، وهُم يَظُنُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَفَاقَ مِن وَجَعِهِ، حتى إن أبا بكر خرج إلى ضَواحي المدينةِ، قَالت عَائِشَةُ -رَضِي اَللهُ عَنهَا-: وَعَادَ -صلى الله عليه وسلم- مِن المسجدِ فَاضْطَجَعَ فِي حِجري، ودَخلَ عَلينَا رَجُلٌ مِن آل أَبِي بَكرٍ فِي يَدِهِ سِوَاكٌ أَخضر، فَنَظَرَ رَسُولُ اَللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلى يَدِهِ نَظرَاً عَرَفتُ مِنهُ أَنَّهُ يُريدهُ فَأَخَذَتُهُ فَأَلَنَتُهُ لَهُ ثُمَّ أَعطيتُهُ إِياهُ، فَاَستَنَ بِهِ كَأَشَدِّ مَا رَأيتُهُ يَستَنُ بِسِوَاكٍ قَبلَهُ، ثُمَّ وَضَعَهُ، ووَجَدتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَثقلُ فِي حِجري فَذهبتُ أَنظرُ فِي وَجهِهِ فَإِذَا نَظَرُهُ قَد شَخصَ، وَكَانَ -كَمَا في الحديثِ- يَنظُرُ مَقْعَدهُ مِن اَلجنَّةِ ويخَيرُ -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُ: "بَلِ اَلرَفِيقَ اَلأَعلى"، وَيَقرأُ: (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) فقُلتُ: "خُيّرتَ فَاخَترتَ والذي بَعَثَكَ بِالحَقِ!".
وَقُبِضَ رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَتَسَرَّبَ النَبَأُ الفَادِحُ مِن البَيتِ المَحزُونِ وَلَهُ طَنينٌ فِي الآذانِ، وثِقَلٌ تَرزَحُ تَحتَهُ النفُوسُ والأبدان، وَتَدُورُ بِهِ البَصَائِرُ والأبصار، وَشَعَرَ المؤُمِنُونَ أَنَّ آفاقَ المدِينَةِ أَظلمت، فَتَركَتهُم لَوعَةُ الثكلِ حَيَارَى لا يَدرونَ مَا يَفعلُون. وَقَفَ عُمرُ بنُ الخَطَابِ -رضي الله عنه- غَاضِبَاً شاهراً سيفه يتهم بالنفاق من يقول بموته -صلى الله عليه وسلم-.
وَأَقبلَ أبو بكرٍ بإِيمانهِ وثَبَاتِهِ حَتى نَزلَ عَلى بَابِ المسجِدِ حِينَ بَلغهُ الخبرُ وعُمر يُكلم النَاسَ فَلم يَلتَفِتْ إِلى شَيءٍ حَتَى دَخلَ عَلى رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُو مُسجَّى بِبُردَةٍ، فَكَشَفَهَا عَن وَجِهِهِ الشَريفِ، ثُمَّ أَقبلَ عَليهِ فَقَبَّلهُ وَقَالَ: "بِأَبِي أَنتَ وَأُمي يَا رَسُولَ اللهِ! مَا أَطيبكَ حَيَّاً وَمَيتاً! أَمَا الموتَةُ التَي كَتَبَهَا اللهُ عَليكَ فَقَد ذُقَتَهَا، ثُمَّ لَن يُصيبكَ بَعدَهَا مَوتٌ أَبداً". ثُمَّ غَطَى وَجهَهُ الشريف -صلى الله عليه وسلم-.
وخرجَ وَعُمرُ يُكَلِّمُ النَاسَ فَقَالَ: "عَلى رسلكَ يَا عُمر، أَنصِت!"، فَأَبى إِلا أَنَ يَتَكّلَمَ، ثُمَّ أَقبَلَ عَلى النَاسِ، فَلمَّا سَمِعَ النَاسُ كَلامَهُ أَقبَلوا عَليهِ وَتَركوا عُمر، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثنَى عَليهِ ثُمَ قال: "أَيُّهَا النَاسُ، إِنه مَن كَانَ يَعبدُ مُحَمَداً فَإِن مُحَمَداً قَد مَاتَ، وَمَن كَانَ يَعبدُ اللهَ فَإِنَ الله حَيٌ لا يَموتُ"، ثم قرأ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ). فَواَلله! لَكَأنَّ النَاسَ لَم يَعَلْمُوا أَنَّ هَذهِ الآيةَ نَزَلَت حَتى تَلاهَا أَبُو بَكرٍ يومئذٍ وأخذَها الناسُ عنه! قَالَ عُمرُ: "فَوَاللهِ! مَا هُوَ إِلا أَن سَمِعتُ أَبا بَكرٍ تَلاهَا فَعَقرتُ حَتَى وَقَعتُ إِلى الأَرضِ ما تَحمِلُني رِجلاي، وعَرفَتُ أَن رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَد مَاتَ".
وَفِي النَّسَائِي أَنَ فَاطِمةَ -رضي الله عنها وأرضاها- تبكيه -صلى الله عليه وسلم- فتقولُ: "يا أبتاه! أجاب رباً دعاه، يَا أَبتَاهُ! من رَبِّهِ مَا أَدَنَاه، يَا أَبَتَاهُ! إِلى جِبريل نَنْعَاهُ، يَا أَبَتَاهُ! جَنَّةُ الفِردوسِ مَأَوَاهُ"، وَلما دُفنَ تَقُولُ فَاطِمَةُ: "يَا أَنس، أَطابت أَنفُسُكُم أَن تَحثُوا عَلى رَسُولِ اللهِ التُرَابَ؟" رواه البخاري.
وَكَتَبَ اللهُ نِهَايَةَ اَلرَسُولِ اَلكَرِيمِ -صَلواتُ اَللهِ وَسَلامُهُ عَليهِ- بَعد أَن أَكمَلَ اللهُ لَهُ الدينَ، يَقُولُ أَبُو ذَرٍ -رضي الله عنه-: "وَاللهِ! مَا تُوفَي -صلى الله عليه وسلم- وَطَائِرٌ يَطيرُ بِجَنَاحَيهِ إِلا وَأَعَطَانَا مِنهُ خَبَراً"، وَيَقُولُ أَنَسٌ -رضي الله عنه-: "مَا رَأيتُ يَومَاً قَطُّ فِي المدينَةِ كَانَ أَحسنَ وَلا أَضوأَ مِن يَومٍ دَخلَ عَلينَا فِيهِ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، وَمَا رَأَيتُ يَومَاً كَانَ أَظلمَ عَلى المدينَةِ مِن يَومٍ مَاتَ فِيه -صلى الله عليه وسلم-، ولقد توفي -صلى الله عليه وسلم- وهُوَ قَائِدُ اَلأُمَّةِ المؤتَمَنُ عَلى أَموالِهَا وَعَتَادِهَا وَبِيَدِهِ خَيرَاتُهَا فكانت دِرعُهُ مَرهُونَةً عِندَ يَهُودِيٍّ بِثَلاثِينَ صَاعٍ مِن شَعيرٍ، ورُبما مرّ عليه شهر أو شهرانِ لم يُوقد في بيتهِ نار، وكان يربطُ الحجرَ على بطنهِ من الجوعِ، ورُبما نام على فراش فأثّر على جنبه الشريف".
وكتب الله له الشهادة، فكَانَ فِي اِحتِضَارِهِ -صلى الله عليه وسلم- يَظهَرُ عَليهِ أَثَرُ السُمِّ مِن الأَكلَةِ التي أَكلَهَا فِي خَيبر مِن اليَهُودِيَةِ، فيَقُول: "يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلم الطَعَامِ الذي أَكلتُ بِخَيبَر، فَهَذَا أَوَانُ وَجدتُ اِنقِطَاعِ أبْهُري مِن ذَلِكَ السُمِّ" رواه البخاري.
يقول حسان -رضي الله عنه-:
بطيبةَ رسمٌ للرسول ومعهــدُ | منيرٌ وقد تعفو الرسومُ وتهمَدُ |
وأمست بلادُ الحرْمِ وحْشاً بقاعُها | لغيبة ما كانت منَ الوحي تعهدُ |
وما فقدَ الماضونَ مِثلَ محمــدٍ | ولا مثلُه حتى القيامةِ يفــقدُ |
تناهتْ وُصاةُ المسلمين بِكَــفّهِ | فلا العلمُ محبوسٌ ولا الرأيُ يُفْنْدُ |
وغُسِّل -صلى الله عليه وسلم- مِن غَيرِ أَنَ يُجَرِدُوهُ مِن ثِيَابِهِ، وَغَسَّلَهُ أَقَارِبُهُ ثُمَّ كَفَنُوهُ وهُوَ سَيدُ وَلدُ آدم وَخَيرُ خَلقِ اَللهِ، وَأقسمَ اَللهٌ لهُ بَأَنَّهُ مَا وَدَّعهُ وَمَا قَلاهُ، وَمعَ ذَلكَ كُفِّنَ كَمَا كُفِّنَ الموتَى، ثُمَّ وَضعوهُ فِي قَبْرهِ، وَحثوْا الترابَ على قَبرِهِ الشَريفِ الطَاهرِ.
ودُفِن في بيته؛ لأن كلَّ نبيٍّ يُدفنُ حيثُ مات، وكما تقول عائِشَةُ -رضي الله عنها-: "حتى لا يُتَخَذَ قبرهُ عيداً أو معظماً"، كما يفعله البعض اليوم، مع الأسف!.
يـا خيرَ من دُفنتَ في القاع أعظُمُه | فطـاب من طيبهنَّ القاعُ والأكمُ |
جَعَلَنَا اللهُ وإياكم مِن أَهلِ سُنتِه، المتبعين لملّتِه، وَجَمَعَنَا بِهِ فِي جَنَتهِ، وَأَكرَمَنَا بشفاعته. اللهم صلّ على نَبِيِّنَا صَلاةً دَائِمَةً أَبَداً، وَارزُقنَا صُحبَتَهُ فِي عِليينَ، مَعَ النَبِيَّينَ والصِدِيقينَ والشُهَدَاءِ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: أيها المؤمنون، اعَلَمُوا أَنَّهُ لَو نجا أَحدٌ مِن الموتِ لَنَجَا مِنهُ خَيرُ البَرِيةِ -صلى الله عليه وسلم-، توفي بَعدَ أَنَ أَدَّى الأَمَانَةَ وَنَصَحَ الأُمَةَ وَتَرَكَهَا عَلى المحجَّةِ البَيضَاءِ لا يَزِيغُ عَنهَا إِلا هَالِك، لكن الأمة غفلت عن توجيهه وسنته، وحُرفت محبّته لتكون بدعاً وشركاً لم يفعله أقرب الناس منه وإليه، فعذراً يا رسول الله عذراً لما قصّرنا في محبتك واتباع سنتك وانحراف بعضنا عنها! عذراً يا رسول الله لما استبدل بعضنا التوحيدَ والنقاء بالشرك والغلوّ والجهل والغثاء! يشركون مع الله ويعلمون أولياء!.
عذراً يا رسول الله ونحن نرى أمتنا ضعيفةً متخاذلةً تُسلب مقدساتها وأرضُها، وأنت -بتوفيق الله- من زرع فينا عزة الجهاد والحميّة للإسلام والمسلمين! عذراً يا رسول الله! فدماء المسلمين تُراق، وأعراضهم تنتهك، وأطفالٌ أبرياء يؤذون في حلب والموصل ويُعذبون في بورما، والله ثم والله! ما بيدنا حيلة لنصرتهم! فمعذرةً لله ولرسوله وللمؤمنين.
عذراً يا رسول الله أن قصرنا في حقهم وماطلنا في الدعاء لهم! فمن لهؤلاء الأطفال والنساء والعجائز والمستضعفين إلا نصرٌ من الله وفتحٌ قريب! فانصرهم يا الله وردهم لديارهم سالمين غانمين آمنين مأجورين.
يا رب، اجمعنا بنبيك في عليين، واجعلنا له متبعين غير مبتدعين، ارزقنا محبته واتباع سنّته واحشرنا في زمرته، واسقنا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبدا.
اللهم آمِنَا فِي أَوطَانِنَا، وَأَصلح أَئِمَتَنَا وَوُلاة أُمُورِنَا، وأدم الأمن والإيمانَ على بلاد المسلمين، وجَنبِنَا الفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنَهَا وَمَا بَطَنَ، وانصر جندنا المرابطين، ووفق ولاة أمور المسلمين.
وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد.