البحث

عبارات مقترحة:

الظاهر

هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...

القدير

كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...

العفو

كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...

الرحمة المهداة

العربية

المؤلف سعد الدريهم
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. من مظاهر رحمة النبي الكريم بالناس والحيوان .
  2. مقارنة تلك الرحمة بالادعاءات الدولية لحفظ الحقوق .
  3. كتابة اللهِ أرحمِ الراحمين الرحمةَ على نفسه .
  4. استشراء الفساد أثرٌ لغياب الرحمة عن المسؤولين .
  5. دعوة للتحلي بخلق الرحمة فالراحمون يرحمهم الرحمن .

اقتباس

ما أطْيَبَ ذِكرَ النَّبيِّ محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، نعم! إذا ذُكِرَ هذا النَّبيُّ الكريمُ، فلا ذِكْرَ للأقزامِ من حُثالةِ البَشَرِيَّةِ، فَو اللهِ الذي لا إله غيره! لَو لُمِّعُوا، واصْطَنعوا في سبيلِ ذَلِكَ المِثَالِيَّاتِ الكَاذِبَةِ، لَمَا بلَغوا عُشرَ مِعْشَارِ مَا لِمُحمَّدٍ من الرَّحْمَـةِ؛ وذلك... لاَ زالَ النَّبيُّ الكَريمُ يَرْتَقي، وجبريلُ يَصحبُهُ، وهُنا يَقِفُ الأَمِيْنُ جِبريلُ؛ لِيَقُولَ: هَذا مُنْتَهَايَ وَلا...

الحَمْدُ لله رَبِّ العَالمينَ، وَالحمدُ للهِ الذي هدَانا لدينِ الإِسلاَمِ، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَولاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ وحدَه لاَ شريكَ لَه، له الحَمدُ فِي الأُوْلى وَالآخِرَةِ، وَلَه الحُكْمُ وَإِلَيهِ تُرْجَعُونَ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهَدْيهِ وَدَعَا بِدَعْوَتِهِ.

أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أيها الأحبة في الله: عندما نُقلِّبُ صفحاتِ المُصْحَفِ قِراءةً وتَدبراً، وفَهماً وتَفكُّراً، تمَرُ بنَا مِن آيِهِ ما يستَمطرُ العَبَرَاتِ؛ تارةً في روضاتِ الوَعـدِ، وأُخرى في مِهَادِ الوَعِيدِ، وثالثةً في حديثِ الذِّكْرِ عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- عتاباً، وتوجيهاً، وثَناءً عليه، وتنويهاً بمنزلتِه، وبَياناً لِمكانتِهِ.

فهُو -بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم- الرَّحمةُ المُهداةُ، والمِنةُ المسداةُ، كما قالَ ربُّهُ ذلك عنه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].

فما عرفتِ البَشريةُ في تاريخِها أرحمَ ولاَ أرأفَ من مُحمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ، عليه مِن ربِّي وربِّكم أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التَّسليمِ؛ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128].

أيُّها الأحبةُ: عندَما جاءَ الأَمرُ لِهذَا النَّبيِّ الكريمِ بالصَّدعِ بكلمةِ الحَقِّ، انبرى لِهذا الأَمرِ، واستغرقَ فيه طاقتَه؛ ليلاً ونهاراً، سراً وجهراً؛ حتَّى إنَّ نفسَه لَتَكادُ تَذهبُ حَسَراتٍ عَليهم، يُريدُ الرؤوف الرَّحيمُ أنْ يَستنقذَهُم مِنْ مَهَامِهِ الضَّلالةِ إِلَى رَوْضَاتِ الإِيْمَانِ، يَدْعُوهم إِلى النَّجَاةِ، وَيَدْعُونَه إِلى النِّيرانِ، فَشَتَّانَ بينَ المَسعيَيْنِ، وَبَيْنَ الدَّعْوتَينِ!.

وليتَ الأمرَ وقفَ عندَ هَذا الحَدِّ، بل تطاولَ أولئكَ النَّكِرَاتُ من الكَفَرَةِ المُعانِدينَ على النَّبيِّ الكَريمِ -صلى الله عليه وسلم-؛ تَكْذِيباً وإيذاء، لم يدخروا في ذلك وُسْعاً، ومع ذلك لم تَطِبْ نَفسُه -بِأَبِي هُو وأمي صلى الله عليه وسلم- بالدُّعاءِ عَليهم، بَلْ إِنَّهُ لِحِلْمِهِ بعدَ علمِه -صلى الله عليه وسلم-، يرجو اللهَ أَنْ يَخرجَ من أصلابِهم من يَعبدُ اللهَ -سُبحانَه وتعالى-، فَأَيُّ مِثَالِيَّة هذه؟ وأيُّ نُكْرانٍ للذَّاتِ ضمَّهُ ذلك القَلبُ الرَّحيمُ؟.

حدَّثتْ أُمُّنا الصِّدِّيقةُ بنتُ الصديقِ عَائشة -رضي الله عنهما- أنَّها قالتْ للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: هل أتى عليك يومٌ كان أَشدَّ عليك من يومِ أُحدٍ؟ قال: "لقد لقيتُ من قومِكِ ما لقيتُ، وكانَ أشدَّ ما لقيتُ منهم يومَ العقبةِ إذ عرضتُ نفسِي على ابنِ عَبْدِ يَالِيْل بنِ عَبدِ كُلاَلٍ، فلم يجبْني إلى ما أردتُ".

فانطلقتُ وأنا مَهْمومٌ على وجهيَ فلم أستفقْ إِلاَّ وأنا بِقَرنِ الثَّعَالبِ، فرفعتُ رأسيَ فإذا أنا بسحابةٍ قد أَظلتني، فنظرتُ فإذا فيها جِبريلُ فَناداني، فقالَ: إِنَّ اللهَ قد سمِعَ قولَ قَومِكَ لك وما ردوا عليكَ، وقد بَعَثَ لكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بما شئتَ فيهم.

فَنادانِي مَلَكُ الجبالِ فسلَّمَ عليَّ ثمَّ قال: يا مُحمدُ، فبما شِئتَ؛ إِنْ شئتَ أَن أُطْبِقَ عليهم الأَخْشَبَيْنِ -يُريدُ جبلين من جبالِ مكةَ-، فقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-:" بل أرجو أنْ يُخْرِجَ اللهُ من أَصْلاَبِهم من يعبدُ الله وحدَه ولاَ يُشرك بهِ شَيئاً".

اللهُ أكبرُ! مَا أَعْظَمَ أَثرَ هَذا النَّبِيِّ على قومِهِ! وَمَا أَسْوأَ أَثَرَ قَومِه عليه! يدعوهم إلى النَّجاةِ ويدْعُونَه إِلَى النَّارِ.

إِذَا كانَ هَذا مبلغ رحمتِه بقومِه، وهم على الكُفرِ والعِنادِ وَالشِّقَاقِ، فكيف رحمتُه بِمن آمنَ به وصدَّقهَ واتبعَ سبيلَه؟ لا ريبَ أنَّها تفيضُ مِثَاليةً لا تكادُ تَجدُ لها مَثيلاً.

انطلقَ الحبيبُ -صلى الله عليه وسلم- في رحلتِهِ المباركةِ؛ رِحلةِ المِعْراجِ، إلى حَيثُ الملأ الأعلى يَصحبُه الأَمينُ جبريلُ، وهناكَ رأى مَا رَأى من آياتِ ربِّهِ الكُبرى، ومَظَاهِرِ عَظَمَةِ الرَّبِّ التي لا تُدْرِكُهَا العُقُولُ، أَو تُحيطُ بِها.

لاَ زالَ النَّبيُّ الكَريمُ يَرْتَقي، وجبريلُ يَصحبُهُ، وهُنا يَقِفُ الأَمِيْنُ جِبريلُ؛ لِيَقُولَ: هَذا مُنْتَهَايَ وَلا يَنبغِي أَنْ أَتَجَاوزَ، ولَو تَجَاوَزْتُ لاَحْتَرَقْتُ، وليسَ ذلكَ إِلاَّ لَكَ يَا مُحَمَّدُ.

فَيَرْتَقِي مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- إِلى حيثُ لم يصلْ مَلَكٌ وَلاَ بَشَرٌ، وَهُو في رُقِيِّهِ -بأبي هو وأمي- يُرْجِعُ الطَّرْفَ إِلَى جبريلَ، فَإِذَا ذَلكَ المَلَكُ العظيمُ الذي يَسُدُّ الأُفُقَ كِبراً وَضَخَامَةً، مُلْقَىً كالجلدِ البَالِي؛ خُشُوعاً وَخشيةً من الله -سُبحانه وتعالى-.

ارتقى النبيُّ إلى المكانِ الذي سَمِعَ فيه -صلى الله عليه وسلم- صريرَ الأَقلامِ، وكلامَ الجَبَّارِ دُونَ تُرجمانِ، وفُرضتْ عليه الصلوتُ خَمسِينَ صلاةً، وهُنا بدأَ النَّبيُّ يُراجعُ ربَّه في أمرِها، فما زالَ يُخَفَّفُ منها خَمساً خَمساً، حتى أوصلَها إلى خَمْسٍ.

ولعلكَ تُدْرِكُ الحرجَ العَظِيمَ الذي تكبدَهُ هَذَا النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، وهو يَرى من آياتِ اللهِ الكُبرى مَا يَرَى، وهُو يُراجِعُ هَذَا الرَّبَّ في تَخفيفِ أمرِ هذه العِبادةِ، ولكنَّها رحمةُ هذا النبيِّ الكريمِ -صلى الله عليه وسلم- بأمتِهِ، لا يريدُ أن يُكلفَهم ما لا يُطيقونَ، مَعَ أَنَّ فِيهِ سَعَادَتَهم وفَوزَهم.

بَل كلُّ حَياةِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مثالٌ حيٌّ للرحمةِ والشَّفقةِ، أَنَّى اتجهتَ لا تَجِدُ إِلاَّ رَحْمةً تَفِيضُ، تَرسِمُ للصَّحبِ الكِرامِ المُثُلَ العُليا، والقدوةَ الصَّالِحَةَ.

وَلَّى النَّبِيُّ الكريمُ وجهَهُ شَطْرَ صَلاَتِهِ، وَكَبَّرَ، وحَسْبُك بِصلاةِ هَذَا النَّبيِّ خُشوعاً وإِخباتاً، وذُلاً وخُضُوعاً لربِّه ومَولاَهُ، وَأَثْنَاءَ سُجودِهِ حَصَلَ أَمْرٌ لَمْ يُعهدْ مِنْهُ -صلى الله عليه وسلم-، لقد طالَ سجودُه، ولاحَظَ ذلك أحدُ الصَّحبِ الكِرامِ، فرفعَ رأسَه، فإذا به يَجدُ الحَسَنَ أو الحُسينَ -رضي الله عنه- قدِ ارتحلَ النَّبِيَّ راكباً على ظهرِه.

وبعدَ فَراغِهِ بيَّنَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن ابنَهُ قد ارتحلَ ظهرَه، وأنَّه كرِهَ أن يُنزلَه قبلَ أَنْ يَقضيَ حَاجَتَه، رحمةً منه به -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم-.

يَا ترى؛ هل نَجدُ هذهِ الرَّحمةَ في قلوبِنا لأَبنائنا؟! بلَه أبناءِ غيرِنا، لا ريبَ أنَّ في القَلبِ من هذا ما فيه.

إِنَّ الكثير منَّا إذا رأى طفلاً مُمَيِّزاً لَه فِي المسجِدِ ضاقَ به صدرُه، فكيف به لو ارتحله أو تعلقَ به؟ وهنا نُدركُ عَظَمةَ مُحمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- ورحمتَه.

أيُّها الأحبةُ: ما أطْيَبَ ذِكرَ النَّبيِّ محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، نعم! إذا ذُكِرَ هذا النَّبيُّ الكريمُ، فلا ذِكْرَ للأقزامِ من حُثالةِ البَشَرِيَّةِ، فَو اللهِ الذي لا إله غيره! لَو لُمِّعُوا، واصْطَنعوا في سبيلِ ذَلِكَ المِثَالِيَّاتِ الكَاذِبَةِ، لَمَا بلَغوا عُشرَ مِعْشَارِ مَا لِمُحمَّدٍ من الرَّحْمَـةِ؛ وذلك لأَنَّها من لَدُنِ الرَّؤوفِ الرَّحِيْـمِ -سُبحانه-، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159].

جلسَ الرَّحْمةُ المُهداةُ، وتَحلَّقَ الصَّحبُ الكِرامُ حولَه، ومعهُم وفدُ بَنِي تَميمٍ، وعلى رأسِهم الأَقرعُ بنُ حَابِسٍ، وفي جَلَبَةِ الحديث جَاءَ ابنُ بنتِ النَّبيِّ فَاطِمَةَ، فأجلسَه -صلى الله عليه وسلم- على رجلِه وقبَّلَه -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم-؛ فاعْتَلى العجبُ مُحيَّا الأَقرعِ بنِ حَابسٍ؛ فقالَ: أَتُقَبِّلُونَ صِبيانَكم؟ فَقَالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "نعمْ"، فقالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشْرةً من الولدِ ما قبَّلتُ واحداً منهم! فما زادَ الرحمةُ المهداةُ علَى أَنْ قَالَ: "وَمَا أَصْنَعُ لَكَ إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ نَزَعَ الرَّحْمَةَ مِنْ قَلْبِكَ؟!".

هذا النبيُّ الكريُم، كَانتِ الجاريةُ تَأخذُ بيدِهِ لِحَاجتِهَا، فَيَنْقَادُ لهَا حتَّى تقضيَ حاجتَها رحمةً بِهَا، ووجدَ مرةً جاريةً قد أضاعتْ دِرهمينِ لمِواليها؛ فأَعطاها بدلاً منهما، وطلبتْ منه أن يُكَلِّمَ مَوالِيها؛ لِيغفروا لهَا تَأَخرَها عنهم؛ فكلَّمَهم لها، رحمةً لهَا من عِقَابِهِم لَها.

أيُّها الأحبةُ الله: وتتَجَلَّى رحمتُه -صلى الله عليه وسلم- وسموُ أخلاقِه في اليومِ الذي فَتَحَ فيه مكةَ، فبعدَ أَنْ أَظْفَرَهُ اللهُ على من نَاوَأه وعادَاه، دخلَ دخولَ المُخبتينَ، مُطَأْطِئاً رأسَه تَكادُ جَبْهَتُهُ تَمَسُّ رحلَه، وبعدَ أن طافَ بالبيتِ، دخلَ الكعبةَ.

تَوَافَدَ الناسُ للبيتِ الحرامِ؛ لينظروا صنيعَ مُحمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- فيهم، أَخَذَ النبيُّ الكريمُ بُعضَادَتِي البابِ، أَبْصَرَ النَّاسُ فِي وجهِهِ الرَّحْمَةَ في أَسْمَى معانيها، والسَّماحةَ في أَجْلَى مَبَانِيْهَا، تَكَلَّمَ الحبيبُ، ومَا عَسَاهُ أَنْ يَقُولَ لِقَومٍ آذوه وكذَّبوه وقاتلوه؟.

قَالَ: "أيها النَّاسُ، مَاتظنونَ أَنِّي فاعلٌ بكم؟"، قالوا: أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ، فقَالَ المسَدَّدُ من فوق سبعِ سَمَواتٍ، منْ قَالَ اللهُ في شأنِه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]: "اذهبوا فأنتم الطُّقَاَءُ".

الله أكبر! هَلْ رأيتُم عَفْواً كَهَذَا العَفْوِ؟ وهَلْ سَمِعْتُم بِرَحْمَةٍ مِثْلَ هَذِهِ الرَّحْمَةِ؟ فَو اللهِ! مَا عَرَفَ النَّاسُ فَاتِحاً أَرْحَمَ ولاَ أَرْأَفَ ولا أَعْدَلَ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-.

ولَمْ تَقِفْ رحمتُه عندَ ذلكَ، بل شَملتْ رَحمتُهُ -صلى الله عليه وسلم- غيرَ البَشَرِ. ذَكَرَ أَصْحَابُ السِّيَرِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ بُستاناً لأَحَدِ الأَنْصَارِ، وكانَ فِي البُسْتَانِ جَمَلٌ هَائِجٌ قَدِ استعصَى علَى القِيَادِ، فَمَا إِنْ رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- حتَّى أَقْبَلَ نَحْوَهُ، وَوَضَعَ رأْسَه بينَ يَدَيْهِ، وَذَرَفَتْ عَيَنْاهُ، فقالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لِلأَنصارِيِّ: "إنَّه شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُه، وَتُكَلِّفُه من العَمَلِ فوقَ طاقتِه، فَلاَ تَفْعَلْ ذَلِكَ".

اللهُ أكبرُ، حتىَّ هَذِهِ البَهَائِمُ العَجْماواتُ تَعْلَمُ مَا يَفِيضُ بِهِ قَلْبُ هَذَا النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- منَ الرَّحْمَةِ، فَتُلْقِي بِشَكْواهَا لديه.

وَمَوقِفٌ آخرُ أيُّها الأَحبةُ، فَأَثْناءَ غَزَاةٍ من غَزَوَاتِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لَمحَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قَطَاةً تُحَلِّقُ فَوقَ الجَيْشِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ، وقَدِ استنتجَ أَنَّ هَذِهِ القَطَاةَ قَد فُجِعَتْ بِفِرَاخِهَا: "مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِفِرَاخِهَا؟"، فقالَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيهم-: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَمَرهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِرَدِّ فِرَخِهَا لَهَا؛ فَرُدَّتْ لَهَا.

لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ! أَيْنَ المُنَظَّمَاتُ العَالَمِيَّةِ لِحُقُوقِ الإِنْسَانِ وَالحَيَوَانِ مِنَ هَذِهِ المُثُلِ؟ إِنَّها لَو عَلِمَتْ ذَلِكَ، وَنَظَرَتْ فيهِ بِعَينِ الإِنْصَافِ وَالتَّجَرُّدِ لأَدْرَكَتْ عَظَمَةَ هَذِهِ الشَّخْصِيَّةِ، شَخْصِيَّةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَلَجَعَلَتْ مِنْهُ رَائِداً لِلسَّلاَمِ، وَلَجَعَلَتْ مِنْ دِيْنِه دِيناً لِلسَّلاَمِ، وَلَمَا وَسِعَهَا إِلاَّ الإِيْمَانُ بِهِ وَبِدِيْنِهِ -صلى الله عليه وسلم-.

أَيْنَ هَذَا -أَيُّهَا الأَحِبَّةُ- مِمَّا تَدَّعِيهِ الحَضَارَةُ المُعَاصِرَةُ مِنْ حُقُوقِ الإِنْسَانِ وَالحَيَوَانِ؟ تتَشَدقُ دَائِماً بِذَلِكَ؛ لكنَّها في الواقعِ أوَّلُ مُهْلِكٍ لِلإِنْسَانِ وَالحَيَوَانِ، فَلاَ تَعْدُو نَظَرِيَاتهمْ أَنْ تَكُونَ غِطَاءً لِجَرَائمِهِمْ!.

وَلاَ أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جُيُوشِهِم التي تَجُوبُ الأَرضَ وَالسَّماءَ، وَتُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ، أَيْنَ هي مِنْ جُيُوشِ مُحمَّدٍ التي تَسَرْبَلَتْ بِسِرْبَالِ الرَّحْمَةِ، فَأَمِنَ مَعَهَا الإِنْسُ وَالجِنُّ وَالطَّيْرُ، وَحَقَقَ فِي حَيَاتِهِ المُثُلَ العُلْيَا فِي الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ، التي لمَ تَعْهَدِ البَشَرِيَّةُ مِثْلَهَا فِي تَارِيْخِهَا القَدِيْمِ وَالحَدِيْثِ.

أَقُولُ قَولِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ المُسْلِمِيْنَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّه هُو الغَفُورُ الرَّحِيْمُ.

الخطبة الثانية:

الحَمدُ للهِ ربِّ العَالمينَ، وَلِيِّ الصَّالحينَ، وَلاَ عُدوانَ إِلاَّ علَى الظَّالِمينَ، وَالصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى إِمَامِ المُتَّقِينَ، وَقُدْوَةِ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَحُجَّةِ اللهِ عَلَى الهَالِكِينَ، وعَلَى آلهِ وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً.

وبعدُ: أيُّها الأَحِبَّةُ في الله، ذَكَرَ ابنُ كَثِيْرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ جَالِساً في أَصحابِهِ؛ فَإِذَا بِظَبْيَةٍ تَشُقُّ الصُّفُوفَ إِلَيْهِ بِأَبِي هُوَ وَأُمِي، حَتَّى وَصَلَتْ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَسَرَّتْ إِليْهِ كَأَّنَّها تُحَدِّثُهُ.

رَفَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رأْسَه فَقَالَ: "مَنْ صَاحِبُ هَذِهِ؟"، قَالَ أَحَدُ الصَّحْبِ الكِرَامِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ هَذِهِ شَكَتْ إِلَيَّ صِغَاراً لَهَا فِي مَكَانِ كَذَا، وَتَسْتَأْذِنُكَ فِي أَنْ تَذْهَبَ لِتُرْضِعَ صِغَارَهَا، وَتُوْدِعُهُمْ عِنْدَ مَنْ يَتَوَلَّى أَمرَهم، عَلَى أَنْ تَعُودَ بَعْدَ ذَلِكَ"؛ فَأَذِنَ لَهَا، فَذَهَبَتْ.

قَالَ الرَّاوِي: فَمَا هِيَ إِلاَّ أَنْ رَجَعَتْ لِصَاحِبِهَا؛ وَفَاءً لِوَعْدِهَا الذي قَطَعَتْهُ أَمَامَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-.

فَمَنْ عَلَّمَ هذَا الحَيَوانَ الأَعْجَمَ حتَّى ليتخَيَّر الرَّسولَ -صلى الله عليه وسلم- من دونِ هذا الجَمْعِ؛ فَيُلْقِيَ عَلَيْهِ شَكْوَاهُ؟ لاَ رَيْبَ أَنَّهُ الرَّحمنُ الرَّحِيمُ سُبحانه.

أَيَّها الأَحِبَّةُ: إِنَّ الرَّحْمَة خُلُقٌ اتصفَ بهِ الرَّبُّ -سُبحانَه وَتَعَالَى-، وَجَعَلَهُ مُقدَّماً على غضبِه، كمَا ثَبَتَ ذلكَ فِي الصَّحيحِ مِنْ كَلِمِ الحَبِيبِ -صلى الله عليه وسلم-، واتصفَ بِهَذَه الصِّفَةِ أَنْبياءُ اللهِ ورسلُه، وفي مُقَدَّمِهِمْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وسَمعتُم بعضاً من مَظَاهِرِ رَحمتِه -صلى الله عليه وسلم-، وهِي تَجلُّ عن الحَصْرِ وَالعَدِّ.

وَفِي هَذَا حَثٌ علَى الاتِصَافِ بِهَذَا الخُلُقِ النَّبِيْلِ.

فَلَوِ اتَّصَفَ الحُكَّامُ بهذَا الخُلُقِ، لمَا وَقَعَ ظُلْمٌ، وَلاَ كُلِّفَتِ الرَّعِيَّةُ فَوقَ طَاقَتِهَا؛ حتَّى أُلْجِئَتْ إِلَى ضَنْكِ المَعِيْشَةِ، وَلَمَا نَعِمَ الحَاكِمُ بِعَيشٍ وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ، وَلَكِنْ غِيَابُ هَذَا الخُلُقِ العَظِيْمِ، أَوْجَدَ هَذِهِ الفَجْوَةِ بَيْنَ النَّاسِ وَحُكَّامِهِمْ، فَاسْتَشَرَى الفَسَادُ وَالإِفْسَادُ، وَانْعَدَمَتْ المَحَبَّةُ بَيْنَهُمَا.

وَلَوِ اتَّصَفَ كِبَارُ المَسْؤولِينَ مِنَ الوُزَرَاءِ وَالمُدَرَاءِ بِهَذَا الخُلُقِ، لمَاَ أُصْدِرَتْ القَرَارَاتُ الظَّالِمَةُ، وَلَمَا سُنَّتِ الأَنْظِمَةُ الجَائِرَةُ، التي تُكَلِّفُ النَّاسَ مِنْ أَمْرِهِمْ عَنَتاً وَمَشَقَّةً؛ حَتَّى إِنَّكَ لَتَلْحَظُ في هَذِهِ القَرَارَاتِ تَوَاطُؤاً عَلَى تَلَمُّسِ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ، مَعَ أَنَّ فِيهِ من الخِيَارَاتِ مَا هُو كَفِيْلٌ بِتَجْنُبِ هَذَا العَنَتِ وَهَذِهِ المَشَقَّةِ، وَكَأَنَّ هؤلاء المسؤولينَ لَيْسُوا أَبْنَاءً لِهذَا البَلَدِ، وَلا مِنْ رَحِمِهِ خَرَجُوا، وَلَكِنْ لِغِيَابِ هَذَا الخُلُقِ -خُلُقِ الرَّحْمَةِ- حَصَلَ هَذَا الفَسَادُ.

وَأَخِيْـراً؛ تَذَكَّـرُوا -أَيُّها الأَحِبَّةُ- قَولَ الحَبِيْبِ -صلى الله عليه وسلم-: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ"، وقولَه -صلى الله عليه وسلم-: "ارْحَمُوا مَن فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مِنْ فِي السَّمَاءِ"، وقَوْلَه: "اللهمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيئاً؛ فَشَقَّ عَلَيهم؛ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئاً فَرَفَقَ بِهِمْ؛ فَارْفُقْ بِهِ".   

اللهم ...