البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله بن مشاري المشاري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
الظلم يشتمل على معصيتين: أخذ مال الغير بغير حق، ومبارزة الآمر بالعدل بالمخالفة، وهذِه أدهى؛ لأنه لا يكاد يقع الظلم إلا على الضعيف الذي لا ناصر له غير الله -تعالى-، وإنما ينشأ من ظلمة القلب؛ لأنه لو استنار بنور الهدى لنظر في العواقب، وما أقدم على الظلم...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله, صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المؤمنون-, واعلموا أنَّ الله أمركم بالعدل والإنصاف, ونهاكم عن الظلم الذي هو الانحراف عن العدل, وهو السرف والتقصير, وأخذ الأموال من غير وجهها، والمطالبة بما لا يجب من الحقوق, وفعل الأشياء في غير مواضعها ولا أوقاتها، ولا على القدر الذي يجب ولا على الوجه الذي يحب [تهذيب الأخلاق، ص: (34)].
أيها المسلمون: إنَّ الظلم مرتعه وخيم, وعاقبته حسرة وندامة, وهو ظلمات على صاحبه يوم القيامة فلا يهتدي سبيلاً, فالظلم معصية عظيمة يجب على المسلم اجتنابها, قال تعالى: (إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم: 34]، قال الإمام البغوي -رحمه الله-: "أي ظالم على نفسه بالمعصية"، قال الإمام السعدي -رحمه الله-: "أي هذه طبيعة الإنسان من حيث هو ظالم متجرئ على المعاصي مقصر في حقوق ربه كفَّار لنعم الله، لا يشكرها ولا يعترف بها إلا من هداه الله فشكر نعمه، وعرف حق ربه وقام به" [تفسير السعدي، ص: (426)]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ"، فقال له رجلٌ: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: "وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ" [رواه مسلم].
والظلم -يا عباد الله- يشتمل على معصيتين: أخذ مال الغير بغير حق، ومبارزة الآمر بالعدل بالمخالفة، وهذِه أدهى؛ لأنه لا يكاد يقع الظلم إلا للضعيف الذي لا ناصر له غير الله -تعالى-، وإنما ينشأ من ظلمة القلب؛ لأنه لو استنار بنور الهدى لنظر في العواقب، وما أقدم على الظلم [التوضيح لشرح الجامع الصحيح: (15/ 588)]، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ" [رواه البخاري]، وقال الزرقاني في شرحه على الموطأ عند الحديث المتفق عليه: "الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، وَفِيهِ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ أَبْغَضَ في اللَّهِ لا يَحْمِلُهُ الْبُغْضُ عَلَى ظُلْمِ مَنْ أَبْغَضَ"، وقال الأمير الصنعاني -رحمه الله-: "هذا الْحَدِيثُ مِنْ أَدِلَّةِ تَحْرِيمِ الظُّلْمِ، وَهُوَ يَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عَرْضٍ فِي حَقِّ مُؤْمِنٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ فَاسِقٍ" [سبل السلام: (2/ 657)]، وقال السعدي -رحمه الله-: "الظلم ثلاثة أنواع: نوع لا يغفره الله، وهو الشرك بالله: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ) [النساء: 48]، ونوع لا يَتركُ الله منه شيئاً، وهو ظلم العباد بعضهم لبعض، فمن كمال عدله: أن يقتصَّ الخلق بعضهم من بعض بقدر مظالمهم, ونوع تحت مشيئة الله إن شاء عاقب عليه، وإن شاء عفا عن أهله، وهو الذنوب التي بين العباد وبين ربهم فيما دون الشرك" [بهجة قلوب الأبرار، ص: (53)].
وقال الشيخ ابن عثيمين عند قوله تعالى: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ) [غافر: 18] "أي أنه يوم القيامة لا يجد الظالم حميماً، إي صديقاً ينجيه من عذاب الله، ولا يجد شفيعاً يشفع له فيُطاع؛ لأنه منبوذ بظلمه وغشمه وعدوانه، فالظالم لن يجد من ينصره يوم القيامة، وقال تعالى: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [البقرة: 270] يعني لا يجدون أنصاراً ينصرونهم ويخرجونهم من عذاب الله -سبحانه وتعالى- في ذلك اليوم" [شرح رياض الصالحين (2/ 485-486)]، وقال صلى الله عليه وسلمَ: "اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ" [متفق عليه]، وقال ابن تيمية -رحمه الله-: الجهل والظلم، هما أصل كل شر؛ كما قال سبحانه: (وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب: 72]، [اقتضاء الصراط المستقيم: (1/ 148)]، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلمَ: أنه قال: "إيَّاكُمْ وَالشح فإنَّ الشُّح أهلك من كَانَ قبلكُمْ أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فَقطعُوا"، ولهذا قال الله في وصف الأنصار: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ) أَي من قبل المهاجرين (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا) أَي لا يَجدونَ الْحَسَد مِمَّا أوتي إخوانهم من المهاجرين: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، ثمَّ قال: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].
ورؤي عبد الرحمن بن عوف -رضيَ الله عنه- يطوف بالبيت ويقول: "رب قني شح نَفسِي، رب قني شح نَفسِي، رب قني شح نَفسِي، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: إذا وقيتُ شُحَّ نَفسِي فقد وقيتُ الْبُخْلَ وَالظُّلمَ والقطيعةَ أوْ كَمَا قَالَ" [الاستقامة: (2/ 243-244)]، وقال معاوية -رضي َالله عنه-: "إني لأستحي أن أظلم من لا يجد علي ناصراً إلا الله"، وقال رجل عند أبي هريرة -رضي َالله عنه-: "إن الظالم لا يظلم إلا نفسه، فقال أبو هريرة: كذبت، والذي نفس أبي هريرة بيده إنَّ الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم"، وكتب أحد عمَّال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- "يستأذنه في تحصين مدينته, فكتب إليه حصِّنها بالعدل، ونقِّ طُرقها من الظلم"، وقال عمر بن عبد العزيز: "إذا دعتك قدرتك على ظلم النّاس، فاذكر قدرة الله -تعالى- عليك".
ومن صور الظلم -يا عباد الله-: اقتطاع شيء من الأرض، قال عليه الصلاة والسلام: "من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً؛ طُوقه يوم القيامة من سبع أرضين".
ومن صور الظلم: ظلم الأولاد لوالديهما بعقوقهما, وظلم الأزواج لزوجاتهم في حقهن سواء كان صداقاً، أو نفقة، أو كسوة, وظلم الزوجات لأزواجهن في تقصيرهن في حقهم وتنكّر فضلهم, وظلم البنات بعضلِهنَّ عن الزواج, والدعاء على الأولاد والقسوة في التعامل معهم, وتَفضيلُ بعضهم على بعض, وظلم أصحاب الولايات والمناصب [موسوعة الأخلاق الإسلامية، الدرر السنية: (2/ 327) بترقيم الشاملة آليا].
وظلم العمَّال والأجراء بالمماطلة في إعطائهم حقوقهم، أو الإنقاص منها بغير حق.
فاتقوا الظلم -أيها المسلمون- ومن وقع فيه فليتب إلى الله وليتحلل من المظلوم قبل أن يلقى ندامة وحسرة يوم القيامة, وهو دليل على ظلمة القلب وقسوته, ويقبل اللهُ دعوة المظلوم على ظالمه, ومن عواقب الظلم أنَّه يجلب غضب الله وسخطه، ويخرّب الدّيار.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.