الحكم
كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...
العربية
المؤلف | عبد الحليم توميات |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
هناك فئة من النّاس لا يمكنهم تحقيق أمنيّاتهم، ولا يُنظر في طلباتهم. هناك طائفة من النّاس طلباتهم لا ترفع، وأمنيّاتهم لا تسمع. فمن هم هؤلاء العباد؟ وما سرّ رفض مطالبهم؟ إنّهم أناس كانوا يعيشون بين الورى واليوم صاروا تحت الأرض والثّرى، أقوام كانوا معنا في هذا الوجود واليوم صاروا من أهل القبور واللّحود؛ إنّهم...
الخطبة الأولى:
بعد الحمد والثّناء.
أمّا بعد:
معاشر المسلمين: فإنّه ما من أحد منّا في هذا الجمع المبارك إلاّ وله في هذه الحياة أمانٍ كثيرةٌ وعديدة، وأحلام وآمال يسعى إلى تحقيقها سعيا شديدا، وتتفاوت هذه الأمانيّ والأحلام باختلاف النّاس وأحوالهم.
فلو سألت الفقير الّذي ينهشه الفقر بأنيابه، ويقف الجوع والحاجة على بابه، لقال: أتمنّى الغِنى فيزول عنّي شبح الفقر، وتذهب عنّي المسكنة الّتي تقصم الظّهر.
ولو سألت من يعيش بلا مسكن يدعو على نفسه بالويل والثّبور، وهو يرى النّاس حواليه تبني الدّور والقصور، لرأيته يحلم ببيت يؤويه، ومسكن يواريه.
ولو سألت كلّ عفيفة تقيّة، صالحة أبيّة، تبكي على نفسها، إذا رأت بنات جنسها، قد تقدّم لها الخُطّاب، وأهدوها ما لذّ وطاب، وهي لا يدقّ لها باب، لرأيتها لا تتمنّى إلاّ زوجا صالحا يسترها، وبالبهجة والسّرور يغمرها.
ولو سألت كلّ زوجين صالحين، يتفطّر قلبهما وتذرف لهما العين، لا صبر لهما ولا جلد، يبكيان على نعمة الولد، لما تمنّيا إلاّ نعمة الأولاد، وفلذة الأكباد.
ولو سألت كلّ مصاب، دقّ للعلاج كلّ باب، منعته الأوجاع والآلام من لذّة الطّعام والمنام، لرأيته يتمنّى أن يعافى في جسده، ويشفى من مرضه.
بل حتّى لو سألت الأغنياء عن أمنّياتهم، وحاولت معرفة رغباتهم، لرأيتهم يتمنّون من الغنى مزيدا، وأن يُؤتى عمرا مديدا وهكذا أمانيّ العباد: المقلّ لا يقنَع، والمكثر لا يشبع، وأماني الدّنيا لا تنقطع، وصدق رسول الله -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث قال فيما رواه البخاري عن أَنَس بْن مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ، وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ".
وترى هذا الموكب الضّخم من العباد، يسعى في جدّ واجتهاد، ويكدحون طوال حياتهم، لتحقيق أحلامهم وأمنيّاتهم: (فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 23].
ولكن هناك فئة من النّاس لا يمكنهم تحقيق أمنيّاتهم، ولا يُنظر في طلباتهم.
هناك طائفة من النّاس طلباتهم لا ترفع، وأمنيّاتهم لا تسمع.
فمن هم هؤلاء العباد؟ وما سرّ رفض مطالبهم؟
إنّهم أناس كانوا يعيشون بين الورى، واليوم صاروا تحت الأرض والثّرى، أقوام كانوا معنا في هذا الوجود، واليوم صاروا من أهل القبور واللّحود؛ إنّهم ممّن أصبحوا رهائن ذنوب لا يطلقون، وغرباء سفر لا ينتظرون، إنّهم الأموات أيّها المؤمنون، فماذا يقولون؟ وماذا يتمنّون؟ وبماذا ينادون؟ ماذا يتمنى الأموات؟ ومن يستطيع أن يُحدِّثنا عن أمنياتهم، وقد انقطع عنا خبرهم، واندرس ذكرهم؟
لقد اختلفت نداءاتهم وتعدّدت أمنيّاتهم لاختلاف مصيرهم ومآلهم، وتنوّعت مطالبهم وتعدّدت مذاهبهم لاختلاف جزائهم وأحوالهم.
وإنّنا وإن كنّا لا نسمع نداءاتهم وأمنيّاتهم، فإنّ الله -تعالى- قد ذكر لنا بعضها، فالسّعيد يعلن السّعادة الأبديّة بأعلى صوته، والشقيّ يصرخ طالبا الرّجوع من بعد موته.
فاستمعوا إلى بعض تلك الأمنيّات، وأنصتوا إلى بعض تلك النّداءات.
إليكم بعضَ هتاف السّعداء وشيئا من صراخ التّعساء.
أمّا العبد الصّالح بعد موته؛ فقد ذكر لنا النبيّ -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعضا من أمنيّاته:
فأوّل أمْنِيَّاته بعد موته: يوم يحمل على الأعناق، ويقال: (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) [القيامة: 30]، فينادي ولا يُسمع يتمنّى أن يقدّموه ويسرعوا به إلى قبره ليلقى النّعيم المقيم، والثّواب العميم، ويرتاح أخيرا من دار الشّقاء، والشدّة واللأواء، روى البخاري عن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ"، لذلك كان من الواجب على المسلمين الإسراع بالجنائز؛ روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ"، وكان أبو بكرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إذا رأى جنازة تأخّر النّاس فيها شدّ عليهم بالسّوط، وقال: "والّذي أكرم وجه أبي القاسم -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقد رأيتنا على عهد رسول الله -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنكاد أن نرمل بها رملا".
أمّا أمنيّته الثّانية: إذا وضع في الحافرة، وثبّته الله بالقول الثّابت في الدّنيا والآخرة، وبشّر بالجنّة، ورأى منزلته فيها تمنّى، وماذا يتمنّى؟ ليعود إلى الدّنيا؟ كلاّ؛ ولكنّه يتمنّى أن تقوم السّاعة، يستعجل دخول دار السّلام والكرامة، بعد إذ نجّاه الله من الخزي والنّدامة، عندها ينادى سبحانه وتعالى: "أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ. فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ! هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ! فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ! فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ! وفي رواية للإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ بن عبد الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا رَأَى مَا فُسِحَ لَهُ فِي قَبْرِهِ يَقُولُ: دَعُونِي أُبَشِّرُ أَهْلِي، فَيُقَالُ لَهُ: اسْكُنْ"، وفي رواية التّرمذي عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "فَيُقَالُ لَهُ نَمْ، فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ. فَيَقُولَانِ: نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ".
وأمّا الأمنيّة الثّالثة: فأمنيّة الشّهيد، فبالرغم من عظم منزلته، وعلوّ مرتبته، فإنّه يتمنّى أن يعود إلى الدّنيا، لا لشهواتها ولذّاتها، ولكن ليستمرّ في جهاد أعداء الله -تعالى-، فيقاتل ويُقتل ولو عشر مرّات، لما يرى من ثواب الجهاد، وكرامة المجاهدين عند ربّ العباد، روى البخاري عن أَنَس بْن مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ".
وأمّا أهل الشّقاء والتّعاسة، فإنّه قد ذكر لنا شيء من أمانيهم، ولو مكّننا الله من سماعهم لطارت قلوبنا، ولتفطّرت صدورنا، ولكنّ الله لم يأذن بسماعهم، فكأنّي بهم ينادوننا قائلين: يا أهل الدّنيا! والله لو رأيتم ما رأينا لبكيتم كثيرا، ولضحكتم قليلا! يا أهل الدّنيا! والله لو رأيتم ما رأينا لما تلذّذتم بالفرش، وما عافستم النّساء! والله يا أهل الدّنيا! لو عاينتم ما عاينّا من الخراب لما حلا لكم أكل ولا شراب!
وقف عليّ بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يوما بين المقابر فقال: "السّلام عليكم يا أهل المقابر، أمّا أموالكم فقد قسمت، وأمّا بيوتكم فقد سكنت، وأمّا أزواجكم فقد تزوّجن غيركم، هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم!؟ ثمّ سكت قليلا والتفت إلى من كان معه، وقال: "أما والله لو شاء الله لهم أن يتكلّموا لقالوا: إنّ خير الزّاد التّقوى".
فمن أمنيات الإنسان الطّالح: أنّه يتمنّى أن يعمل العمل الصّالح، ولكن لا مجيب لطلبه، يتمنّى أن يوفّق إلى النّطق ولو بتسبيحة واحدة، ولو بتهليلة واحدة، فلا يؤذن لهم، ولا تُحقق أمنيّاتهم، قال الله -عز وجل- في شأنهم: (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99 - 100]، ويقول: (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر: 58].
ويأتيهم جواب علاّم الغيوب كالصّاعقة على القلوب: (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 100]، يروى أنّ رجلاً جاء إلى القبور فدعا لهم، ثمّ اضطجع على شقِّه، فنام، فرأى صاحب القبر في المنام فقال: "يا هذا إنّكم تعملون ولا تعلمون، ونحن نعلم ولا نعمل، ولأن تكون ركعتان في صحيفتي أحبّ إليّ من الدّنيا وما فيها"، وقال بعض الصالحين: "مات لي أخ في اللّه فرأيته في النّوم فقال: يا فلان عشت صالحا، فالحمد للّه ربّ العالمين، فقال لي: لئن أقدر أن أقولها -يعني الحمد للّه ربّ العالمين- أحبّ إليّ من الدّنيا وما فيها".
ويتمنّى بعد أن يوضع في قبره أن لا تقوم السّاعة؛ ففي حديث البراء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بعد أن ذكر سؤال الملكين وعجزه عن الجواب: "فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ! فَافْرِشُوا لَهُ مِنْ النَّارِ! وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ! فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ! هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ! فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ! فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمْ السَّاعَةَ"؛ ذلك لأنّه يعلم أنّ السّاعة موعدهم وأنّ السّاعة أدهى وأمرّ!
ومن أمنيّاته: الصّلاة ولو ركعتين، يتمنّى الميّت المقصّر لو تعاد له الحياة، ليصلِّي ولو ركعتين اثنتين فقط، روى الطّبرانيّ في "الأوسط" وصححه الألباني في التّرغيب والتّرهيب، عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنّ رسول الله -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرّ بقبر فقال: "مَنْ صَاحِبُ هَذَا القَبْرِ؟" فقالوا: فلان، فقال: "رَكْعَتَانِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ"؛ إنّه يتمنّى أن يعود إلى الدّنيا فيسمح له بأداء ركعتين فقط، فغاية أمنية الميت المقصر؛ أن يُمدَّ له في أجله، ليركع ركعتين يزيد فيها من حسناته، ويمحو بها بعض سيّئاته، الآن فقط تذكّر وصيّة رسول الله -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يقول لنا معشر الأحياء: "الصَّلاَةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، فَمَنْ اِسْتَطَاعَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ فَلْيُكْثِرْ".
اغتنم في الفراغ فضل ركوع | فعسى أن يكونَ موتك بغتة |
كم صحيح رأيتَ من غير سُقم | ذهبتْ نفسه الصّحيحة فلتة |
ومن أمنيّاته: الصدقة، يتمنّى الموتى الرّجوع إلى الدّنيا ولو لدقائق معدودة، ليقدّموا صدقة لله -عز وجل-، ولقد نقل الله لنا أمنيتهم هذه في قوله تعالى: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [التغابن: 10 - 11] لقد اقتنعوا، ولكن بعد فوات الأوان أنّ الصدقة من أحبّ الأعمال إلى الرّحمن، وأنّها تطفئ غضب الرّب -جلّ وعلا-.
الآن أدرك أنّ المال الّذي كان يبذل وقته كلّه لجمعه، وحرّضته نفسه على منعه، وترك من أجله الواجبات، وانتهك لأجله المحرّمات، أنّه غير نافعه الآن، بل لو أوتِي مال الدّنيا كلّه في هذه اللّحظات لرغب في أن يتصدّق به كلّه، قال الله -تعالى-: (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كانُواْ يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء: 205 - 207].
ومن أحسن ما قاله العلماء: "إذا مات ابن آدم لقيته مصيبتان: فقد كلّ ماله، وسئل عن كلّ ماله".
اليوم تمنّوا الرجعة ليقدّموا صدقاتهم بعد أن منعوها الفقير، وصرفوها على شهواتهم: (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون: 10].
هذه بعض أمنيّات ونداءات الموتى، لعلّ الّذي لم ينتفع بوصايا ونداءات الأحياء أن تنفعه نداءات الأموات, وقد جاء عن الحكماء أن قالوا: "لا يزال يعظكم ناطق وصامت، أمّا النّاطق فالقرآن، وأمّا الصّامت فالموت".
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
الخطبة الثّانية:
الحمد لله واهبِ الحياة وسالبها، وباعث الأرواح وقابضها، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، خلقنا من تراب وإليه يُرجعُنا، ثمّ إذا شاء ومتى شاء منه يُخرجنا، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، أطال الحديث عن الموت وشدّته، وعن اليوم الآخر وكربته، فنبّه النّاس من غفلتهم، وأيقظهم من سكرتهم، وخلّصهم من حيرتهم، صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، الذين تعلّقت قلوبهم بدار القرار، فكانوا لها عاملين، وللسّاعة ذاكرين، حتّى لقوا الله ربّ العالمين.
أمّا بعد:
فإليكم -معاشر المؤمنين والمؤمنات- بعضَ الوقفات أمام مواعظ ونداءات الموتى:
الأمر الأوّل: اعْمل قبل أن تُمنَع من العمل، يقول الله -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الزّمر: 53 - 58]، قال أحد الحكماء: "إنّ جميع النّاس يبكي ويندم على ماضيه، فلماذا لا نصلِح حاضرَنا قل أن يصير ماضيا"، وقال إبراهيم التيمي: "مثَّلتُ نفسي في النار، آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أُردَّ إلى الدنيا فأعمل صالحا، قال: فقلت: أنتِ في الأمنية فاعملي"، وقال إبراهيم بن يزيد العبدي -رحمه الله تعالى-: "أتاني رياح القيسي فقال: يا أبا إسحاق انطلق بنا إلى أهل الآخرة نُحدثُ بقربهم عهدا، فانطلقت معه فأتى المقابر، فجلسنا إلى بعض تلك القبور، فقال: يا أبا إسحاق ما ترى هذا متمنيا لو مُنِّ؟ -أي لو قيل له تمنى- قلت: أن يُردَّ- والله- لي الدنيا، فيستمتعْ من طاعة الله وُيصلح، قال: ها نحن في الدنيا، فلنطع الله ولنصلح، ثم نهض فجدَّ واجتهد، فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات".
وحفر الرّبيع بن خثيم -رحمه الله تعالى- قبرا داخل بيته، فكان إذا مالت نفسه للدّنيا وقسا قلبه نزل في قبره، وإذا ما رأى ظلمة القبر ووحشته صاح: (رَبِّ ارْجِعُونِ) فيسمعه أهله فيفتحون له، وفي ليلة نزل قبره وتغطى بغطائه، فلمّا استوحش داخله نادى: (رَبِّ ارْجِعُونِ) فلم يسمع له أحد، وبعد زمن طويل سمعته زوجته، فأسرعت إليه وأخرجته، فقال عند خروجه: اعمل يا ربيع قبل أن تقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ) فلا يجيبك أحد.
الأمر الثّاني: لا بدّ من قِصَر الأمل، روى البخاري عَنِ ابنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: أَخَذَ رَسولُ الله -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَنكِبي، فقال: "كُنْ فِي الدُّنيا كأَنَّكَ غَريبٌ، أو عَابِرُ سَبيلٍ"، وكانَ ابنُ عَمَر يَقولُ: "إذا أَمسيتَ فَلا تَنتَطِر الصَّباح، وإذا أَصْبَحْتَ فلا تَنتَظِرِ المساءَ، وخُذْ مِنْ صِحَّتِك لِمَرضِكَ، ومنْ حَياتِكَ لِمَوتِكَ" وهذا الحديث أصلٌ في قِصَر الأمل في الدنيا، وأنَّ المؤمنَ لا ينبغي له أن يتَّخذ الدُّنيا وطناً ومسكناً، فيطمئنّ فيها، ولكن ينبغي أنْ يكونَ فيها كأنَّه على جناح سفر: يُهَيِّئُ جهازَه للرّحيل.
وقد اتَّفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، فكان شعارهم: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر: 39]، وبهذا فسّر غيرُ واحدٍ مِنَ العُلماء الزُّهدَ في الدنيا، قال المرّوذي: "قلتُ لأبي عبد الله- يعني: أحمد- أيُّ شيءٍ الزُّهد في الدّنيا ؟ قال: قِصَرُ الأمل"، وكان النَّبيُّ -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "مَالِي وَلِلدُّنيَا إنَّمَا مَثَلِي ومَثَلُ الدُّنيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا"، وروى أبو نعيم في "حلية الأولياء" عن وهيب المكّي قال: قال المسيح عيسى -عليه السّلاَمُ- لأصحابه: اعبُروها ولا تَعمُرُوها"، وروى الإمام أحمد في "الزّهد" عن مكحول ورُوي عنه أنَّه قال: "من ذا الذي يبني على موجِ البحر داراً، تلكُمُ الدُّنيا، فلا تتَّخذوها قراراً"، وذكر البيهقيّ في "شعب الإيمان": أنّ رجلا دخل على أبي ذرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فجعل يُقلِّب بصره في بيته، فقال: "يا أبا ذرٍّ أين متاعُكم؟ قالَ: إنَّ لنا بيتاً نوجّه إليه، قالَ: إنَّه لا بدَّ لك من مَتاع مادمت هاهنا، قالَ: إنَّ صاحب المنْزل لا يدعُنا فيه"، وكان محمد بن واسع إذا أراد أنْ ينام قال لأهله: "أستودعكم الله، فلعلَّها أنْ تكون منيّتي الّتي لا أقوم منها، فكان هذا دأبه إذا أراد النّوم".
الأمر الثّالث: إذا كنت تعلم أنّك ستُمنع من العمل بعد الموت، فبادِر إلى أن تعمل الآن أعمالا تجري عليك بعد الموت، فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ". ثلاثة أصناف من النّاس يبقى عملهم ماضيا، وربّهم عنهم راضيا. ثلاثة أصناف من النّاس يتوسدّون التّراب، ويتضاعف لهم الأجر والثّواب. ثلاثة أصناف من النّاس لم يكتفوا بالعمل حال الحياة، بل ظلّوا يعملون بعد الممات، فهؤلاء ماتوا ولكن لم تمت حسناتهم من بعدهم فهنيئا لهم على ما قدموا.
وليحذر المسلم من أن يموت ولا تمت ذنوبه معه، إمّا لكونه كان من الدّاعين إلى الباطل والفجور، أو يعين على اللّهو واللّغو والثّبور، أو مات وقد ترك خلفه ما يستعمل في معصية العزيز الغفور، قال تعالى: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [النّحل: 25].
الأمر الرّابع: كيف نخفّف من لوعات الموتى؟
وذلك بأمور من الصّالحات:
منها: الدّعاء لهم؛ فعلى المسلم أن يجتهد في الدّعاء والاستغفار لهم، فتلك أفضل هديّة يتمنّون وصولها منّا، فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَنىَّ لِي هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ" إنّهم ينتظرون دعاءكم فلا تنسوهم بالدّعاء، وبالأخصّ الوالدين، فلعلّ الله يقيّض لك من يخلص لك الدعاء بعد مماتك.
قضاء الدّين عنهم.
التصدّق عليهم.
والحجّ أو الاعتمار عليهم، فذاك من الأعمال الّتي قام الدّليل على أنّ الميّت ينفعه الله بها.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفّقنا للاستعداد ليوم الرحيل، ولا يجعلنا في قبورنا من النادمين، فرحم الله موتى المسلمين.
اللهمّ اغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ، وَعَافِهِم وَاعْفُ عَنْهُم، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُم، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُم، وَاغْسِلْهُم بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِم مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُمْ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِمْ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِمْ، وأَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَأَدْخِلْهُمْ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَالنَّار.