المقدم
كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...
العربية
المؤلف | أحمد عماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أركان الإيمان |
إنه حق المصطفى وكفى؛ البشيرُ النذير، والسراجُ المنير، الذي امتن الله به على عباده، فأنارَ القلوب بعد ظلمتها، وأحياها بعد مواتها، وهداها بعد ضلالتها، وأسعدها بعد شِقوتها، وأنار طريقها بعد ليل طويل مظلم بهيم. إنه الحق الذي أوجبه الله -تعالى- على عباده، وجعله...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
إخوتي الكرام: مرة أخرى مع حقوق النبي -صلى الله عليه وسلمَ-، تلكم الحقوق التي هي أعظمُ حقوق المخلوقين قدراً، وأجلها مكانة، وأرفعُها شأناً، فلا حق لمخلوق أعظمُ من حق رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-.
إنه حق المصطفى وكفى؛ البشيرُ النذير، والسراجُ المنير، الذي امتن الله به على عباده، فأنارَ القلوب بعد ظلمتها، وأحياها بعد مواتها، وهداها بعد ضلالتها، وأسعدها بعد شِقوتها، وأنار طريقها بعد ليل طويل مظلم بهيم.
إنه الحق الذي أوجبه الله -تعالى- على عباده، وجعله أصلا من أصْلي الدين، وأساسا تبنى عليه أركان الدين، فذلك ما تقتضيه الشهادتان؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؛ فلا معبود بحق إلا الله، ولا عبادة لله إلا بما جاء به رسول الله.
فواجب على كل من ينطق بهذه الشهادة، ويَدِينُ لله -تعالى- بهذا الدين، أن يُحيط بحقوق رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- معرفة وعلما، ويلتزم بها اعتقادا وقولا وعملا.
فمن حقوق النبي -صلى الله عليه وسلمَ-:
1- الإيمانُ الصادق به صلى الله عليه وسلمَ؛ وذلك بالتصديق بنبوّته ورسالته، والاعتقاد الجازم بأن الله أرسله للإنس والجن، وتصديقه في جميع ما جاء به وأخبر عنه من الأمور الماضية والمستقبَلة، مع ما يقتضيه ذلك من شهادة باللسان، وطاعة واتباع؛ فذلك مما أمر الله -تعالى- به عباده، فقال سبحانه: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف: 158].
2- توقيره صلى الله عليه وسلمَ واحترامه في حياته وبعد مماته؛ حق على الأمة أن توقر نبيها -صلى الله عليه وسلمَ- وتعظمه وتجله وتحترمَه، فذلك مما أمر الله به، وجعله طريقا إلى الفلاح، فقال سبحانه: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف: 157].
لقد أمرَ الله -تعالى- بتوقير نبيه -صلى الله عليه وسلمَ- واحترامه في حياته، بحُسْنِ الأدَب معه في مجلسه وعند مخاطبته، ونهى عن أذيته ومخالفته، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحجرات: 1 - 5].
كما أوجب الله -تعالى- على هذه الأمة أن توقرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- وتحترمَه بعد وفاته، عند ذِكره وذكر حديثه وسنته، وسماع اسمه وسيرته؛ فهو سيدنا وإمامنا وقدوتنا، فمِنْ حقه علينا أن نوقر اسمه وقبرَه وحديثه وشرعَه وسيرتَه، فلا نذكرُ اسمه مجردا كما يَذكرُ بعضنا بعضا، فقد قال سبحانه: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) [النور: 63].
ولا نتطاول على سنته وهديه وشريعته، فقد قال سبحانه: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].
ولا نرفعُ أصواتنا ولا نسيءُ الأدبَ في مسجده وعند قبره؛ فعن السائب بن يزيد قال: "كنتُ قائمًا في المسجد فحصَبَنِي رجلٌ، فنظرت فإذا عمرُ بن الخطاب، فقال: اذهَبْ فائتني بهذين، فجئتُه بهما، فقال: مَن أنتما؟ أو مِن أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتُما من أهل البلد لأوجعتُكما؛ تَرفعان أصواتَكما في مسجدِ رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-؟".
وسَلفنا الصالحُ خيرُ أسوة لنا في توقير النبي -صلى الله عليه وسلمَ- واحترامه، فلقد عرفوا فضلَ النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وقدْرَه، فأنزلوه المنزلة التي يستحقها، آمنوا به وأحَبّوه، وصدّقوه وأطاعوه، وَوَقروه وعَزّروه.
لا يقطعون أمرا دون مَشُورته، ولا يقومون من مجلسه إلا بعد استئذانه؛ قال تعالى عنهم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 62].
إذا حضروا في مجلسه جلسوا في سكينة ووقار، كأنّ على رؤوسهم الطير، لا يَحِدّون النظر إليه، ولا يرفعون أصواتهم عنده، ولا يتأخّرون في الاستجابة لأمره؛ فعن عبد الله بن بريدة عن أبيه -رضي الله عنه- قال: "كنا إذا قعدنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، لم نرفعْ رؤوسنا إليه إعظاما له" (أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي).
وعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: "وما كان أحدٌ أحبَّ إليّ من رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، ولا أجلّ في عيني منه، وما كنتُ أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سُئِلتُ أن أصِفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه" (رواه مسلم).
3- تعظيمُ شرعِه وحُكمِه وسُنّتِه؛ فما عظّمَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلمَ- ولا وَقرَه من يَعْترضُ على شرعِه وحُكمِه؛ فعن أبي رافع -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "لا ألْفِيَنَّ أحدَكم مُتّكِئا على أريكتِه، يأتيه الأمرُ من أمري مما أمَرْتُ به أو نهيْت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" (أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي)، والله -تعالى- يقول: (فلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65] أي إذا حَكَّموك في أمر من الأمور فعليهم أن يطيعوك في بَواطنهم، فلا يجدُون في أنفسهم حرَجًا ممَّا حكمت به، وينقادون له في الظاهر فيُسلِّمون لذلك تسليمًا كليًّا من غير مُمانَعة ولا مُدافَعة ولا مُنازَعة.
4- محبته أكثرَ من غيره من الخلق؛ فمحبة النبي -صلى الله عليه وسلمَ- لا توازيها محبة مخلوق أيا كان؛ لأن محبة النبي -صلى الله عليه وسلمَ- عبادة وطاعة يتقرب بها المسلم إلى الله، وهي أصل عظيم من أصول الدين، ودعامة أساسية من دعائم الإيمان؛ كما قال تعالى: (النَّبِيّ أَوْلَى بِالْمُؤمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب: 6]؛ فمحبته صلى الله عليه وسلمَ أولى من محبة النفس والمال والولد والآباء والأحباب والناس أجمعين.
فمَن أحبه بصدق فقد علا شأنه، وثبت إيمانه؛ ففي الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه مِن والِده ووَلَده، والناسِ أجمعين".
وَمَن جَفاه وقدّمَ محبة الخلق على محبته فقد خاب وخسر؛ قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
فلابد أن يكون حُبّنا للنبي -صلى الله عليه وسلمَ- أقوى من أيّ حُبّ، ولو كان حُبَّ المرء لنفسه؛ ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن هشام -رضي الله عنه- قال: "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلمَ-، وهو آخِذٌ بيَدِ عمرَ بن الخطاب، فقال له عمرُ: يا رسول الله، لأنتَ أحَبّ إليّ مِن كل شيء إلا مِن نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبّ إليك من نفسك" فقال له عمر: فإنه الآن، والله، لأنت أحبّ إليّ من نفسي. فقال النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "الآن يا عمر".
فكيف لا نحبه؛ وهو خيرُ من مشى على الأرض، وخيرُ من طلعت عليه الشمس، بل هو شمس الدنيا وضياؤها، وبهجتها وسُرورها؟ كمْ هدى به الله من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وبصّرَ به من العماية، وأرشد به من الغواية؛ فتح الله به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فهو أحق الناس بالمحبة والتوقير؟ سئل علي -رضي الله عنه-: "كيف كان حبّكم لرسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-؟ فقال: "كان والله أحبّ إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ".
كيف لا نحبه؛ وهو المحبوب الذي يحبه الجماد، فكيف بالإنسان؟ فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل، فكان النبي -صلى الله عليه وسلمَ- إذا خطبَ يقوم إلى جذع منها، فلما صُنِعَ له المنبر وكان عليه، فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوْتِ العِشار، حتى جاء النبي -صلى الله عليه وسلمَ- فوضع يده عليها فسكنت" (رواه البخاري)، وفي هذا يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "يا معشر المسلمين؛ الخشبة تحِنّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، شوقاً إلى لقائه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه"، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "صعد النبي -صلى الله عليه وسلمَ- جبل أحُد، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-، فرجف بهم الجبل، فقال: "اثبتْ أحُد، فإنما عليك نبيّ وصِدّيق وشهيدان" (رواه البخاري)، وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- طلع له أحُدٌ، فقال: "هذا جبل يُحبنا ونحبه" (متفق عليه).
ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلمَ: الشوق إلى رؤيته ولقائه؛ فقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- من شدة محبتهم للنبي -صلى الله عليه وسلمَ- يشتاقون إليه كلما غاب عنهم، يبين ذلك ما رواه الطبراني عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله؛ والله إنك لأحَبّ إليّ من نفسي، وإنك لأحبّ إلي من أهلي، وأحبّ إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرُك فما أصبرُ حتى آتيك فأنظرَ إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك عرفتُ أنك إذا دخلتَ الجنة رُفِعْتَ مع النبيين، وإني إذا دخلتُ الجنة خشيتُ أن لا أراك؟ فلمْ يَرُدّ عليه النبيّ حتى نزل جبريل بهذه الآية: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين) [النساء: 69].
فمَنْ أحَبّ النبي -صلى الله عليه وسلمَ- اشتاق إلى رؤيته وتمنى لقاءَه، وهذا ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلمَ-؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "مِنْ أشدّ أمتي لي حُبّا: ناسٌ يكونون بَعدي، يَوَدّ أحدهم لو رآني بأهله وماله" (أخرجه مسلم).
ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلمَ: محبة قرابته وآل بيته وأزواجه؛ تحبهم لقرابتهم من النبي -صلى الله عليه وسلمَ- نسبا وصهرا، ولمكانتهم عنده، ولوصيته بتوقيرهم واحترامهم ومحبتهم، فآلُ بيته أحبابنا، وزوجاته أمهاتنا، وقد قال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأحزاب: 6]، وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: "قام رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يوما فينا خطيبا بمَاءٍ يُدْعَى: خُمّا بين مكة والمدينة، فحمِدَ الله وأثنى عليه، ووَعَظ وذكّرَ، ثم قال: "أما بعد؛ ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما: كتابُ الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به"، فحث على كتاب الله ورَغّبَ فيه، ثم قال: "وأهلُ بيتي، أذَكّرُكم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي".
ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلمَ: محبة صحابته -رضوان الله عليهم-؛ فأهل السنة يحبون الصحابة، ويترَضّوْن عليهم، ويحترمونهم، ويَعرفون مكانتهم وقدرَهم؛ فهم الذين بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلمَ-، وقدّموا أرواحهم وأموالهم دفاعا عنه وعن دينه صلى الله عليه وسلمَ، وكانوا معه في السراء والضراء، والشدة والرخاء، والمنشط والمكره، وهم الذين فتحوا البلدان ونشروا دين الله بين العباد، وقد مدحهم الله -تعالى- في كتابه، وبيّن فضلهم ومكانتهم وجزاءَهم، فقال سبحانه: (وَالسَّابقونَ الأوَّلونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أبَداً ذَلِكَ الفوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100]، وقال عز وجل: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [الفتح: 18 - 19].
5- كثرة الصلاة والسلام عليه؛ فمن حق النبي -صلى الله عليه وسلمَ- علينا أن نصلي ونسلم عليه، وهذا حَقّ ثابت بأمر من الله -عز وجل- لعباده، إكراما لنبيه وتشريفا، فقال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
فالمحِب لرسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- هو الذي لا يَمَلّ من كثرة الصلاة والسلام عليه، هو الذي لا يبخل بالصلاة عليه عند سماع اسمه وقراءة حديثه، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "البخيل مَن ذكِرتُ عنده ثم لم يُصَلّ عَليّ" (أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والنسائي والحاكم وصححه).
6- طاعتُه وإتباعه؛ حق على الأمة أن تطيع نبيها -صلى الله عليه وسلمَ- ولا تعصيه، أن تمتثل ما أمر بفعله، وتجتنب ما نهى عن فعله، فهو المبلغ عن الله رب العالمين، فطاعته دين، وإتباعه شريعة، فقد قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إلا لِيُطَاعَ بإذنِ اللَّهِ) [النساء: 64].
وطاعة النبي -صلى الله عليه وسلمَ- طاعة لله، كما أن مخالفته مخالفة لأمر الله؛ كما قال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) [النساء: 80].
وقد أمر الله -تعالى- بطاعة نبيه في أمره ونهيه، فقال عز وجل: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: 7] أي مهما أمرَكُم به فافعَلُوه، ومهما نَهاكم عنه فاجتَنِبوه، فإنَّه إنَّما يأمُر بخيرٍ وإنَّما ينهى عن شرٍّ.
وطاعته صلى الله عليه وسلمَ تتمثل في السيْر على هديه والتزام سنته، والحذر من مخالفته، وأن لا يقارَنَ بأحد أو يُقدّمَ على قولِه قولُ أحد، وأن لا نعبد الله إلا بما شرع، فقد قال صلى الله عليه وسلمَ: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدّ" (متفق عليه).
ومن طاعته صلى الله عليه وسلمَ: التخلقُ بأخلاقه، والتأدّبُ بآدابه؛ وقد لخصت لنا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- خلق النبي -صلى الله عليه وسلمَ- حين قالت لمن سألها عنه: "كان خلقه القرآن" (أخرجه الإمام أحمد ومسلم، واللفظ لأحمد)، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: أحسنَ الناس خُلقًا" (متفق عليه).
ومن وصاياه صلى الله عليه وسلمَ لأمته: "اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ" (رواه الترمذي عن أبي ذر ومعاذ بن جبل، وقال الترمذي: "حديث حسن"].
ومن طاعته صلى الله عليه وسلمَ: الاقتداء به، والتأسي به في أقواله وأفعاله وأحواله؛ فقد أمر الله -تعالى- بذلك، فقال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "اعلم أن في رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- أسوة حسنة، حيا وميتا، وفعلا وقولا، وجميعُ أحوالِه عبرة للناظرين، تبصرة للمستبصرين، إذ لم يكن أحدٌ أكرمَ على الله منه، إذ كان خليلَ الله وحبيبَه ونَجيّه، وكان صَفيّه ورسوله ونبيه" (إعلام الموقعين ج4 ص468).
إخوتي الكرام: كيف لنا أن نؤدي حق النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بهمّة ونشاط، دون كلل ولا ملل؟
أولا: اعلم أن أداءك لحق النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بطاعته واتباعه، علامة على صدق محبتك لربك -سبحانه-؛ لقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 31 - 32].
ثانيا: بأدائك لحق النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بطاعته وإتباعه والاقتداء به، يكون سَيْرُك وثباتك على الطريق المستقيم؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلمَ- هو مرشِدُ الناس إلى الطريق المستقيم، من اقتفى أثره وأخذ بهديه سارَ على الطريق المستقيم، ومن خالف النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وابتعد عن هديه انحرف وزاغ عن الطريق المستقيم؛ فقد قال الله -تعالى- عن نبيّه ومصطفاه: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى: 52 - 53] شهادة من الله -عز وجل- أن الهداية في اقتفاء أثر نبيه ومصطفاه.
(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى: 52]؛ مهمَّتُك الهداية، ووظيفتك الدَّلالة، وعملك الإصلاح، أنت تهدي إلى صراط مستقيم؛ لأنك تزيلُ الشبهات، وتطرُدُ الغِوَاية، وتُذهِب الضَّلالة، وتمحو الباطل، وتُشيِّد الحق والعدل والخير، فمَن أراد السعادة فليَتْبَعْك، ومن أحبّ الفلاح فليقتَدِ بك، ومن رغِبَ في النجاة فليهتدِ بهداك.
أحسنُ صلاةٍ صلاتُك، وأتمّ صيامٍ صيامُك، وأكملُ حجٍّ حجّك، وأزكى صدقةٍ صدقتُك، وأعظمُ ذِكرٍ ذِكرُك لربِّك.
(وَإِنَّكَ لتهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتقِيمٍ) [الشورى: 52]؛ مَن ركِب سفينةَ هدايتِك نجا، مَن دخل دارَ دعوتك أمِن، مَن تمسَّك بحبل رسالتك سلِم، وافَقْتَ الفطرة، وجئتَ بحنيفية سَمْحة، وشريعةٍ غراء، وملَّةٍ كاملة، ودِين تام. هدَيْتَ العقلَ من الزيغ، وطهَّرْتَ القلب من الرِّيبة، وغسَلْتَ الضمير من الخيانة، وأخرَجْتَ الأمَّة من الظلام، وحرَّرْتَ البشَر من الطاغوت.
(وَإِنَّكَ لتهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتقِيمٍ) [الشورى: 52]؛ فكلامُك هدًى، وحالك هدًى، وفعلك هدى، ومذهبك هدًى؛ فأنت الهادي إلى الله، الدالّ على طريق الخير، المرشد لكل برٍّ، الداعي إلى الجنة.
ثالثا: اعلمْ أن مَن قبلَ رسالته صلى الله عليه وسلمَ وأخذ بها أفلح ونجَح، ومن رَدّها وأعرَض عنها خاب وخسر، فكن -يا عبد الله- كالأرض الخِصبة التي تنتفع بما ينزل عليها من الغيث من السماء؛ روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: "مَثلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ؛ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّة، قبلتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكلأ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ. وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ، أمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقوْا وَزَرَعُوا. وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ (أي أرض مستوية مَلساء) لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأ؛ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أرْسِلتُ بِهِ".
رابعا: اعلم أنّ مَن أدّى حقه صلى الله عليه وسلمَ في الدنيا فاز بشفاعته يوم القيامة، وحظيَ بمرافقته في الجنة؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ، فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سَلوا الله لِيَ الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة" (رواه مسلم).
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رجلا سأل النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: "ما أعددتَ لها؟" قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحبّ الله ورسوله، قال: "أنتَ مع من أحببت"، وفي رواية لمسلم: قال أنس: "فما فرحنا بعد الإسلام فرَحا أشد من قول النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "فإنك مع من أحببت" قال أنس: "فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم".
خامسا: اعلمْ أن لا سبيلَ إلى الجنة إلا بطاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- وإتباعه؛ ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "كلّ أمتي يدخلون الجنة إلا مَن أبى"، قالوا: يا رسول الله ومن يَأبَى؟ قال: "مَن أطاعني دخل الجنة، ومَن عصاني فقد أبى".
فاتقوا الله -عباد الله-، وتمسكوا بدينكم، واعْرِفوا لنبيكم -صلى الله عليه وسلمَ- حَقّه وقدْرَه، وَقّرُوه وَعَزروه، وعَظموا سنته، واحفظوا له مكانته، وأنزلوه منزلته التي أنزله الله -تعالى- إياها بلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو وتقصير، واقرؤوا سيرته، وتزوّدوا من حديثه، وأطيعوا أوامره، واجتنبوا زواجره؛ فذلكم هو طريق النجاة والنجاح، وسبيل الفوز والفلاح: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71].
نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من الفائزين، وأن يجعلنا من المفلحين، وأن يجعلنا من أتباع نبيه الأمين.
اللهم اجعلنا من القائمين بحقه، المتمسكين بسنته، المتبعين لهديه، الفائزين بشفاعته.
اللهم أوردنا حوضه، واحشرنا في زمرته، ومُنّ علينا بمرافقته في جنات النعيم، يا رب العالمين.
اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، وأصلح أحوال المسلمين، واشف مرضى المسلمين أجمعين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
(ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 147].
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180 - 181].