السميع
كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | أحمد عماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - المنجيات |
الحسد ثوَران النفس لغير الحق، وحقد دفين في الصدور، وغلٌّ كامن في دواخل النفس، ولؤم مستور في القلب، كلها سهام مصوَّبة نحو الكرم والنبل والشهامة والفضيلة التي تستحيل على الحاسد أن ينالها، أو يرقى إلى محاسنها، أو يتحلَّى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
نتابع حديثنا في التحذير من مساوئ الأخلاق وقبيح الخصال؛ وحديثنا اليوم عن خلق ذميم ووصف قبيح، عن داء من الأدواء الخبيثة، ومرض من الأمراض الفتاكة المقيتة، داء يقود إلى كل القبائح والمهالك، فمِنه تكون العداوة والقطيعة، والوحشة والفرقة، والخِصام والنزاع، والكراهية والبغضاء، إنه داء الحسد؛ وما أدراكما الحسد؛ داء ينهك الجسد، ويفسد الودَّ، ويُضعِف اليقين، ويُسهِر العين، ويُورث الهم والغم.
والحسد كراهة النعمة، وحبّ زوالها عن المُنعَم عليه، قال الجرجانيّ في تعريفه: "الحسد تمنّي زوال نعمة المحسود إلى الحاسد"، وقال الراغب: "الحسد تمنّي زوال نعمة من مستحقّ لها، وربّما كان مع ذلك سعيٌ في إزالتها".
الحسد ثوَران النفس لغير الحق، وحقد دفين في الصدور، وغلٌّ كامن في دواخل النفس، ولؤم مستور في القلب، كلها سهام مصوَّبة نحو الكرم، والنبل، والشهامة، والفضيلة، التي تستحيل على الحاسد أن ينالها، أو يرقى إلى محاسنها، أو يتحلَّى ببعض صفاتها.
فالحَسودُ هو الذي امتلأ قلبه حِقدا وكراهية وحَسدا؛ لا يَسُرّه أن يرى نعمة على أحد، ولا يريحه أن يرى مِن الناس مَن هو أكثرُ منه مالا وولدا، أو أفضل منه علما، أو أجل منه قدرا.
الحسود هو الذي يَضيق صدره عندما يتفوّق عليه أحد في أمر من الأمور، فلا يهدأ له بال حتى تزول النعمة عن صاحبها ويكون أسوأ منه حالا.
الحسود يتمنى أن يكون عنده ما ليس عند غيره، يحب أن يمتلك كل شيء، وأن يفقد الناس كل شيء.
وليست المنافسة في الخير والطاعات من الحسد في شيء، بل هي مستحبة محمودة إذا كانت القلوب سليمة من كل سوء وضغينة، وقد حث الله -تعالى- على المنافسة في الخيرات بقوله سبحانه: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 22 - 26].
وليس من الحسد المذموم أيضا أن يتمنى المرء أن يكون عنده من الخير مثل ما عند غيره من غير أن تزول عن صاحبها وإنما ليكون مثله في فعل الخير والتمكن من الطاعات والقربات، كمن يحب أن يكون له مثل علم فلان ليعمل به ويعلمه الناس، أو يحب أن يكون له مثل مال فلان لينفق منه في طاعة الله، من غير تمني زوال مال الغير أو علمه أو أي نعمة أخرى، فهذه هي الغِبطة، ولا حرج فيها ولا لوم ولا ذم؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل. ورجل آتاه الله مالا فهو يُهلِكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيتُ مثل ما أوتي فلان، فعملتُ مثل ما يعمل" (أخرجه البخاري).
قال محمود بن سليمان الكفويّ -رحمه الله-: "الغبطة تمنّي الإنسان أن يكون له مثل الّذي لغيره من غير إرادة إذهاب ما لغيره، أمّا الحسد فهو إرادة زوال نعمة الغير، ثمّ إنّ الغبطة صفة المؤمن، والحسد صفة المنافق".
الحسد داء قديم ابتليت به البشرية منذ القدم، وانتشر بين الناس في كل زمان ومكان، فعن الزبير بن العوّام -رَضي الله عنه- أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ أفشوا السلام بينكم" (أخرجه الإمام أحمد والترمذي وحسنه الألباني في صحيح الجامع).
وللحسد عواقب وخيمة، ومخاطر عديدة على الفرد والأسرة والمجتمع، وهذه بعضها: الحسد معصية وخطيئة؛ ذمّه الله -تعالى- وأنكرَ على أهله، فقال سبحانه: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) [النساء: 54 - 55].
إنه خلق ذميم لا يليق بمؤمن آمن بربه، وأيقن بحِكمته، ورضيَ بقِسمته، وأحَبّ الخير لمجتمَعِه وأمّتِه.
وقد حذر منه نبينا -صلى الله عليه وسلمَ-، وبيّن أنه يتنافى مع الإيمان، وقِيم الإسلام وأخلاقه، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا يجتمعان في قلب عبد: الإيمانُ والحسد" (أخرجه النسائي وابن حبان عن أبي هريرة -رَضي الله عنه-، وحسنه الألباني في صحيح النسائي وغيره)، وفي الصحيحين عن أنس بن مالك -رَضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عبادَ الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال".
الحسد أوّل ذنب عُصِيَ الله به في السماء؛ حين خلق الله -تعالى- آدم -عليه السلام-، وأمر الملائكة بالسجود له إكراما له وتشريفا، فاستجاب الملائكة لأمر الله، وامتنع إبليس عن السجود لآدم حسدا وتكبرا، قال الله -تعالى-: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [ص: 71 - 76]
الحسد أوّل ذنب عُصِيَ الله به في الأرض؛ عندما حسد ابن آدم قابيل أخاه هابيل، حين قدَّم كلٌّ منهُما قُربانًا إلى الله، فقبِلَ قربانُ هابيل، ولم يُقْبل قربان قابيل، فحسد قابيلُ أخاه هابيل على ذلك وقتله، قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة: 27 - 30]
الحسد داء يضرّ صاحبه في دينه وفي دنياه؛ أما ضرره في الدين؛ فإن الحاسد قد سخط قضاءَ الله -تعالى- فكَرِه نعمته على عباده، ويكفيه سوءا وبُعدا أنه شارَك إبليس في الحسد وفارَق الأنبياء في حبِّهم الخير لكلِّ أحد: (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا) [النساء: 119 - 121].
فالحاسد مُعترض على قضاء الله وحُكمه، يعادي نعمة الله التي أنعم بها على عباده، فلا تهدأ نفسه ويزول حسده إلا إذا رأى النعمة قد زالت، قال عبد الله بن مسعود -رَضي الله عنه-: "لا تعادوا نِعَم الله، فقيل له: ومَن يعادي نِعَم الله؟! قال: الذين يحسُدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ثم إن الحسد يحمل على إطلاق اللسان في المحسود بالشتم والتحايل على أذاه".
أيا حاسداً لي على نعمتي | أتدري على من أسأت الأدبْ؟ |
أسأت على الله في حُكمِه | لأنّك لم ترض لي ما وهبْ |
فأخزاك ربّي بأن زادني | وسدّ عليك وجوه الطلبْ |
وأما ضرره في الدنيا؛ فإن الحاسد يتألم ولا يزال في كَمَدٍ وغم وهم لا ينقطع عنه ما دام قلبه ممتلئا حقدا وحسدا، قال الأصمعي -رحمه الله-: "سمعت أعرابيًّا يقول: ما رأيت ظالمًا أشبه بمظلوم من الحاسد؛ حزن لازم، ونفس دائم، وعقل هائم، وحسرة لا تنقضي"، وقال معاوية -رَضي الله عنه-: "ليس في خصال الشرِّ أعدل من الحسد، يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود".
فالحاسدُ لا ينالُ مِنَ المجالسِ إلّا مَذَمّةً وذلاً، ولا ينالُ مِنَ الملائكة إلّا لَعنةً وبُغْضاً، ولا ينالُ من الخَلْقِ إلّا جَزعاً وغَمّاً، ولا ينالُ عندَ النَّزْعِ إلّا شِدّةً وهَولاً، ولا ينالُ عندَ الموقفِ (أي يوم القيامة) إلّا فَضِيحةً وهَواناً ونَكَالاً، قال الفقيه أبو الليث السمرقندي -رحمه الله تعالى-: "يصلُ إلى الحاسد خمسُ عقوباتٍ قبلَ أنْ يَصِلَ حَسَدُهُ إلى المحسودِ، أولاها: غَمّ لا يَنْقَطِعُ، وثانيها: مُصِيبةٌ لا يُؤجر عليها، وثالثها: مَذَمّةٌ لا يُحْمَدُ عليها، ورابعها: سُخْطُ الرَّب جلَّ وعلا، وخامسها: يُغْلَقُ عنهُ بابُ التّوفيقِ".
دَعِ الحَسُودَ وَمَا يَلْقَاهُ مِنْ كَمَدِهْ | كَفَاكَ مِنْهُ لَهِيبُ النَّارِ فِي جَسَدِهْ |
إِنْ لمْتَ ذَا حَسَدٍ نَفَّسْتَ كُرْبَتَهُ | وَإِنْ سَكَتَّ فَقَدْ عَذَّبْتَهُ بِيَدِهْ |
الحسد يمنع صاحبه من قبول الحق والإذعان له، وما حمل اليهود والنصارى على كراهية الإسلام وصرف أهله عنه إلا الحسد، قال سبحانه وتعالى عنهم: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [البقرة: 109]
وعن عائشة -رَضي الله عنها- عن النبيّ -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "ما حَسَدتكم اليهود على شيء، ما حسَدتكم على الإسلام والتأمين" (أخرجه ابن ماجة في سننه، وصححه الألباني في صحيح الجامع).
الحسد سبب في العداوة والخصام؛ فالحسد إذا دبّ في أمة من الأمم تمزقت وتفرقت وانهارت؛ لأن من أعظم مخاطر الحسد أنه يورث العداوة والبغضاء بين الناس، ويولد الأحقاد والضغائن، ويحمل صاحبه على محاولة إزالة النعمة من أخيه بأي طريق، وكيف تفلح أمة أفرادها متنافرون، متعادون، متحاسدون، يتمنى بعضهم لبعض زوال النعم، وحصول النقم؟! عن عبد الله بن عمرو -رَضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "إذا فتِحَتْ عليكم فارسُ والروم أيّ قوم أنتم؟" قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "أوْ غير ذلك؛ تتنافسون، ثمّ تتحاسدون، ثمّ تتدابرون، ثمّ تتباغضون، أو نحو ذلك، ثمّ تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض" (رواه مسلم).
وعن أبي هريرة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "سيصيب أمّتي داء الأمم" قالوا: يا رسول الله وما داء الأمم؟ قال: "الأشَرُ والبَطرُ، والتكاثر والتناجُش في الدنيا، والتباغض والتحاسد، حتى يكونَ البغي" (أخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي).
قال معاوية -رَضي الله عنه-: "كلّ الناس أقدِرُ على رضاه إلّا حاسدَ نعمةٍ فإنّه لا يُرضيه إلّا زوالها، ولذلك قيل:
كلّ العداوات قد ترجى إماتتها | إلّا عداوة من عاداك عن حسد |
الحسد طريق إلى كل شر وبلاء: وكَفَى الحَاسِدَ مَذمَّة أنَّ اللهَ -تعالى- أَمَرَنَا أن نَسْتَعِيْذ مِنهُ كَما أَمَرَنَا أن نَسْتعِيْذ مِنَ الشَّيْطَانِ سَوَاءً بِسَوَاء، قال تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) [الفلق: 1 - 5].
قال الماورديّ -رحمه الله-: "اعلم أنّ الحسد خلق ذميم، مع إضراره بالبدن، وإفساده للدّين، حتّى لقد أمر الله بالاستعاذة من شرّه، فقال تعالى: (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) [الفلق: 5]، وحسبُك بذلك شرّا، ولو لم يكن من ذمّ الحسد إلّا أنّه خلق دنيء، يتوجّه نحو الأكفاء والأقارب، ويختصّ بالمخالط والصاحب، لكانت النزاهة عنه كرما، والسلامة منه مغنما، فكيف وهو بالنّفس مضرّ، وعلى الهمّ مصرّ، حتّى ربّما أفضى بصاحبه إلى التلف، من غير نكاية في عدوّ، ولا إضرار بمحسود".
وقال بعض الحكماء: "ما أمْحَقُ للإيمان، ولا أهتكُ للستر من الحسد؛ وذلك أن الحاسد مُعانِد لحكم الله، باغٍ على عباده، عاتٍ على ربه، يعتدُّ نِعَم الله نِقَمًا، ومزيده غِيَرًا، وعدلَ قضائِه حيفا، للناس حالٌ وله حال، ليس يَهدأ، ولا ينام جشعه، ولا ينفعه عيشه، محتقرٌ لنِعَم الله عليه، متسخِّط ما جرت به أقداره، لا يبرد غليله، ولا تُؤمَن غوائله، إن سالمته وَتَرَك، وإن واصلته قَطَعَك، وإن صَرَمته سبقك".
الحسد داء يَقتل صاحبه: فصدر الحَسود يَضيق، وقلبه يتفطّر ألماً إذا رأى نعمة الله على أخيه، فيُعاني من البؤس واللأواء، مما لا يستطيع معه أن يبث ما يجده من الحزن والقلق، ولا يقدر على الشكوى إلا إلى الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء، أو مَن هو على شاكلته في الحسد.
فالحَسُود مُعَذب؛ لا ينقطع غمه، ولا يستريح قلبه، ولا تسكن ثائرته، ساخط على ربه وعلى الناس، معذب النفس، منغص البال، دائم الهم، فقاتلَ الله الحسود، لا يفعل الخير ولا يحبه لإخوانه، غاية أمنيته زوال نعمة الله عن عباده.
فاتقوا الله -عباد الله- وطهروا قلوبكم من الحسد والحقد والكراهية والبغضاء، واعلموا -رحمكم الله- أن الله -تعالى- لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم؛ إنه سبحانه وتعالى عليم بذات الصدور.
الخطبة الثانية:
مرة أخرى مع التحذير من داء الحسد؛ ذلكم الداء العضال الذي مزق الأمة، وأوغر الصدور، وأوقع العداوة والبغضاء بين الأقارب والأصحاب والجيران. وحديثنا اليوم عن وسائل الوقاية من هذا الداء، فكيف لنا أن نطهر قلوبنا من الحسد؟ وكيف لنا أن نقي أنفسنا من الحسد؟
فعلى كل مسلم عاقل أن يجتهد في وقاية نفسه من داء الحسد، وأن يبذل كل ما بوُسعِه من أجل التخلص منه وتطهير قلبه منه، ويساعد على ذلك أمورٌ منها:
أولا: الزهد في الدنيا؛ فالدنيا ظل زائل، وعارية مُسترجَعة، لا تعدل عند الله جَناح بعوضة، نعيمها لا يدوم، وسرورها لا يدوم. لا وجه للمنافسة فيها عند العقلاء، فأنت هنا لتأخذ الزاد إلى الدار الآخرة؛ لا لتنافس من أجل الدنيا، أو تخاصم من أجلها، أو تعادي وتقاتل من أجلها. كيف تحسد الناس على دنيا فانية، وأموال زائلة؟ وقد قال ربنا -سبحانه-: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور) [آل عمران: 185]، وقال عز وجل: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 131].
قال الحسن -رحمه الله-: "يا بن آدم لِمَ تحسد أخاك؟ فإن كان الّذي أعطاه لكرامته عليه، فلِمَ تحسد من أكرمه الله؟ وإن كان غير ذلك فلمَ تحسد من مصيرُه إلى النار؟".
ثانيا: الرضا بقضاء الله وقدره وقِسْمته؛ فاعلمْ -يا عبد الله- أنّ الذي قسَم الأرزاق بين العباد هو الله العليم الحكيم -سبحانه-.
فلله -سبحانه وتعالى- حِكمة في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد؛ حتى تحصلَ عمارة الأرض، ويَحصلَ التعاون والتعايش والتضامن، ويتبادلَ الناس المنافع والمصالح، ويخدُمَ بعضهم بعضًا، قال الله -تعالى-: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف: 32]، وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) [الأنعام: 165].
الناسُ للناس مِن بَدْوٍ ومن حَضر | بعضٌ لبعض وإن لم يشعروا خدَمُ |
فالذي يعترض على قِسمة الله بحسده لعباد لله إنما هو مُعترض على علم الله وحِكمته، وهذا جهل وضلال، فإن الذي خلق الخلائق هو أعلم بمصالحهم ومنافعهم، وقد قال سبحانه: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].
قال بعض الحكماء: "من رضي بقضاء الله -تعالى- لم يسخطه أحد، ومن قنع بعطائه لم يَدخُله حسد".
فالحاسد لا يحسدك على عيبٍ فيك، ولا على خيانة ظهرت منك، ولكن يحسدك بسبب تسخطه وعدم رضاه بقضاء الله؛ كما قال العُتبي -رحمه الله-:
أُفَكِّرُ مَا ذَنْبِي إِلَيْكَ فَلاَ أَرَى | لِنَفْسِيَ جُرْمًا غَيْرَ أَنَّكَ حَاسِدُ |
ثالثا: القناعة بما قسَم الله -سبحانه-: فصاحب القناعة لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولا يتطلع إلى ما في أيدي الناس، بل ولا ينظر إلى من هو أكثر منه في المال والمنصب والجاه، وإنما ينظر إلى من هو أقل منه في ذلك. وهذا ما علمنا إياه نبيُّنا -صلى الله عليه وسلمَ-، فيما رواه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "انْظرُوا إِلَى مَنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ" قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: "عَلَيْكُمْ"، وفي لفظ لابن حبان في صحيحه: "إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَنْ فَوْقَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ".
رابعا: العلم بأن الفقر والغنى ابتلاء وامتحان؛ فالعطاء ابتلاء، والمنع ابتلاء، الغنى ابتلاء، والفقر ابتلاء، ومن رضيَ فله الرضا، ومن سخِط فله السّخْط: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35].
والمؤمن لا يكون إلا صابرا في البأساء والضراء، شاكرا في السراء والرخاء، ومن كان هذا حاله لا يَحْسُد أحدا ولا يحقد على أحد، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "عجبا لأمر المؤمن، إنّ أمرَه كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إنْ أصابته سَرّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له" (رواه مسلم من حديث صهيب).
وأنت أيها المحسود، يا من حَسَدك الناس على علم أو مال أو جاه: استعذ بالله من شرّ الحاسدين؛ فالله -تعالى- سميع لِمَن استعاذ به، عليم بما يَستعيذ منه، قادر على كلِّ شيء.
ولا حافِظ للعبد ولا مُعيذ له إلا الله، وهو سبحانه حَسْبُ مَن توكل عليه، وكافي مَن لجأ إليه، وهو الذي يؤمِّن خوفَ الخائفين، ويُجيرُ المستجيرين، ويُجيبُ دعوة المضطرين، وهو نِعمَ المولى ونعم النصير.
بسم الله الرحمن الرحيم: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) [الفلق: 1 - 5].
اصبرْ على ما أصابك؛ فما نُصِر على الحاسد والعدوِّ بمثل الصبر عليه، وكلَّما زاد بَغْيُ الحاسدِ كان بَغيُه وَبالا عليه، يقاتلُ به الباغي نفسَه وهو لا يشعر، فبغيُه سهمٌ يَرمي به نفسَه: (وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) [فاطر: 43]، فإذا صبر المحسود على حاسده نال حُسن العاقبة بإذن الله -تعالى-.
يقول عبد الله بن المعتزّ -رحمه الله-:
اصبر على كيد الحسود فإنّ صبرَك قاتِله | فالنّار تأكل بعضَهـا إن لم تجدْ ما تأكله |
اصبرْ وأطفِئْ نارَ الحاسد والباغي بالإحسان إليه، فكلَّما ازداد أذى وشرًّا وبغيًا وحسدًا، ازدَدْتَ إليه إحسانًا وله نصيحةً وعليه شفقةً؛ قال الله -تعالى-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت: 34].
إِنْ يَحْسُدُونِي فَإِنِّي غَيْرُ لاَئِمِهِمْ | قَبْلِي مِنَ النَّاسِ أَهْلُ الفَضْلِ قَدْ حُسِدُوا |
فَدَامَ لِي وَلَهُمْ مَا بِي وَمَا بِهِمُ | وَمَاتَ أَكْثرُنَا غَيْظا بمَا يَجدُ |
"احفظ الله يحفظك"؛ فمَن اتقى الله -تعالى-، وحفظه في حدوده وشرعه، بامتثال أمره واجتناب نهيه والوقوف عند حدوده تولَّى الله حفظه ولم يَكِلْه إلى غيره؛ قال تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضركُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران: 120]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلمَ- لعبد الله بن عباس -رَضي الله عنهما-: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ"، فمَن حفظ الله حفظه الله، ووجده أمامه أينما توجَّه، ومَن كان الله حافِظه وأمَامَه، فممَّن يخاف؟! وممَّن يحذر؟!
كن دائم التوكُّل على الله -تعالى-؛ فالتوكُّل على الله من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد عنه ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 3]، ومَن كان الله كافيه فلا مَطْمَع فيه لعدوٍّ ولا حاسد ولا حاقد: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الحجر: 42]، (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران: 173 - 174].
عباد الله: إياكم والحسد، اجتنبوه، وطهروا قلوبكم منه، ورَوِّضُوا أنفسكم على الرضا بما قسم الله، وعلى محبة الخير لعباد الله.
لا تكن حسودا؛ فإن الحسد خلق لئيم، وذنب كبير، لا يليق بمؤمن ولا يليق بعاقل، واعلم أن خير ما تكون عليه حين تكون مع مَن هو خيرٌ منك، وأن أفضل أحوالك أن تعاشر من هو أفضل منك لتستفيد من علمه وصلاحه وأخلاقه وقوته وماله وجاهه، فلِمَ الحسد؟ ولِمَ الحِقد والكراهية؟
فعزيز النفس وكريم الخصال إنْ أبصَرَ غيره في أمر يُثنى عليه به، أو رآه في منزلة يُغبَط عليها، لا يجول في خاطِره أنْ يَحسُده على نعمته، أو يَحُط من منزلته، بل يجعل منه القدوة في الخير والصلاح والجد والعمل، بل إنه يحب له الخير ويتمنى له المزيد؛ فعن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه -رَضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو أخيه ما يُعجِبه فليُبَرّكْه"، وفي رواية فليَدعُ له بالبركة، فإن العين حق" (أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي).
وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال في سهل بن حنيف لما أصيب بالعين: "علام يقتل أحدكم أخاه؟ إذا رأى أحدكم مِن أخِيه ما يُعجبه فليدْعُ له بالبرَكة" (أخرجه النسائي وابن ماجة، وصححه الألباني في صحيح الجامع).
لا تكن حسودا؛ ففي ترك الحسد خير وسرور وراحة بال، فعن ضمرة بن ثعلبة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا" (أخرجه الطبراني في معجمه، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة)، وعن عبد الله بن عمرو -رَضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "أيّ الناس أفضل؟ قال: "كلّ مخموم القلب، صدوق اللسان" قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقيّ النقيّ، لا إثم فيه ولا بغي ولا غلّ ولا حسد" (أخرجه ابن ماجة، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).
فعندما يغيب الحسد بين الناس تسود المودة والمحبة والأخوة. وعندما ينتشر الحسد بين الناس تكون الفرقة والنزاع والشقاق.
ألم تروا كيف يفعل الحسد بالإخوة إذا تمكن من قلوبهم وتوغل في صدورهم؟ فبالحسد ألقي يوسف -عليه السلام- في غيابة الجُبّ ظلما وعدوانا، من طرف إخوته الذين تفترَضُ فيهم حِمايته ورعايته، قال تعالى عنهم: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) [يوسف: 8 - 9].
لا تكن حسودا؛ فإن سلامة القلوب وصفاءها ونقاءها من الغل والحقد والحسد طريق إلى جنة عرضها السموات والأرض؛ فعن أَنَس بْن مَالِكٍ -رَضي الله عنه- قال: "كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- فَقَالَ: "يَطْلعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ" فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ (أي تقطر وتسيل) قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى. فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي، فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْت. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا. فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ؛ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ! فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ! فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-؟!. فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: "مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ" فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ" (أخرجه أحمد والنسائي).
فإذا أحببت أن تنال ما ناله هذا الصحابي الجليل، فاعمل بعمله، والذي أشار إليه بقوله رَضي الله عنه: "لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ".
فاللهم طهّرْ قلوبنا من الحسَدِ والحِقد والبغضاء، ومن كل سوء وضغينة يا رب العالمين.
اللهم ارزقنا الرضا بما قسمت، وألهمنا الشكر على ما أعطيت.
اللهم اجعلنا راضين بقضائك، شاكرين لك على نعمائك، صابرين عند كل محنة، ثابتين عند كل فتنة، يا أرحم الراحمين يا رب العالمين.