العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن ثباتك على الدين في وقت الفتن, واستقامتك على الجادة, مهما كثرت الصوارف، أو طغت المغريات، أو لاح تهديد، أو عرض ترغيب، عبادة من أجل العبادات في زمن الفتن. وتقلبك في صنوف القربات, قولِيها وعمليها, عبادة من العبادات, ذكر ودعاء, توبة ورجاء, صلاة وصيام, قرآن وأخلاق وقيام, وزد, فما عند الله أعظم ولكل عبادة فضيلة في وقت الفتن وغفلة الناس زد من طاعات كنت تعملها, واسعَ في جمع الكلمة وإيصال النصيحة ورفع الغمة, وكن دلاّلاً للخير, داعية للبر, مُرهٍّباً من العصيان..
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
يتحدث الأطباء والعارفون عن حكمة خلق الإنسان بهذه الطريقة, لماذا خلق الله يده هكذا, وأصابعه هكذا, وأذنيه هكذا, ويُرجعون كل شيء من خلقه لحكمةٍ عظيمة تُبين حكمة الله في خلقه, ولكن صاحب هذه الجوارح كلها, والذي خلَقه الله فأبدع في خلقه لماذا أوجده الله وخلقه؟
بل وتقرأ في القرآن آيات متتابعة (هو الذي خلق لكم..) (هو الذي ذرأ لكم) (سخر لكم) كل هذا (لكم), فلأي شيء أنتم خُلقتم يا من خُلق الكونُ لكم, يا من خُلقت الأشجار والزروع لكم, يا من سخَّر الله الطير والحيوانات والريحَ لكم, يا من أرسى الأرض ونصب الجبال لكم, لأي شيء أنتم خلقتم؟
سؤال عرفناه صغاراً وتذاكرناه كباراً, لعبادة الله خلقنا ولطاعته أوجدنا.
أجل؛ وهل خُلق الإنسان وتوالت عليه نعم المنان إلا ليعبد الرحيم الرحمن, وما أعظم خسارة المرء يوم أن ينسى ما خُلق لأجله! وما أجهله يوم أن ينشغل بكل شيء إلا بعبادة ربه!
معشر الكرام: وإذا كان الإقبال على الله يُطلب في كل آنٍ فإنه حين الغفلة عنه يتأكد, وفي زمن انشغال الناس عن العبادة يعظم ويُطلب.
وإن من أجلى صور المحب لله أن تراه يقبل عليه والناس منشغلون, وعن طاعته لاهون, فبينما الناس في دنياهم, في غُدُوهم ورواحهم, هو يقبل على الطاعة, لأن ربه أغلى عنده من كل شيء.
وإن غفلة النَّاس تجعل الطاعات شاقة على النفس؛ لأنه إذا ما كثر الطائعون لله تعالى فإنَّ النَّاس تألف الطاعة, واعتبر بالحال في "رمضان" فالنَّاس صائمون، فلا يُحسِّون بمشقة الصيام، ولا بمشقة القيام، لكثرة الطائعين الصائمين القائمين، أما إذا جاءت أوقات الغفلة، وتفرَّد المرء بالطاعة كانت شاقة على نفسه وصعبة؛ لأنه لا يجد مَن يتأسى به.
وقد ورد في الأحاديث -أيها الكرام- حالتان ينشغل الناس فيهما عن الطاعة.
ففي زمن الفتن ينشغل الناس عن طاعة الله, ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "العبادة في الهرج -والهرج أيام الفتن واختلاط الأمور، وحال القتل والحرب، وحال الخوف والذعر- كهجرة إليَّ". أي: للنبي -صلى الله عليه وسلم- في فضلها.
يالله؛ الهجرة! التي لها من الثواب جزيلُهُ ومن الأجر شريفُه, والتي أثنى الله على أهلها إذ ضحوا بالأهل والبلد لأجلها, ثوابها يُنال بالتعبد في زمن الفتن وتغير الأحوال, وهو زمن يعد مظنة الغفلة والانشغال.
حينما تدلهم الفتن وتتوالى المحن وتضطرب الأحوال يبقى الإنسان متلهفًا للخبر، متابعًا للحدث، باحثًا عن الحقيقة، يقلب القنوات ويتتبع الإذاعات، ويلهث خلف الجرائد والمجلات, ولكنه قد ينسى أمرًا عظيمًا، وسياجًا واقيًا، ودرعًا حصينًا، أرشد إليه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، إذا اشتدت الكروب، وعظمت الفتن، إنها العبادة على اختلاف أنواعها وأوقاتها، وتفاوت أفضالها وأزمانها.
كم أشغلتنا الأخبار, وكم فتكت بالمسلمين الفتن, ومهم أن تعتني بحال المسلمين ولكن ذلك لا يكون على حساب حق الله في العبادة, وربنا بيده كشف الفتن وتغيير الحال إذا توجه له الناس.
لن تغير الحالَ حين ترى الأخبار والتحليلات, وتتابع المستجدات الساعات, وإنما قد تكون سبباً في التغيير حين تغيرُ حالك وتقبلُ على ربك وترفعُ له الدعوات, وتتقلبُ في العبادات (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم) [الرعد: 11].
لقد عرف الناس أن في عبادة الله يجد المرء ملاذاً من الفتن ومخرجًا من البلايا والمحن ونجاة من العقوبات, ويوم أن تحل بالناس المصائب فليس لهم ملجأ إلا الله.
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا حزَبه أمرٌ لا يفزع للمحللين, ولا يتصل بالإعلاميين, وإنما يتصل بخالق الكون -سبحانه-، يستمد منه العون، والمعافاة, وقال عنه بلال " كان إذا حزبه شيء فزع إلى الصلاة".
وفي الصحيح "استيقظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فقال: سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن؟! وماذا فتح من الخزائن؟! أيقظوا صواحبات الحُجَر, فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة".
يا ترى لأي شيء توقظ صواحب الحجرات, ألِنظرٍ في الأخبار, أم لعبادة الواحد القهار, ومناجاتِه في الليل وأطراف النهار.
وحين رأى كثرة عدوه يوم بدر فزع إلى ربه, فنصره الله وأتم له الظفر.
معشر الكرام: وانظروا لحالنا اليوم مع العبادة, هل نحن مجتهدون, أما والله لا يعجز الله تغيير الحال في كل مكان في لحظة, ولكنه يتابع المحن لعل العباد يرجعون, ولتزداد الأجور, وليسمع دعاء عبده.
يا من أهمهم شأن المسلمين, يا من يخافون من مستقبل الإسلام, الله يرى ويسمع, فأقبلوا عليه وكِلُوا الأمرَ له, وأبشروا, فكم من شدة رفعها! ومحنةٍ كشفها! كم مرّت على المسلمين من شدائد وبلايا, ومحنٍ ورزايا, وحين غيّرَ الناسُ حالهم, وأقبلوا على عبادة مولاهم, تحول البؤس عزاً, والذل تمكيناً.
وفوق هذا أيها الكرام, ففي قول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم.."، اجتهدوا قبل وقوعها, وأقبلوا على الطاعة قبل حلولها, وافزعوا لها عند وجودها فبذلكم ترفع الفتن وتكشف الكرب.
عباد الله: وليست العبادة – حين يُشاد بها- مقصورة على الصلاة ونحوها, بل هي أوسع من ذلك.
إن ثباتك على الدين في وقت الفتن, واستقامتك على الجادة, مهما كثرت الصوارف، أو طغت المغريات، أو لاح تهديد، أو عرض ترغيب، عبادة من أجل العبادات في زمن الفتن.
وتقلبك في صنوف القربات, قولِيها وعمليها, عبادة من العبادات, ذكر ودعاء, توبة ورجاء, صلاة وصيام, قرآن وأخلاق وقيام, وزد, فما عند الله أعظم ولكل عبادة فضيلة
في وقت الفتن وغفلة الناس زد من طاعات كنت تعملها, واسعَ في جمع الكلمة وإيصال النصيحة ورفع الغمة, وكن دلاّلاً للخير, داعية للبر, مُرهٍّباً من العصيان, منابذاً للفساد والطغيان, فكل ذلك تعبد للرحمن..
اللهم أصلح أحوال المسلمين...
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
وثمة زمن يغفل البعض فيه عن العبادة, ويلهون عنها, إنه شهر شعبان, قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ".
إذا كان الله خلق العبد للعبادة, ففي أزمان ثبت شرفها, وأيام عرف عن الصالحين تعاهدها, تتأكد العناية, وشعبان شهر كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيه شأن مختلف عما قبله, وكان يقول فيه "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِين".
وتأمل كيف ذكر سبب اشتغاله في شعبان بأمرين هما الغفلة فيه, ورفع الأعمال لله فيه.
إن الأعمال تُعرَض على ذي الجلال, ويرى ما عملت, وما خطَّ في الصحائف, ويُصعدُ بأعمال عامٍ عشته بحسناته وسيئاته, دونت فيه أقوالك وفعالك, فماذا تريد أيها المبارك أن يرفع لك إلى الله, وإذا كنت نسيت ما عملت فحسن أن يرفع العمل وأنت في عبادة عل الله يغفر ما خُطّ من الإساءة.
عباد الله: ولأجل هاتين العلّتين, غفلةِ الناس ورفع الأعمال كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يصوم شعبان كله, أو جُلّه, قالت عائشة –رضي الله عنها-: "وما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر إلا رمضان وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان" (متفق عليه).
وأما السلف الصالحون فلهم في شعبان حالٌ بها لرمضان يتهيئون, ولأُهبة موسم الصوم يستعدون, قال سلمة بن كهيل: "كان يقال شهر شعبان شهر القراء"، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء، وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن.
أيها الموفق: أرِ الله من نفسك في شهرك الذي أظل خيراً, واجعل أيامه اليسيرة دروة تتهيأ بها لرمضان.
الصوم في شعبان من أجلّ الأعمال فيه, وحين يطول النهار ويشق الصيام يعظم الأجر, ويدخر المرء ظمأ الهواجر فيه لحرّ الآخرة, والعطش فيه ليوم طويل عطشه, وشديد حره.
وكم سيسعد أقوامٌ حين يلقون الله فيرون طاعات عملوها, وقربات قدموها, ذهب عناؤها، وثبت بإذن الله أجرها, فيسعد المرء عند طاعته؛ لأنه مشى في رضى ربه, ويسعد في ختام عمله؛ لأن الله أعانه, ويسعد يوم يلقى ربه لأنه غلب هواه وأطاع مولاه.
مضى رجب وما أحسنت فيه | وهذا شهر شعبان المبارك |
فيا من ضيع الأوقات جهلاً | بحرمتها أفق واحذر بوارك |
فسوف تفارق اللذات قسرًا | ويخلي الموت كرهًا منك دارك |
تدارك ما استطعت من الخطايا | بتوبة مخلص واجعل مدارك |
على طلب السلامة من جحيم | فخير ذوي الجرائم من تدارك |