المولى
كلمة (المولى) في اللغة اسم مكان على وزن (مَفْعَل) أي محل الولاية...
العربية
المؤلف | محمد عبد الكريم الشيخ |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
فإذا كان الذنب ظلمةً في القلب، وسوادًا في الوجه، فعلى الإنسان أن يطفئ هذه الظلمة، وأن يذهب هذه المذلة التي قال عنها الحسن البصري: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، لا بد أن تجد ذل المعصية على وجوههم، أبى الله إلى أن يذل من عصاه".
الخطبة الأولى:
أما بعد: أيها المسلمون، يقول الله -سبحانه وتعالى- في سورة يونس -عليه السلام-: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [يونس:26]. الحسنى: أي الجنة, وزيادة: أي النظر إلى وجه الله -تبارك وتعالى-، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة لأنهم عملوا الحسنات فلذلك لا يصابون بالذلة يوم القيامة، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. فإذا كان هؤلاء السعداء؛ فمن هم الأشقياء؟.
قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا)، وهذا من فضله ومنّه وكرمه، ومع ذلك، مع أن الله يكتبها سيئة واحدة، (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [يونس:27].
من أكبر صفات أهل النار أنهم -عياذًا بالله- أنهم يقترفون السيئات والمعاصي، فتبدو وجوههم يوم القيامة قطعًا من الليل مظلمًا من سوادها وظلمتها، يجعلها الله -عز وجل- كذلك آية ليعرف الفائز من الخاسر، يقول ابن عباس-رضي الله عنهما-: "إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق". إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، يتنور القلب بالحسنة، ويبدو ذلك في الوجه, فيتقوى القلب بالطاعة, وتحدث قوة في البدن، وسعة في الرزق: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح:10-12]، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96]. وتورث الطاعة -أيضاً- محبةً في قلوب الخلق؛ فإن الله إذا أحب عبدًا أحبه عباده ـ
ثم يقول ابن عباس-رضي الله عنهما- في المقابل: "وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنًا في البدن -أي: ضعفًا في البدن-، ونقصًا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق". إن السيئة حسبما تبدو لكثير من الناس أمر فيه لذة ينعم الإنسان به, لكن الذنب في الحقيقة ظلمة في نفس صاحبه، ظلمة لا يشعر بها مع الزمن, هذه الظلمة تظهر على وجهه فيصبح مبغوضًا عند من يحبهم الله -عز وجل- من الخلق, عند الصالحين, هذه الظلمة تبدو في تصرفاته وأفكاره، وفي اقتراحاته، فلا يهتدي إلى الحق، ولا يجد إلى ما يرضي ربه سبيلاً.
وهذه الآثار التي ذكرها حبر الأمة عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما- إنما هي على سبيل المثال وليس الحصر, أخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- قال: "إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها"، فهذه من آثار الذنوب والمعاصي, أن الإنسان ينسى الحق الذي أخذه في يوم من الأيام.
وإن للمعاصي والذنوب أصولاً ذكرها الله -تعالى-، يقول الإمام ابن القيم في كتابه القيم "الفوائد": إن أصول المعاصي كلها، صغارها وكبارها، ثلاثة: تعلق القلب بغير الله, وطاعة القوة الغضبية والقوة الشهوانية وهي الشرك والظلم والفواحش، ثم يفصل فيقول: فغاية التعلق بغير الله الشرك، وأن يدعو مع الله إلها آخر, وغاية طاعة القوة الغضبية القتل, وغاية طاعة القوة الشهوانية الزنا؛ ولذلك جمع الله -سبحانه وتعالى- بين هذه الثلاثة فقال في كتابه: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ) [الفرقان:68], فذكر الله -تعالى- نتيجة التعلق بغير الله ألا وهي الشرك, و ذكر الله نتيجة طاعة القوة الغضبية, ألا وهي القتل, وذكر الله -عز وجل- غاية طاعة القوة الشهوانية ألا وهي الزنا.
وكثير من الناس قد يغفل عن أصول هذه المعاصي، وأن لها فروعًا، فما يعود يحس بهذه الذنوب، بل كثير من الناس قد يغفل حتى عن أصول هذه المعاصي، عن تعلق القلب بغير الله، عن القتل، عن الزنا، فيقع فيها فلا يشعر بشيء من ذلك البتة، تلك القلوب التي غطاها الران فما باتت تحس بشيء، ومات عندها الشعور فأصبحت لا تشعر بألم الذنب الذي هو -والله- أشد من ألم الجروح، وذلك عند المؤمنين الطائعين.
والسبب الرئيسي -إخوة الإيمان- في عدم إحساسنا بذنوبنا ومعاصينا هو ألفة الذنوب والمعاصي لكثرة اقترافها، تمامًا كألفتنا لمخلوقات الله العظيمة، كالسماء وما فيها، والأرض وما عليها، مما ذرأ الله من مخلوقاته العظيمة, وتعجب الناس جميعًا حين سمعوا عن نزول أول إنسان على سطح القمر، وما زلنا نتعجب من كل اختراع جديد يخرج على أيدي الناس, وننسى ما هو أدق وأبدع في الخلقة من تلك المخترعات البشرية، ننسى مخلوقات الله -تعالى- التي ذرأها، والتي أمرنا أن نتفكر فيها، (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:191]، كذلك الذنوب تمامًا، حينما يألفها القلب فإنه لا يعود يشعر بها.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان-رضي الله عنهما-، عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا, فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء, وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء, حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادًا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض".
وهذا ما كان يخيف سلفنا الصالح، أن يتعودوا على المنكرات والمعاصي، فتألفها قلوبهم، وبذلك لا يحسون بها, فهذا أبو الحسن الزيات يقول: والله لا أبالي بكثرة المنكرات والبدع، وإنما أخاف من تأنيس القلب بها؛ فإن الأشياء إذا توالت مباشرتها أنست بها النفوس, وإذا أنست القلوب بشيء قلّ أن تتأثر به.
لو نظر الناس في السابق إلى امرأة متبرجة ترقص لأنكروا ذلك، ولسموها بأقبح الصفات، ولرجموها وأبعدوها, لكن؛ حينما ألف الناس الصور العارية، حينما ألف الناس النساء المتبرجات في الصحف والمجلات وعلى شاشة التلفاز, حينما ألف الناس هذا، أصبحوا لا يحسون بهذا المنكر؛ لأن نفوسهم ترى هذه المنكرات؛ لأن عيونهم تراها ليل نهار، وتباشرها، فتأنس بها النفوس، فيجلس الإنسان مع أهله أمام شاشة التلفاز، ويُعرض عليها ما يغضب الله -تعالى- ولا يرضي الرسول، وتأنس القلوب بذلك, ويدعي المدعي بأن فيها حلاً للمشكلات الاجتماعية، وبأن فيها خيرًا, والله ليس فيها إلا الشر! وأي مشكلات اجتماعية هذه التي تحل بهذا الأسلوب؟ تحل بالنساء الكاسيات العاريات. أيّ مشكلات اجتماعية التي تحل على لسان الساقطات والساقطين من الممثلين والممثلات؟ مشكلاتنا الاجتماعية حلولها معروفة عندنا في الكتاب والسنة، وبرجوعنا إلى ديننا.
أقول: هذا ما كان يخيف سلفنا الصالح, أن يألف المنكرات فتأنس القلوب بها. وإن أشد من ألفة المنكر أن يألف الإنسان المنكرات والبدع, أن يألف الإنسان العقوبة على هذه المنكرات, فيصل إلى درجة لا يشعر أن الحال الذي هو عليه عقوبة لذنب قد اقترفه، لا يشعر حين ينزل الله -عز وجل- مصيبة عليه أن هذه المصيبة لذنب قد اقترفه, فتراه يأكل الربا عياذًا بالله, يترك الصلاة, يقترف الزنا, فإذا أصابه الله -عز وجل- بجائحة في نفسه أو ماله فينقل إلى مستشفى أو يفقد شيئًا من بدنه أو يفقد شيئًا من ماله يرجع إلى الذنوب التي كان قد اقترفها، (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى:30]، ينسى أن هذه العقوبة هي لذنب قد اقترفه.
يقول ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: واعلم أن من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب، فإن العقوبة تتأخر, وإنّ من أعظم العقوبة ألا يُحس الإنسان بها, وأن تكون في سلب الدين -يتأخر قليلاً قليلاً عن الطاعة- وطمس القلوب وسوء الاختيار للنفس, فيكون من آثارها سلامة البدن وبلوغ الأغراض ـ كما قال -عز وجل-: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف:182-183]، هذا في مسألة عدم الإحساس بالعقوبة.
ومن أمثلة ذلك عدم توفيق البعض لصلاة الفجر زمنًا طويلاً, فينام عن الصلاة، أو قد يصليها بعد وقتها كما حذر النبي من ذلك, فلا يعود مع الزمن يشعر بألم الذنب الذي هو فيه، بينما كان سلفنا الصالح يعود بعضهم الآخر إذا فاته صلاة جماعة عَلّه أن يكون مريضًا، علّه أن يكون منشغلاً، فيعودوه ظنًا منهم أنه كذلك.
ولا يزال العبد يقترف هذه الذنوب ويباشرها ويستأنس بها حتى تكون سببًا إلى هلاكه، إذ ربما تكون هذه الذنوب سببًا في سقوطه ورجوعه إلى طريق الضلال، الذي يطلق عليه الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: القتل، وهل هناك أشد قتلاً من أن ينحرف الإنسان من طريق الهداية إلى طريق الضلالة والاعوجاج؟ (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الملك:22]. يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: الذنوب جراحات، ورب جرح وقع في مقتل, رب جرح يقود إلى القتل, وكذلك رب ذنب يقيم عليه الإنسان ويصر عليه يكون سببًا في هلاكه ورجوعه إلى طريق الضلال.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعصمنا من الزلل، وأن يرزقنا الطاعة دائمًا أبدًا؛ إنه هو ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمَّن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه. والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، إمامنا وقدوتنا وسيدنا محمد.
ويتجاوز خوف أصحاب النبي من ذنوبهم إلى درجة قلّ أن يصل إليها أحد منّا, وصل خوفهم إلى درجة الإحساس بعدم قبول حسناتهم. يقول الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: "لقد لقيت أقوامًا كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم". يقول ذلك للتابعين! إذا كنتم تتورعون عن المحرمات فإني لقيت أصحاب النبي يتورعون عن كثير من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام! "لقيت أقوامًا كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم، ولقد لقيت أقوامًا كانوا من حسناتهم أشفق ألاَّ تقبل منهم من سيئاتكم"، هذا الكلام للتابعين أيضًا! يقول إذا كنتم تخافون من سيئاتكم أن يعاقبكم الله -عز وجل- بها فإني لقيت أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يخافون على سيئاتهم ولكن يخافون على حسناتهم ألا ترفع إلى الله -عز وجل-! مصداقًا لقول الله -سبحانه وتعالى- عن الذين يؤتون ما آتوا من الحسنات والطاعات: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون:60]، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هم الذين يصومون ويتصدقون ويصلون، ويخافون ألا تقبل منهم", (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون:61]، بل كان السلف الصالح رضوان الله -تعالى- عليهم يربطون الحرمان من الطاعة باقتراف ذنب من الذنوب.
قال أبو داود: "دخلت على رجل في بيته، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: إن بابي لمغلق لا يطرقه أحد من السائلين -أي: من السائلين للعلم أو المال- إنّ بابي لمغلق، وإنّ ستري لمسبل، ومُنِعْت جزئي أن أقرأه البارحة -أي: منعت من قيام الليل في البارحة أن أقرأ وردي- وما ذلك إلا لذنب قد اقترفته". فانظر كيف ربط الحرمان من الطاعة باقترافهم الذنوب!.
ولهذا، لما قيل لسعيد بن جبير -رحمه الله تعالى-: من أعبد الناس؟ قال: "أعبد الناس رجل ارتكب الذنوب، فكلما عمل طاعة تذكر ذلك الذنب فاحتقر عمله". هؤلاء هم أعبد الناس في نظر سعيد بن جبير، قوم عملوا الذنوب ويتوبون فيها، فإذا عملوا طاعة لم يغتروا بطاعاتهم تلك، بل نظروا إلى ذنوبهم تلك, فيحتقرون أعمالهم، حتى يصلوا إلى المسارعة في الخيرات؛ مصداقًا لما سبق من قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون:60].
فإذا كان الذنب ظلمةً في القلب، وسوادًا في الوجه، فعلى الإنسان أن يطفئ هذه الظلمة، وأن يذهب هذه المذلة التي قال عنها الحسن البصري: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، لا بد أن تجد ذل المعصية على وجوههم، أبى الله إلى أن يذل من عصاه".
لكي يذهب المذنب هذه الظلمة ويبددها وينقلب إلى عزة بعد مذلة ينبغي عليه أن يأخذ بسراج التقوى والتوبة، التوبة ذلك السراج الذي يطفئ الإنسان به ظلمة هذه الذنوب, فالله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31], والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"، وفي رواية: "أكثر من مائة مرة".
فإذا كان سيد البشر -عليه الصلاة والسلام- يستغفر الله, وإذا كان المؤمنون مطالبين من قبل الله بالتوبة, فما أجدر أصحاب الذنوب أن يسارعوا إلى تبديد ظلمهم وظلماتهم التي يعيشون فيها بهذا السراج الذي إذا حمله العبد أضاء له الطريق!.
وإنّ هذا السراج يحتاج منا إلى وقود حتى يبقى مشتعلاً, ووقوده، كما قال العلماء: العلم والصبر؛ فإن الذي لا يقف على الداء لا يقف على الدواء, وإن سبب العصيان هو الغفلة والشهوة، ومن جهة أخرى الشبهة، فيزيل الإنسان الغفلة والشهوة بالصبر على الطاعة وترك المعاصي والسيئات, ويزيل الإنسان وحشة الشبهة بالعلم؛ ولهذا يقول علاَّمة الشام محمد جمال الدين القاسمي: "لا تكون التوبة إلا بمعجون يعجن من حلاوة العلم ومرارة الصبر".
التوبة هي السراج، لا يدوم هكذا مشتعلاً إلا بأن تمده بالعلم، وأن تمده كذلك بالصبر؛ حتى تبقى على وتيرة واحدة في الطاعة.
فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يقينا شر أنفسنا, وأن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى.
اللهم إنا نعوذ بك من شر الشيطان وشركه, اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا همّـاً إلا فرجته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته.