القابض
كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...
العربية
المؤلف | أحمد شريف النعسان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة - أركان الإيمان |
معشر المسلمين: إن الكلمة لها أثر في نفس القائل, ولها أثر في المجتمع كله. بالكلمة يدخل العبد الإسلام, وبها يخرج منه. بالكلمة لا يخلد العبد في النار, وبها لا يدخل الجنة أبداً. بالكلمة يُحلُّ الله -تعالى- ما كان حراماً, وبها يُحرِّم ما كان حلالاً. بالكلمة تجتمع كلمة الأسرة وتتماسك, وبها تتمزَّق وتتباين. بالكلمة ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: لما كانت الكلمة لها أثر في حياة الإنسان سلباً أو إيجاباً, ولها أثر في دنياه وآخرته, اهتم الإسلام في تربية أتباعه على أن يفكِّروا بالكلمة قبل إلقائها إن كانت خيراً أو كانت شراً, واعتبر الكلمة ذات حدَّين, وأعلمهم ربُّنا -عز وجل- بأنَّ الكلمة التي يتفوَّهُ بها الرجل محصيَّةٌ عليه, وسوف يُسأل عنها يوم القيامة, قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد) [ق: 16 - 17].
وبيَّن لنا سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- خطورتها في مصير العبد يوم القيامة, فقال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ, وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ" [رواه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه-].
معشر المسلمين: إن الكلمة لها أثر في نفس القائل, ولها أثر في المجتمع كله.
بالكلمة يدخل العبد الإسلام, وبها يخرج منه.
بالكلمة لا يخلد العبد في النار, وبها لا يدخل الجنة أبداً.
بالكلمة يُحلُّ الله -تعالى- ما كان حراماً, وبها يُحرِّم ما كان حلالاً.
بالكلمة تجتمع كلمة الأسرة وتتماسك, وبها تتمزَّق وتتباين.
بالكلمة تُسفك الدماء البريئة, وبها تُحقن الدماء.
بالكلمة يُسْعَد حزين, وبها يُحْزَن سعيد.
بالكلمة يُذبح شريف, وتُرمى عفيفة, وبها تُبرأ ساحته وساحتها.
بالكلمة تبكي العيون وتلين الجلود, وبها تخشع القلوب وتنشرح الصدور.
فكم من شمل ممزَّق جمعت بينه كلمةٌ طيبة؟ وكم من جماعة مزَّقتهم كلمة خبيثة؟ كم من بيتٍ عُمِّرَ بالكلمة الطيبة؟ وكم من بيتٍ خُرِّب بالكلمة الفاسدة.
أيها الإخوة الكرام: إننا اليوم نعيش في أزمة شديدة قاسية جعلت الحليم حيراناً, كما أخبر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "فتنة تدع الحليم حيران" [رواه الطبراني والبيهقي].
فإذا كانت هذه الفتن تجعل الحليم حيران, فكيف بغير الحليم؟
الكثير من المسلمين -في هذه الفتنة العمياء الدهماء- لا يُلقي بالاً عندما يتكلَّم بالكلمة, ولا يفكِّر بأثر هذه الكلمة على دينه ودنياه, ولا يفكِّر بأثرها على الأمة, ولا يفكِّر بأثرها عليه يوم القيامة بين يدي الله -عز وجل-.
ومن أخطر الكلمات التي يتلفَّظ بها العبد دون أن يلقي لها بالاً: كلمة التكفير للآخرين؛ لأنه ما وافق هواه, ولأنه ما وافق فكره ومبدأه.
يا عباد الله: اعلموا بأن الإسلام الذي أكرمنا الله -تعالى- به, حيث أتمَّ النعمة علينا, فأكمل لنا الدين ورضي الإسلام لنا ديناً؛ كما قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3].
جاء هذا الدين ليجمع الشمل لا ليفرِّقه, وجاء بالأسباب التي تجمع شمل الأمة, وحذَّر من الأسباب التي تفرِّق شمل الأمة, ما حذَّر منه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- يوم عرفة في حجة الوداع, حيث كان يودِّع الأمة بقوله: "خذوا عني مناسككم, فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" [رواه البيهقي عن جابر -رضي الله عنه-].
فقال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ, كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا, فِي شَهْرِكُمْ هَذَا, فِي بَلَدِكُمْ هَذَا, إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ, أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ, قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ" [رواه البخاري عن أبي بكرة -رضي الله عنه-].
يا أمة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: هل سمعتم هذا الحديث من الحبيب الأعظم سيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-؟ فإذا كان الإسلام حرَّم علينا دماءنا وأموالنا وأعراضنا, وحرَّم علينا ما دون التكفير بكثير، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيم) [الحجرات: 11 - 12].
يا أمة الإسلام: الكلمة ذات حدين, إما أن تُدخل الفرح إلى القلب, وإما أن تُدخل الحزن فيه, إما أن تجمع وإما أن تفرِّق, وأخطر كلمة تفرِّق الأمة هي كلمة التكفير, فهل بوسع الأمة اليوم أن تسمع كلام سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وهي في حالة الغليان مما يجري؟ هل بوسعها أن تسمع كلام الصادق المصدوق في حالة الغضب الذي يعتريها حتى تسلم على دينها ودنياها وآخرتِها؟
أولاً: يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا".
وفي رواية "إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ, وَإِلا رَجَعَتْ عَلَيْهِ" [رواه مسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-].
يا عباد الله: إن مسألة التكفير عظيمة, وأمرها ليس بالهيِّن, فلا يجوز الكلام في هذا الموضوع من غير علم, ويحرم التسرُّع في إطلاقه, وخاصة إذا كان الأمر يتعلَّق بشخص معين من المسلمين.
معشر المسلمين: إن تكفير المؤمن خطر عظيم, والسكوت عن التكفير لا خطر فيه, والمبادرة إلى التكفير إنما هي من طبع الجاهل بدين الله -تعالى-, والجاهل بحديث سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
معشر المسلمين: إن الحكم بالتكفير على شخص معين ليس لنا ولا لأمثالنا, بل هو لله -تعالى-, ولرسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, فهو من الأحكام الشرعية التي لا يقدر عليها إلا كبار العلماء الذي يخشون الله -تعالى-؟
لا تتسرعوا -يا عباد الله- في تفكير إنسان بعينه لفعل من الأفعال, ولا لقول من الأقوال, واجعلوا مردَّ ذلك لأهل الذكر؛ كما قال تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 43].
ثانياً: يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "وَلَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ, وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ" [رواه البخاري ومسلم].
وكلُّنا يعلم جزاء من قتل مؤمناً عمداً بغير حقٍّ, قال تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93].
وإذا كان رميه بالكفر كقتله, فهذا إيذاء للمؤمن وأيما إيذاء! والله -تعالى- يقول في كتابه العظيم: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) [الأحزاب: 58].
ثالثاً: يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالكُفْرِ, أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللَّهِ, وَلَيْسَ كَذَلِكَ, إِلا حَارَ عَلَيْهِ" [رواه مسلم].
وما أيسر ما يقال: فلان عدوُّ الله -تعالى-, وخاصة في الأزمات, وخاصة في أيام الفتن, أيام الهرج والمرج.
رابعاً: يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "كُفُّوا عَنْ أَهْلِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ, لا تُكَفِّرُوهُمْ بِذَنْبٍ, فَمَنْ أَكْفَرَ أَهْلَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَهُوَ إِلَى الكُفْرِ أَقْرَبُ" [رواه الطبراني في الكبير والأوسط].
أيها الإخوة الكرام: لو أخطأ أحدنا في عدم التكفير فهذا خير له من الإصابة في التكفير, والله -تعالى- أعلم.
خامساً: تعلمون -يا عباد الله- حديث سيدنا أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- حيث قال: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَرِيَّةٍ, فَصَبَّحْنَا الحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ, فَأَدْرَكْتُ رَجُلاً فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ فَطَعَنْتُهُ, فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ, فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَقَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟" قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِن السِّلاحِ, قَالَ: "أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا" فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ" [رواه مسلم].
يا عباد الله: لنا الظاهر, والله يتولى السرائر, صونوا ألسنتكم عن كلام يحبط العمل لا قدر الله -تعالى-, صونوا ألسنتكم عن تكفير أهل لا إله إلا الله.
أيها الإخوة الكرام: احفظوا قول الله -تعالى-: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [النساء: 94].
وتذكَّروا كلام سيدنا علي -رضي الله عنه-: "أعلم الناس بالله أشدُّهم حباً وتعظيماً لأهل لا إله إلا الله".
وتذكَّروا كلام ابن عربي: "إياك ومعاداةَ أهل لا إله إلا الله, فإنَّ لهم من الله الولايةَ العامة, فهم أولياء الله, ولو جاؤوا بقراب الأرض خطايا لا يشركون بالله -تعالى- لقيهم الله -تعالى- بمثلها مغفرة" ا. هـ.
احذروا -يا عباد الله- من تكفير مؤمن؛ لأن تكفيره يُخرج زوجته عن عصمته, ويرفع عنه ولايته على أولاده, ويُحرِّم الإرث بينه وبين ورثته, ويُهدر دمه وماله.
يا عباد الله: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده, المسلم يسمع قول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- في أيام الفتن: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ, وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ, وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ" [رواه الترمذي وقال: "حديث حسن"].
أسأل الله -تعالى- أن يجمع شمل الأمة على الكتاب والسنة, وأن يرفع الظلم عن المظلومين, وأن يدحر أعداء هذا الدين الذين يتربَّصون بالإسلام الدوائر.
اللهم لا تُشمت أعداءَنا بدائنا، آمين.
أقول هذا القول, وأستغفر الله العظيم لي ولكم, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.