الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | أحمد عماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الورع الذي هو طوْق للنجاة في الدنيا والآخرة، به تحفظ الأعراض والدماء والأموال، وهو سبب لبذل المعروف وقناعة النفس وسخاء اليد، وبه يُحفظ اللسان عن القيل والقال، والغيبة والنميمة، وإثارة الفتن، وتأجيج الصراعات، وبالورع يختفي الجشع والطمع والاحتكار بين الناس...
الخطبة الأولى:
مع خلق عظيم من أخلاق هذا الدين العظيم؛ به يطيب المطعم والمشرب، فيه استبراء للدين والعرض، مع سمة من سمات العُبّاد، وصفة من صفات أهل الفضل والشرف؛ إنه الوَرَع.
الورع هو الكفّ عن المحارم، والتّحرّج منها.
الورع ترك ما يَريبك، ونفي ما يَعيبك، والأخذ بالأوثق، وحمل النّفس على الأشقّ.
وقيل هو: ترك ما لا بأس به حذرا ممّا به بأس.
وقيل هو: ترك ما يخشى ضرره في الآخرة.
وقيل هو: اجتناب الشّبهات خوفا من الوقوع في المحرّمات.
وقيل: الورع الخروج من الشهوات، وترك السيئات.
الورع أداء للواجبات، وترك للمحرمات، وبعد عن الشبهات؛ خوفًا وتعبدًا لرب الأرض والسموات الذي أثنى على صنف من عباده، فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 57 - 61].
ما أحوج الناس اليوم إلى الورع في زمن قلّ فيه الورع، وغاب فيه الورع، في زمن أصبح فيه الإنسان في غاية الجَشع والطمع، كحاطب ليل يجمع كل شيء، لا يميز بين ما ينفع أو يضر، بين حلال أو حرام.
إنه الورع الذي يحرُس صاحبَه ويمنعه من الوقوع في المحرمات، أو التقصير والتفريط في أداء الواجبات.
الورع الذي هو طوْق للنجاة في الدنيا والآخرة، به تحفظ الأعراض والدماء والأموال، وهو سبب لبذل المعروف وقناعة النفس وسخاء اليد، وبه يُحفظ اللسان عن القيل والقال والغيبة والنميمة وإثارة الفتن وتأجيج الصراعات، وبالورع يختفي الجشع والطمع والاحتكار بين الناس، عن حذيفة بن اليمان -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع" (أخرجه الحاكم وصححه، وصححه الألباني في الجامع الصغير وصحيح الترغيب والترهيب)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحَسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ" (أخرجه ابن ماجة في سننه، والبيهقي في الشعب، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة، والجامع الصغير، وصحيح الترغيب والترهيب).
قال حبيب ابن أبي ثابت -رحمه الله تعالى-: "لا يُعجبْكم كثرةُ صلاة امرئ ولا صيامه، ولكن انظروا إلى وَرَعِه، فإن كان وَرِعا مع ما رزقه الله من العبادة فهو عبدٌ لله حقّا".
ليس الظريف بكامل في ظرفه | حتى يكون عن الحرام عفيفا |
فإذا تورع عن محارم ربه | فهناك يُدعى في الأنام ظريفا |
الورع من أخلاق المرسلين، ومن سمات المتقين؛ قف مع الحبيب المصطفى؛ فهو أعظم نموذج في الورع، وهو القدوة والأسوة؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "إِنِّي لَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً، فَأُلْقِيهَا" سبحان الله! يرى التمرة على فراشه صلى الله عليه وسلم، لا في بستان، ولا في طريق، ولا في سوق... على فراشه، ومع ذلك لا يأكلها خشية أن تكون من الصدقة، فأي ورع أبلغ من هذا الورع؟
وفي الصحيحين -واللفظ للبخاري- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه-: أَنَّ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- بِالفَارِسِيَّةِ: "كِخْ كِخْ، أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؟" "كخ" (كلمة زجر للصبيّ عن المستقذرات؛ أي اتركه وارم به).
ثم انظروا إلى ورع الصّديق -رَضي الله عنه- الذي تربى على يد سيد الورعين وإمام المتقين؛ ففي صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ -رَضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلاَمُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ. فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ" (والخراج ما فرض من ضريبة تؤدَّى من العبد المتكسِب إلى سيده).
وهذا رجل صالح يذكره لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- كنموذج في الورع؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ: الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلاَمٌ، وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الغُلاَمَ الجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا".
إن المسلم مطالب بأن يتورع عن الوقوع في كل فعل قبيح، أو قول خبيث، أو خلق ذميم، أو سلوك منحرف.
ورع الجوارح والأعضاء؛ فمن الورع: ورعُ الجوارح والأعضاء، فهذه نعم من الله -عز وجل- على عبده، فليحرص على أن يوظفها فيما ينفعه في دنياه وفي أخراه، أن يُعوّدها على الخير، لتشهَد له بين يدي خالقه ومولاه بما فعله من خير وما اكتسبه بها من حسنات، ليشهد لسانه بما نطق به من خير، وليشهد سمعه بما سمعه من خير، وليشهد له بصره بما شاهده مما أمر الله به وأذن فيه، ولتشهد يده بما فعل بها من خير وإحسان، ولتشهد له رجله بما سعت فيه من طاعة ومعروف.
وليحرص العبد على أن يمسك جوارحه عن كل سوء وحرام، وليحذرْ من خصومتها وشهادتها عليه بين يدي ربه ومولاه، فقد قال سبحانه: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس: 65]، وقال عز وجل: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [فصلت: 19 - 23].
التورع عن التلفظ بكل كلام سيء قبيح؛ فصاحب الورع، لا يتكلم بكلمات نابية، ولا بألفاظ ساقطة، لا يسب ولا يستهزئ، لا يكذب ولا يزور. منطقه سليم، وكلامه مهذب جميل، يختار من الكلمات أليقها، ومن الألفاظ أحسنها، كلامه شاهد على ورعه، كما قال يونس بن عبيد -رحمه الله-: "إنك لتعرف ورع الرجل في كلامه".
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- أن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".
وروى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ".
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- أنه سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- يَقُولُ: "إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمغرب".
فأين الورع ممن يُطلق العنان للسانه لينطق بأبشع الكلمات وأخبث الألفاظ؟ فليحذر العبد من كلامه وقوله؛ فقد قال سبحانه: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]، (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)[الزخرف: 80].
التورع عن كل خلق ذميم؛ فصاحب الورع لا يكون إلا مؤدَّبا، متخلقا بكل خُلق جميل، مبتعدا عن كل خُلق قبيح؛ لأنه يريد بورعه أن يُرضيَ ربه، وأن يكون مع الحبيب المصطفى في جنات النعيم؛ فعَنْ جَابِرٍ -رَضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا المُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: "المُتَكَبِّرُونَ" (أخرجه الترمذي وحسنه الألباني).
وفي صحيح البخاري عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قال: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا، وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقًا".
الخطبة الثانية:
مرة أخرى مع خُلق الورَع ذلكم الخلق العظيم الذي به يسمو الإنسان ويترفّع عن كل خُلق ذميم، ووصف قبيح؛ فإذا غاب الورع من الحياة فإن الإنسان لا يُبالي من أينَ أتَته دُنياه، وبأيّ طريقٍ وصَلَت لُقمتُه، وعلى أيّ حال كانت مُتعته، وعلى أيّ محرّمٍ كانت شهوتُه! وإذا غاب الورع من الحياة ساءت أخلاق الناس، فلا ترى إلا غشًّا وخداعًا في المعاملات، وظلمًا وعدوانًا وهضمًا للحقوق والواجبات، وتعديًا على الأعراض والنفوس والممتلكات.
تورّع المرء عن الدخول فيما لا يعنيه؛ من الورع أن يبتعد المسلم عما لا يفيده، وأن لا يتدخل فيما يخصّ الآخرين إلا بالخير والإصلاح، وأن لا يبحث عن أسرار غيره، دعْ للناس أسرارهم، لماذا يتطلع المرء لمعرفة أسرار الآخرين؟ ولماذا يبحث المرء عن عيوب الآخرين؟ هلاّ انشغل المرء بعيوب نفسه ليُصلحها؟ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ" (أخرجه الترمذي وابن ماجة) أي ما لا يَهُمّه ولا ينفعه، ولا مصلحة له فيه. لأن من اشتغل بما لا يعنيه، فاته ما يعنيه.
التورع عن الخوض في أعراض الناس، وتتبع عوراتهم؛ فمِن الناس مَن لا هَمَّ له إلا الخوض في أعراض الناس؛ فيسب فلانا، ويسخر من الآخر، ويتهم فلانا، ويغتاب آخر... وربنا سبحانه وتعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات: 12]، روى البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ، وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ، صُبَّ فِي أُذُنِهِ الآنُكُ يَوْمَ القِيَامَةِ" "الآنك" (الرصاص المذاب).
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضي الله عنهما- قَالَ: "صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- المِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ" (أخرجه الترمذي، وصححه الألباني).
إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى | وحظك موفورٌ وعرضك صيّن |
لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ | فكلّك عوراتٌ وللناس ألسن |
وعينك إن أبدت إليك معايبا | يومًا فقل يا عين للناس أعين |
فصاحب بمعروفٍ وسامح من اعتدى | وفارق ولكن بالتي هي أحسن |
التورع عن الشبهات، من الورع أن يترك المرء ما يَشتبه عليه، ويشك فيه، ويَلتبس عليه أمرُه، فلا يدري أمِن الحلال هو أم من الحرام. فالورَع تركُ ما يشك فيه المرء ولا يدري أهو حلال أم حرام.
فبترك المرء لما يشك فيه يحمي نفسه من الوقوع في الحرام. وبذلك يُهذب نفسه، ويتغلب على شهوته، ويَصون دينه ونفسه وماله وعِرضه؛ ففي الصحيحين عن النّعمان بن بشير -رَضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: " إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ"، وفي رواية للبخاري: "الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ، مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ".
قال ابن رجب: "الحلال والحرام على قسمين: أحدهما: ما هو واضح لا خفاء به على عموم الأمة؛ لاستفاضته بينهم وانتشاره فيهم. القسم الثاني: ما لم ينتشر تحريمه وتحليله في عموم الأمة؛ لخفاء دلالة النص عليه ووقوع تنازع العلماء فيه ونحو ذلك، فيشتبه على كثير من الناس هل هو من الحلال أو من الحرام؟ وأما خواص أهل العلم الراسخون فيه فلا يشتبه عليهم. فهذا الذي اشتبه عليه إن اتقى ما اشتبه عليه حله وحرمه واجتنبه فقد استبرأ لدينه وعرضه، بمعنى أنه طلب لهما البراءة مما يشينهما، وهذا هو الورع، وبه يحصل كمال التقوى".
فللمحرمات حدود لا ينبغي الاقتراب منها، لأن الاقتراب منها يؤدي إلى الوقوع فيها، وقد قال سبحانه: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا) [البقرة: 187]، (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا) [البقرة: 229]، والحدود يراد بها أواخر الحلال، ويراد بها أوائل الحرام، أي فلا تتعدّوا ما أباح الله لكم، ولا تقربوا ما حرّم الله عليكم.
عن الحسَن بن عليّ -رَضي الله عنهما- قال: "حفظت من رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك، فإنّ الصّدق طمأنينة، وإنّ الكذب ريبة" (أخرجه الترمذي، وصححه الألباني) والمعنى إذا شككت في شيء فدعْه، وخذْ ما لا تشك فيه، قال الخطابي -رحمه الله-: "كلّ ما شككت فيه فالورع اجتنابه"، وقال أبو الدرداء -رَضي الله عنه-: "تمام التقوى؛ أن يتقيَ اللهَ العبدُ، حتى يتقيَه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حراما، حجابا بينه وبين الحرام"، وقال ميمون بن مهران -رحمه الله-: "لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال"، وقال سفيان الثوري -رحمه الله-: "ما رأيت أسهلَ من الورع، ما حاك في نفسك فاتركه".
تورع ودع ما قد يريبك كله | جميعا إلى ما لا يريبك تسلم |
وحافظ على أعضائك السبع جملة | وراع حقوق الله في كل مسلم |
وكن راضيا بالله ربا وحاكما | وفوض إليه في الأمور وسلم |
التورع عن أكل الحرام: من الورع أن يتورع المسلم عن تعاطي المعاصي والمحرمات، أن يترك ما حرمه الله عليه من قول أو فعل، أن يتورع عن أكل ما هو حرام، أو شرب ما هو حرام، أن يحرص على الحلال ويترك الحرام، أن يكتفي بما هو طيب ويستغني عما هو خبيث.
فشتان شتان بين ما هو طيب وما هو خبيث: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 100]، عن جابر بن عبد الله -رَضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "أيّها النّاس اتّقوا الله وأجملوا في الطّلب، فإنّ نفسا لن تموت حتّى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتّقوا الله وأجملوا في الطّلب. خذوا ما حلّ، ودعوا ما حرم" (أخرجه ابن ماجة، وصححه الألباني).
وفي صحيح البخاري عن جندب بن عبد الله -رَضي الله عنه- قال: سَمِعْت رَسُول اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- يَقُولُ: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، -قَالَ- وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقِ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، فَقَالُوا: أَوْصِنَا، فَقَالَ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الإِنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ إِلَّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ، فَلْيَفْعَلْ".
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة: 172]. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" (أخرجه مسلم).
أخي الكريم: كنْ ورعا، تورّعْ عن الوقوع في الشبهات، وتورع عن تعاطي المنكرات، واعلم أن مَن دقّ في الدنيا ورعُه، جلّ في القيامة خطرُه.
عليك بالورع ففي الورع سلامة للمرء في دنياه، وفي أخراه.
عليك بالورع ليخفّف الله حسابك، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشّك باليقين يسلمْ لك دِينك.
عليكم بالورع الْزَمُوه، وتعلموه، وعلموه أبناءكم، واجعلوه خُلقا شائعا في أسَرِكُم، ومجتمعاتكم، فبإشاعة الورع في المجتمع يصبح مجتمعا صالحا نظيفا، لا يتطلع فيه أحد إلى ما ليس له.
نسأل الله -تعالى- أن يرزقنا الورع، وأن يجعلنا من أهل الورع.
نسأل الله –تعالى- أن يعيننا على ترك الشبهات، وترك المحرمات.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، يا رب العالمين.