البحث

عبارات مقترحة:

الواسع

كلمة (الواسع) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَسِعَ يَسَع) والمصدر...

السبوح

كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...

النصير

كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...

أول ما يرفع عن هذه الأمة

العربية

المؤلف سليمان بن حمد العودة
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. رفع الخشوع آخر الزمان .
  2. معنى الخشوع .
  3. قيمته .
  4. صفات الخاشعين .
  5. الخشوع الصادق والخشوع الكاذب .
  6. من سبل تحصيل الخشوع .

اقتباس

تعالوا بنا لنقف على واحدٍ من المصطلحات نحرره، ونعلم المقصودَ به، ونعي قيمته، ونحاكم أنفسَنا إليه، ونصحح المفاهيمَ الخاطئة فيه، وكيف نبلغه. إنه (الخشوع)، شعارُ المتقين، وأولُ ما يُرفعُ من المسلمين. أخرج الإمامُ أحمدُ والطبراني بسند صحيح، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أولُ شيء يُرفع من هذه الأمة الخشوعُ، حتى لا ترى فيها خاشعاً"، وفي رواية: "أولُ ما يرفع من الناس الخشوع" صحيح الجامع.

الخطبة الأولى:

الحمدُ لله رب العالمين، (نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر:22].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وصف الصفوة من عباده ورسوله إمام المتقين وقدوة الخاشعين المخبتين بالمسارعة للخيرات، وامتدحهم بالخشيةِ والخشوع، فقال جلَّ من قائلٍ عليماً: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء:90].

وأشهد أن محمداً عبدهُ، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن آله المؤمنين وصحابته الغرِّ الميامين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله معاشرَ المسلمين، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:2-3]، (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:90].

إخوة الإيمان: كثيرةٌ هي الألفاظُ التي نمر بها في كتاب الله دون أن تستوقفنا، وكثيرةٌ هي المعاني العظيمةُ التي نقرؤها في القرآن وأثرها في سلوكياتنا ضعيفٌ.

تعالوا بنا لنقف على واحدٍ من المصطلحات نحرره، ونعلم المقصودَ به، ونعي قيمته، ونحاكم أنفسَنا إليه، ونصحح المفاهيمَ الخاطئة فيه، وكيف نبلغه. إنه (الخشوع)، شعارُ المتقين، وأولُ ما يُرفعُ من المسلمين. أخرج الإمامُ أحمدُ والطبراني بسند صحيح، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أولُ شيء يُرفع من هذه الأمة الخشوعُ، حتى لا ترى فيها خاشعاً"، وفي رواية: "أولُ ما يرفع من الناس الخشوع" صحيح الجامع.

وخرّج النسائي -بسند صحيح أيضاً- من حديث جبير بن نفير -رضي الله عنه- عن عوف بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظر إلى السماء يوماً فقال: "هذا أوان يُرفع فيه العلمُ"، فقال رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد: يا رسول الله، أوَيُرفع العلمُ وقد أُثبتَ ووعتهُ القلوب؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن كنتُ لأحسِبكَ من أفقهِ أهل المدينة!". وذكر ضلالَ اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله -عز وجل-، قال (جُبير): فلَقيتُ شدادَ بنَ أوسٍ فحدثتهُ بحديث عوف بنِ مالكٍ، فقال: صدق عوفٌ، ألا أُخبركَ بأولِ ذلك يُرفع؟ قلت: بلَى، قال: الخشوع، حتى لا ترى خاشعاً.

أمة الإسلام: فمعنى الخشوع المراد هنا: لينُ القلبِ، ورقتهُ، وسكونُه، وخضوعُه، وانكساره، وحرقته؛ فإذا خشع القلبُ تبعته الجوارحُ والأعضاء خاشعةً مطيعةً لله، "ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسدُ كلّه، وإذا فسدتَ فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" متفق عليه.

أجل يا أخا الإسلام، إن الخشوع الحقَّ ينتظم جوارحَ العبد كلها بدءاً بالقلب، ومروراً بالمخ والعظم والعصب، وانتهاءً بالسمع والبصر؛ ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعه في الصلاة: "اللهم لك ركعتُ، وبك آمنت، ولك أسلمتُ، خشع لك سمعي وبصري ومخيِ وعظْمي وعَصبِي" رواه مسلم.

وكان -عليه الصلاة والسلام- يستعيذ بالله من فقده ويقول في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، وقلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوةٍ لا يستجابُ لها" رواه مسلم.

ولك –يا أخا الإيمان- أن تدرك قيمةَ الخشوع، وتعي قدرَه، حين تعلمُ أن خيارَ الأمة عُوتبت عليه، ولمّا يمضي على إسلامهم زمنٌ طويل، قال الله -تعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الحديد:16-17].

قال ابنُ مسعود -رضي الله عنه-: "ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين" رواه مسلم وغيره.

ولعلك تدرك من لفظ الآيةِ والتي بعدها أن طولَ الأمل سبَبٌ لقسوةِ القلب، وأن قسوة القلب مظهرٌ من مظاهرِ عدم الخشوع، وأن الله كما يحيى الأرض الميتةَ بماءِ السماء، كذلك يحيى القلوبَ بوحي السماء.

قال الله -تعالى-: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر:21]. قال ابن عمران الجوني: "والله! لقد صرف إلينا ربُّنا في هذا القرآن ما لو صرفه إلى الجبال لمحاها ودحاها"، وكان مالكُ بن دينار -رحمه الله- يقرأ هذه الآية ثم يقول: "أقسم لكم لا يؤمن عبدٌ بهذا القرآن إلا صُدِّع قلبه!".

ويروى عن الحسن -رحمه الله- أنه قال: "يا ابنَ آدم، إذا وسوس لك الشيطانُ بخطيئةٍ أو حدثتك بها نفسُك فاذكر عند ذلك ما حمّلك اللهُ من كتابهِ مما لو حَمَلتهُ الجبالُ الرواسي لخشعت وتصدعت، فإنما ضرب لك الأمثالُ لتتفكر بها وتعتبر، وأنت يا ابن آدم أحقُّ أن تخشعَ لذكر الله وما حملك من كتابه... لأن عليك الحساب، ولك الجنةُ والنار".

يا أهل القرآن: والخاشعون لله حقاًّ هم الذين يحبون الله ويثبتون هذه المحبة بالتقرب إليه بالطاعات، وهم الذين يخافون عقابه ويؤكدون خوفهم بالبعد عن المحرمات، الخاشعون لله هم الذين يؤتون ما آتوا من القُربات وتبقى قلوبُهم وجلة ألا تُقبل منهم تلك الطاعات، أما الجاهلون، أما غيرُ الخاشعين، فتبقى قلوبُهم لاهيةً وإن لم تتقدم بهم الحسنات، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف، ومن أعرض عن ذكر الله فلا يبالي الله بأي أودية الدنيا أهلكه، نسأل الله السلامة، ونعوذ به من الغواية.

وليس من شأن اليد الخاشعة أن تبطش بالحرام، ولا أن تسير الرجل الخاشعةُ إلى حرام، ولا من شأن القلبِ الخاشع أن ينطوي على الخواطر الرديئة وسيئ الأخلاق والاعتقاد: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).

أيها المسلمون: ومن صفات الخاشعين البكاءُ من خشية الله، (قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء:107-109].

قال القرطبي -رحمه الله-، وهذه أحوال العلماء، يبكون ولا يُصعقون، ويسألون ولا يصيحون، ويتحازنون ولا يتموّتون.

ومن صفاتهم: الصبرُ على ما أصابهم، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ووجلُ القلوب عند ذكر الله، قال -تعالى-: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [الحج:34-35].

ومن صفات الخاشعين: تعظيمُ شعائر الله، وشعائرُ الله أوامرهُ، كما قال المفسرون. ومن تعظيمها: التحرجُ من المسَاسِ بها سوءاً أو القربِ منها تعدياً، وذلك من تقوى القلوب، قال علام الغيوب: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].

ومن صفاتهم: الإيمانُ بالله ورسوله وكتبه المنزلة، مع عدم كتمان شيء من الحق، أو بيع الدين بالدنيا: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) [آل عمران:199].

ومن صفات الخاشعين في كتاب الله، يقينُهم بلقاء ربهم، وأنهم إليه راجعون: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة:45-46].

وكذلك فامتحن نفسَك أيها الإنسانُ في الخشوع، وانظر قربَك أو بَعدك من هذه الصفات، وهل أنت من الخاشعين، أم عدادُك في الغافلين؟.

يا أخا الإيمان: وإن استهوتك منازلُ السالكين في الجنان، ورمتَ طريقَ الخاشعين، فاعلم أنه يسيرٌ على من يسره الله عليه، لكنه محتاجٌ في البداية إلى صبر وعزيمة وتجاوزٍ للعقبات، وسؤالِ الله الثبات.

وهاك تجربة العارفين بمدارج أحد السالكين يهديها الإمام ابن القيم حين يقول: فالنفسُ جبلٌ عظيمٌ شاق في طريق السير إلى الله، وكلُّ سائرٍ لا طريق له إلا على ذلك الجبل، فلا بد أن ينتهي إليه... وفي ذلك الجبلِ أوديةٌ وشعوب، وعَقباتٌ ووهود، وشوكٌ وعوسج، وعُلَّيق وشبرق، ولصوصٌ يقطعون الطريق على السائرين... فإذا لم يكن معهم عددُ الإيمان، ومصابيحُ اليقين تتّقد بزيت الإخبات وإلا تعلقت بهم الموانعُ، وتشبثت بهم تلك القواطعُ وحالت بينهم وبين السير، فإن أكثر السائرين فيه رجعوا على أعقابهم لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته، والشيطانُ على قُلّة ذلك الجبل يُحذر الناسَ من صعودِهِ وارتفاعهِ، ويخوِّفهم منه، فيتَّفقُ مشقةُ الصعود وقعوُد ذلك المخوف على قلَّته، وضعف عزيمة السائرين، فيتولد من ذلك الانقطاع والرجوعُ، والمعصوم من عصمه الله...  وكلما رقى السائر في ذلك اشتدّ به صياحُ القاطع وتحذيرُه وتخويفُه، فإذا قطعه وبلغ قُلّتَه انقلبت تلك المخاوفُ كلُّهنَ أماناً، وحينئذٍ يسهل السير، وتزول عوارضُ الطريق... ويرى طريقاً واسعاً آمناً يُفضي به إلى المنازل والمناهل، وعليه الأعلاَمُ، وفيه الإقاماتُ قد أُعدت لركب الرحمن... فبين العبد وبين السعادة والفلاح: قوةُ عزيمة، وصبرُ ساعة، وشجاعةُ نفس، وثباتُ قلب، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. اهـ.

اللهم اسلك بنا طريق المتقين، وبلغنا منازَل الصادقين، واعصمنا من الفتن يا رب العالمين...

الخطبة الثانية:

الحمد لله جلّ ثناؤه، وتقدّست أسماؤه، هو أهلُ الحمدِ والثناء، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ندَّ له ولا مثيل، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، وأشهد أن محمداً عبدهُ ورسولُه؛ اللهم صلّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

أيها الإخوةُ المؤمنون: والخشوع الحقُّ تصوُّرٌ واعٍ لعظمةِ الله، وعلمٌ يقينيٌّ بثوابه وعقابه، يقودُ إلى صلاح القلبِ ووجله وتقواه، ويُعلّقُ صاحَبه بالله دون سواه، ثم تسري هذه الشحنةُ الإيمانيةُ في الجَسد فيقشعرُّ لها، ثم تفيض العينُ بالبكاء، ثم يلين القلبُ والجلد معاً، ثم تتنزل السكينة والوقار، فيأمن الخاشع من المخاوف، ويهدأ من الاضطراب، وينتهي بالمرءِ إلى الإخباتِ، والإخبات أولُ منازلِ الطمأنينة، حتى يبلغ الخشوعُ بالمرء إلى الطمأنينة، وهي نهاية الإخبات، ومعها يسكن القلب والنفس، مع قوة الأمن دون غرور. تلك درجاتُ الخشوعِ الحقِّ لمن ابتغاها.

أيها المسلمون: وليس من الخشوع الحق الزعيقُ والصياحُ كما يصنعه جهلةُ العوام أو المبتدعةُ، ولا الرقصُ والتصفيق كما يفعله أهلُ التصوفِ والطرقية والجهلةِ الطغام، يقول العزّ بنُ عبد السلام -يرحمه الله-: وأما الرقصُ والتصفيقُ فخفةٌ ورعونةٌ مُشْبِهةٌ لرعونةِ الإناث، لا يفعلُها إلا راعنٌ، أو متصنعٌ كذاب، كيف يتأتيِ الرقصُ المتزنُ بأوزان الغناء ممن طاش لبُّه وذهب قلبُه... أما التصفيق فقد حرمه بعضُ العلماء؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنما التصفيق للنساء" أخرجه مسلم.

[وقال] العزُّ -رحمه الله-: ومن هاب الإلهَ، وأدرك شيئاً من تعظيمه لم يُتصورْ منه رقصٌ ولا تصفيق، ولا يصدر التصفيقُ إلا من غبيٍّ جاهل، ولا يصدر من عاقلٍ فاضلٍ. اهـ.

أمة الإسلام: وليس من الخشوع الحقّ ضربُ الخدود، وشقُّ الجيوب، والتباكي، كما يفعله أهلُ البدع الضلاّل، أولئك الذي ضل سعيُهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وقد تحدث الإمامُ الشاطبي -رحمه الله- عن طائفة من هؤلاء الذين شأنُهم الرقصُ، والزمرُ، والدوران، والضربُ على الصدور، وبعضهم يضرب على رأسه وما أشبه ذلك من العمل المضحك للحمقى والمبكي للعقلاء.

وبين خطأهم وضلالهم كما علّق عالمُ السنةِ أبو بكر الآجري -رحمه الله- على حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: "وعظنا رسول الله موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب"، فقال الآجري: ميزوا هذا الكلام، فإنه لم يقل: صرخنا من موعظةٍ، ولا طرقنا على رؤوسنا، ولا ضربنا على صدورنا، ولا زَفنّا ولا رقصنا، كما يفعل كثير من الجُهّال يصرخون عند المواعظ، ويزعقون ويتناشون... إلى أن يقول: وهذا كلهُّ من الشيطان يلعب بهم، وهذا كله بدعةٌ وضلالة.

عباد الله: ومن الخشوع الكاذب خشوعُ النفاق، وهو تكلفُ الإنسان الخشوعَ في جوارحه وأطرافه مع فراغِ قلبِه من الخشوع وخلوِّه منه، ذلكم هو الذي كان يتعوذ منه السلفُ، فيروي عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه قال: "استعيذوا بالله من خشوع النفاق"، قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: "أن ترى الجسدَ خاشعاً، والقلبُ ليس بخاشع" رواه السيوطي وابن أبي شيبة.

معاشر المسلمين: وليس من الخشوع الصادق المسكنةُ الفارغة، والضعفُ المذل، والسلبية والانطوائية، وضعفُ الإنتاج، وطأطأة الرأس دون وجلِ القلب وقوّتهِ، ويروى أن عمر -رضي الله عنه- أبصر شاباً قد نَكَس رأسه فقال له: "يا هذا، ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيدُ على ما في القلب، فمن أظهر خشوعاً غير ما في قلبه فإنما هو نفاق على نفاق".

هذه -معاشر المسلمين- ضروب من التخشع الكاذب فاحذروها، واعلموا أن الخيرَ كلَّ الخير فيما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته، ومن سار على نهجهم، وأولئك جاء في القرآن صفةُ خشوعهم، وأبانت السنةُ الصحيحة كيفية عبادتهم وهيئة خشوعهم، يقول الحقُّ -تبارك وتعالى- في وصفِ أحوالِ أهل المعرفةِ عند سماع الذِكر والتنزيل: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ).

وفي صحيح مسلم عن أنسِ بن مالك -رضي الله عنه- أن الناسَ سألوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حتى أحفوه في المسألة، فخرج ذات يوم، فصعد المنبر فقال: "سلوني، لا تسألوني عن شيءٍ إلا بينتهُ لكم ما دمت في مقامي هذا"، فلما سمع ذلك القومُ أَرَمُّوا -أي: سكتوا ورَهَبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر، قال أنس: "فجعلتُ ألتفت يمينا وشمالاً فإذا كلّ إنسان لافٌّ رأسه في ثوبه يبكي...".

وقد مر معنا هيئتُهم عند الموعظة: تذرف منها العيون، وتوجل منها القلوب، كما في حديث العرباض -رضي الله عنه-، لكن دون زعيق أو صياح، أو رقصٍ وتصفيق، أو ضربِ خدود وشق جيوب، أو نحو ذلك من أحوال رآها الخلفُ الجاهلون ضروباً من العبادة والقربى، وهي ليست إلا ضروباً من البدع منكرة، وألواناً من الرعونات الباطلة.

أيها الإخوة المؤمنون: وبالعلم والإيمان، وتدبّر السنة والقرآن، والنظر في ملكوت الله، وكيف خلق الإنس والجان، وكيف رفع السماء بلا عمدٍ تراها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، وبسط الأرض ودحاها، وأخرج منها ماءَها ومرعاها، والجبالَ أرساها. والالتفات بعد ذلك إلى الطامة الكُبرى، يوم يَردُ الناسُ كلُّهم على الله آتيه فرداً، عراةً غرلاً، كما بدأنا أول خلق نعيده، وعداً علينا حقًّا، ونذكر الله بأسمائه الحسنى، وتصور صفاته العلى، بهذه وتلك، ينال الخشوع، وتطمئن القلوب. قال -تعالى- وهو أصدق القائلين: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28]، وقال جلَّ من قائل عليماً: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت:53]. (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:82]. ويبقى بعد ذلك حديث مهم عن الخشوع في الصلاة.

اللهم ارزقنا خشيتَك في الغيب والشهادة، وكلمة الحقِّ في الغضب والرضا، والقصدَ في الفقر والغنى، نسألك نعيماً لا ينفد وقرةَ عين لا تزول...