الشهيد
كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...
العربية
المؤلف | الرهواني محمد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - السيرة النبوية |
المُتأمل في سيرته -صلى الله عليه وسلم- يجدها نبعاً ثرياً لكل الأخلاق الطيبة، والصفات النبيلة، وكيف لا تكون سيرة نبينا وحبيبنا -صلى الله عليه وسلم- كذلك وقد اصطفاه الله على بني آدم، وختم به أنبياءه ورسله، فما أحوجنا إلى اتباع هديه صلى الله عليه وسلم، واقتفاءِ أثره وأخلاقه في حياته كلها.
الخطبة الأولى:
الحمد لله اللطيف الكريم، الرؤوف الرحيم، الذي جنبنا سبل الغواية وهدانا للإسلام، فضلاً منه ونعمة، والله ذو الفضل العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها النجاة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم نلقاه.
أما بعد:
معاشر المؤمنين والمؤمنات: أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله؛ لأنه من يتق الله يجله له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، لأنه من يتق الله يجعل له من أمره يسرا، لأنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا.
فاللهم اجعلني وأحبتي من المتقين.
قال ربنا -سبحانه-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب: 21].
فالمُتأمل في سيرته صلى الله عليه وسلم يجدها نبعاً ثرياً لكل الأخلاق الطيبة، والصفات النبيلة، وكيف لا تكون سيرة نبينا وحبيبنا -صلى الله عليه وسلم- كذلك وقد اصطفاه الله على بني آدم، وختم به أنبياءه ورسله، فما أحوجنا إلى اتباع هديه صلى الله عليه وسلم، واقتفاءِ أثره وأخلاقه في حياته كلها.
واليوم -بإذن الله- أدعوكم -معاشر عمار بيت الله- لنعيش في رحاب الدرس الثالث والأخير: كيف نحيي الأمل في حياتنا؟ ومع: "الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحيي الأمل في الأمة".
لقد كانت سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- انطلاقةُ الأمل بين ظلمات يأس الجاهلية وشؤمها وبأسها، فاتخذ صلى الله عليه وسلم من الأمل منهاجاً له في دعوته المقدسة، بل في حياته كلها، في السراء والضراء في المنشط والمكره، في اليسر والعسر، وفي الفرح والحزن.
ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بتحقيق ذلك لدى شخصه فقط، بل كان يُربي أصحابه عليها ويُعلمهم إياها، فنجده فـي أشد المواقف وأصعبها، وفي أحلَك الأزَمات والنوازِل والمُلِمَّات، يَغرس في نفوس أصحابه التفاؤلَ والأملَ في موعود الله ونصره لعباده المؤمنين.
ورغم ما كان يحيط بالمسلمين من صد وتكذيب وسخرية واستهزاء وتعذيب، وغيرِ ذلك، كان صلى الله عليه وسلم يصنع الأمل ويُحييه في نفوس أصحابه ويَرسم لهم الطريق إلى مستقبل راشد، وذلك بالعمل والإصرار والعزيمة والثبات على الحق والثقة بالله والتوكل عليه واليقين، بأن الله -سبحانه وتعالى- لا يترك أولياءه وعباده دون رعايةِ وتدبيرِ أمورهم، حتى وإن ابتلاهم بصنوف الابتلاء، ففي ذلك خيرٌ كثير لا يدركه الإنسان، قال ربنا -سبحانه-: (وَعَسى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَم وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].
فكان صلى الله عليه وسلم يُربي أصحابه على ثقافة الأمل، ببث هذه الروحِ القوية الوثابة المطمئنة في قلوبهم ونفوسهم في وقت الكروب واشتداد الأزمات.
وذلك في مواطن كثيرة؛ ففي مكة وفي ظل أجواء التضييق والاضطهاد والحصار والتعذيب الذي كانت تمارسه قوى الاستكبارِ المتمثلةِ في صناديد قريش على المستضعفين من المؤمنين، جاء خباب بْنُ الأَرَتِّ -رضي الله عنه- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكو محنته ويبحث عن الفرج، فقَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ في ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" [والحديث رواه البخاري].
النبي -صلى الله عليه وسلم- خشي على هذا الرجلِ المضطهد المقهور وعلى غيره أن يُصاب أو يُبتلى بمرض اليأس والقنوط، فأوقد صلى الله عليه وسلم في نفسه شعلة الأمل، وبث فيه روح الأمل، وعلمه من تلك المدرسة العظيمة، وبشره بأن الله سَيُظهر هذا الدين، فتَدينُ به العباد، وتُفتح به البلادُ حتى يَبلغَ ما أراد له الله أن يَبلغ، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن تميمٍ الدَّاري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليَبْلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ اللَّيل والنَّهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أدخله اللهُ هذا الدِّين، بِعِزِّ عَزِيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلًّا يُذِلُّ الله به الكفر".
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يزرعَ الأمل في النفوس لكنه يريد الأملَ الواثقَ الثابتَ الخُطى، ولا يُريد الأمل الذي تُستعجل به الثمار، وتُفسد به الجهود. فقال: "ولكنكم تستعجلون".
نعم -معاشر الصالحين والصالحات- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد منا أمة الإسلام أن نستعين بالله -عز وجل-، وأن نعلوا على الأحداث، وأن لا نلتفت إلى الجراح، وأن لا نستكين عند الشدائد، وأن لا نستعجل النتائج، يريد منا أن ننظر إلى الغد المُشرق المملوء بالأمل الذي يملأ القلوب، ويُنيرُ النفوس عند إيقانها بوعدِ الله بالفتح على عباده.
واقرؤوا عن يومِ الأحزاب وقد جاء المشركون بعشرة آلاف مقاتل، ومن خَلفهمْ يهودُ بني قريظةَ وقد نقضوا العهد كما يفعلون اليوم، والهدف: استئصال الإسلام والمسلمين، فيشتد الكرب بالمؤمنين، وقد وصف الله حال المسلمين بعبارات واضحة بينة، فقال جل وعلا: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) [الأحزاب: 10- 11].
ومع ذلك كانت البُشْرَيات في هذه الغزوة أكثر من غيرها، فعن البراءِ بنِ عازبٍ الأنصاريِّ قال: لما أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفرِ الخندقِ، عَرض لنا في بعضِ الخندقِ صخرةٌ عظيمةٌ شديدةٌ لا تأخذ فيها المَعاوِلُ، فشكوا ذلك إلى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، فلما رآها أخذ المِعول، وقال: "بسم اللهِ"، وضرب ضربةً فكسّر ثُلُثَها، وقال: "اللهُ أكبرُ، أُعطيتُ مفاتيح الشامِ، واللهِ إني لَأبصرُ قصورَها الحُمْرَ إن شاء اللهُ"، ثم ضرب الثانيةَ فقطع ثُلثًا آخرَ، فقال: "الله أكبرُ، أُعطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبصِرُ قصرَ المدائنَ الأبيضَ"، ثم ضرب الثالثةَ فقال: "بسم اللهِ"، فقطع بقيَّةَ الحَجَرِ فقال: "الله أكبرُ، أُعطيتُ مفاتيحَ اليمنِ، واللهِ إني لَأُبصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني الساعةَ".
إنّها الثقة بالله، إنّه الأمل وسط ركام الألم، والبِشارة في قلب الإعصار، قال ربنا: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء: 81] ليس باطل الأحزاب الذين يحاصرون المدينة، فهؤلاء أمرهم قد انتهى، بل إن الحق الذي تتّبعون سيُزهِق الباطلَ من وراء البحار ومن وراء الصّحاري.
النبي -صلى الله عليه وسلم- مع كل تكبيرة ومع كل شرارة يُحيي ويوقد الأمل في نفوس أصحابه، ويَرسم لهم معالم الرؤية المُشرِقة لمستقبلِ الإسلام، فهو يحدثهم عن الأمل، وينقلهم إلى المستقبل ويبث فيهم روح الأمل الذي كان يلازمه.
فكانت كلماته صانعةً لرؤيةٍ عظيمة، أذكت همم الصحابة، فانطلقوا يرددون:
الله لولا الله ما اهتدينا | ولا تصدقنا ولا صلينا |
فأنزلن سكينة علينا | وثبت الأقدام إن لاقينا |
إن الأعداء قد بغوا علينا | وإن أرادوا فتنة أبينا |
ثم تتحقق الرؤية، ويتحول النموذج المصغر إلى حقيقةٍ واقعية بعدها بسنوات قلائل، فيَفتح الله على المسلمين حصون كسرى وقيصر واليمن.
الخطبة الثانية:
فلقد كان هذا حديثا عن الأمل وأثرِه وأهميته في حياة أمة تتطلع إلى مستقبل مشرق، حديثا نرجو به الأجر من الله أولا، ومحض النصح لأمتنا ثانيا، وزرع الثمارِ في النفوس والقلوب ثالثا، أملا أن يكون نبراسا في حياتنا، ومصباحاً يضيء لنا طريقنا، بما يعين على مزيدِ اقتداءٍ به صلى الله عليه وسلم في هذا الباب المهجور، ليكون ذلك حديثُ المجالس، ويردَ للأمة روحها، ويُقيلَها من عَثْرتها، مع ضرورة اقتران ذلك بالأعمال الجادة البناءة.
فالأملُ يجب أن يكون ملءَ القلوب في هذه الأمّة، ذلكم الأمل الذي هو روح الحياة.
يجب أن نتعلم من قدوتنا وأسوتنا صلى الله عليه وسلّم كيف نصنعُ الأمل، ونترقب ولادةَ النورِ وانبثاقَ الفرج من رحم الظلمة، وخروجَ الخير من قلب الشر.
نتعلم من قدوتنا وأسوتنا صلى الله عليه وسلّم الذي كان يجعل من المحن منحا، ومن الألم أملاً، ولا يتحقق ذلك إلاّ من خلال الثقة بالله -عزّ وجلّ- والاعتصام به، فثِق بالله -أيّها المسلم- واعتصم به ترى عجبًا.