المجيب
كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...
العربية
المؤلف | عبد الملك بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - التوحيد |
هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض، يدرك جسمه بحس اللمس عند هبوبه، ولا يُرى شخصه، يجري بين السماء والأرض، والطير مُحلقة فيه سابحة بأجنحتها في أمواجه كما تسبح حيوانات البحر في الماء وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحر؛ فإذا شاء الله -سبحانه- حرَّكه بحركة الرحمة، فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحًا للسحاب، وإن شاء ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71]
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133]
أيها المسلمون: الرياح من أعظم آيات الله الدالة على عظمته وربوبيته وقدرته، وفيها من العبر: هبوبها، وسكونها، ولينها، وشدتها، واختلاف طبائعها، وصفاتها، ومهابها، وتصريفها، وتنوع منافعها، وشدة الحاجة إليها؛ لهذا أقسم الله -سبحانه- بها في قوله: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) [الذاريات: 1] وهي الرياح تذرو المطر، وتذرو التراب، وتذرو النبات إذا تهشم، ثم أقسم بما فوقها وهو السحاب: (فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا) [الذاريات: 2] أي: ثقلاً من الماء سوقها الله -سبحانه- على متون الرياح، فالقسم بها دليل على أنها من أعظم آياته.
هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض، يدرك جسمه بحس اللمس عند هبوبه، ولا يُرى شخصه، يجري بين السماء والأرض، والطير مُحلقة فيه سابحة بأجنحتها في أمواجه كما تسبح حيوانات البحر في الماء وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحر.
فإذا شاء الله -سبحانه- حرَّكه بحركة الرحمة، فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحًا للسحاب، وإن شاء حركه بحركة عذاب فجعله عقيمًا، وأودعه عذابًا أليمًا، وجعله نقمة على من شاء من عباده، فجعله صرصرًا ونحسًا،، وعاتيًا ومفسدًا لما يمر به ومسببًا للفيضان المدمر.
وهي في قوتها أشد من الحديد والنار والماء، ومع ذلك فهي ألطف شيء وأقبل المخلوقات لكل كيفية، سريعة التأثر والتأثير، لطيفة المسار بين السماء والأرض.
تأمل هذا الهواء وما فيه من المصالح؛ فإنه حياة هذه الأبدان، والممسك لها من داخل بما تستنشق منه، ومن خارج بما تباشر به من روحه، فتتغذى به ظاهرًا وباطنًا.
فحياة ما على الأرض من نبات وحيوان بالرياح؛ فإنه لولا تسخير الله لها لعباده لذوى النبات، ومات الحيوان، وفسدت المطاعم، وأنتن العالم وفسد، فسبحان من جعل هبوب الرياح تأتي بروحه ورحمته ولطفه ونعمته، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الرياح من روح الله تأتي بالرحمة".
الرياح تلقح الشجر والنبات، وتسير السفن، ومن منافعها: أنها تُبرد الماء، وتضرم النار التي يراد إضرامها، وتجفف الأشياء التي يحتاج إلى جفافها، وهو الحامل لهذه الروائح على اختلافها ينقلها من موضع إلى موضع، فتأتي العبد الرائحة من حيث تهب الريح، وهو أيضًا الحامل للحر والبرد اللذين بهما صلاح الحيوان والنبات.
وتأملوا الحكمة البالغة في كون الريح في البحر تأتي من وجه واحد لا يعارضها شيء؛ فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة، من وجه واحد لسيرها، فإذا اختلفت عليها الرياح وتصادمت وتقابلت فهو سبب الهلاك، فالمقصود بها في البحر غير المقصود بها في البر؛ في البر جعل لها رحًا أخرى تقابلها وتكسر سورتها وحدتها فيبقى لينها ورحمتها، فرياح الرحمة متعددة، وأما ريح العذاب فإنها ريح واحدة ترسل من وجه واحد لإِهلاك ما ترسل بإهلاكه، فلا تقوم لها ريح أخرى تقابلها وتكسر سورتها وتدفع حدتها.
وجعل -سبحانه- الريح للسفن بقدر لو زاد عليها لأغرقها، ولو نقص عنه أعاقها.
والرياح تحمل الصوت عند اصطكاك الأجرام وتؤديه إلى مسامع الناس، فينتفعون به في حوائجهم ومعاملاتهم بالليل والنهار، كالبريد والرسول الذي من شأنه حمل الأخبار، وتَحْدُثُ الحركات العظيمة من حركاتهم، فلو كان أثر هذه الحركات والأصوات يبقى في الهواء كما يبقى الكتاب والقرطاس؛ لامتلأ العالم منه، ولعظم الضرر به واشتدت مؤنته، واحتاج الناس إلى محوه من الهواء، والاستبدال به أعظم من حاجتهم إلى استبدال الكتاب المملوء كتابة، فاقتضت حكمة العزيز الحكيم أن جعل هذا الهواء قرطاسًا خفيفًا يحمل الكلام بقدر ما يبلغ الحاجة ثم يمحى بإذن ربه، فيعود جديدًا نقيًا لا شيء فيه، فيحمل ما حمل كل وقت.
أيها المسلمون: خلق الله الكون وصرفه على ما يشاء ويريد، أجرى فيه الرياح وسخر السحاب وأنزل المطر وأنبت الشجر، لا معقب لحكمه، له الأمر والخلق، تبارك الله رب العالمين.
وقد ورد النهي عن سب الريح لكونها تهب عن إيجاد الله لها وأمره إياها، فلا تأثير لها إلا بأمر الله.
في الحديث عن أبيِّ بن كعب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ لك من شر هذه الريح، وشر ما فيها وشر ما أمرت به" رواه الترمذي.
أي: لا تشتموها ولا تلعنوها للحوق ضرر منها، فإنها خلق من خلق الله مقهور مدبر، وإنما تهب بمشيئة الله وقدرته، فلا يجوز سبها فيرجع السب إلى من خلقها وسخرها.
وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعًا: "الريح من روح الله، تأتي بالنعمة والعذاب، فلا تسبوها، ولكن سلوا الله من خيرها، وتعوذوا بالله من شرها" وروى الترمذي عن ابن عباس أن رجلاً لعن الريح عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "لا تلعنوا الريح، فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئًا ليس له بأهل رجعت اللعنة إليه".
فمن خيرها: تلقيح الشجر، وتسيير السفن، وإضرام النار، وإبعاد الأوبئة، وإزالة الحر الشديد، وإزالة الروائح المنتنة وغير ذلك كثير.
ومن شرها: ما نراه من قلع الأشجار، وهدم البيوت، وما تحمله من الحر والبرد والحشرات، وقد تؤمر بالعذاب والهلاك كما حصل لقوم عاد الذين أهلكوا بالريح العقيم.
ثم علَِّم النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته إذا رأوا المسلم ما يكره من الريح إما شدة حرها أو بردها أو قوتها، أن يرجع على خالقها وآمرها الذي أزمة الأمور كلها بيده، ومصدرها عن قضائه أن يسألوه خيرها وخير ما فيها، والاستعاذة به من شرها وشر ما فيها، فما استجلبت نعمه بمثل طاعته وشكره، ولا استدفعت نقمة بمقل الالتجاء إليه والتعوذ به والاضطرار إليه ودعائه.
في الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به".
فشرع الله لعباده أن يسألوه ما ينفعهم، ويستعيذوا به من شر ما يضرهم، ففيه عبودية الله وحده، والطاعة له، والإِيمان به، واستدفاع الشرور به، والتعرض لفضله ونعمته، وهذه حال أهل التوحيد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 57]
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد الشاكرين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: المسلم يعرف ربه بآياته ومخلوقاته، التي نصبها دلالة على وحدانيته وتفرده بالربوبية والإِلهية.
فسل الرياح من أنشأها بقدرته، وصرفها بحكمته، وسخرها بمشيئته، وأرسلها بشرى بين يدي رحمته، جعلها سببًا لتمام نعمته، وسلطانًا على من شاء بعقوبته، ومن جعلها رخاء، وذارية، ولاقحة، ومثيرة، ومؤلفة ومغذية لأبدان الحيوان والشجر والنبات، وجعلها قاصفًا، وعاصفًا ومهلكة، وعاتية، إلى غير ذلك من صفاتها، فهل ذلك لها من نفسها وذاتها، أم بتدبير مُدبر شهدت الموجودات بربوبيته، وأقرت المصنوعات بوحدانيته، بيده النفع والضر، وله الخلق والأمر؟! تبارك الله رب العالمين.
والريح -عباد الله- خلق من خلق الله، تهب بمشيئة الله وقدرته، فسابُّها لا يخلو من أحد أمرين:
الأول: إنْ سبها على أنها فاعلة بذاتها، فهذا شرك أكبر.
الثاني: إنْ سبها وهو يعتقد أنها مخلوقة مأمورة، فهذا من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.
ومن أمثلة سبها قول القائل: "ما أقبح هذه الريح آذتنا"، ويقاس على هذا: سب كل مخلوق مدبر مأمور كالزلازل والفيضانات.
ويجوز وصف الريح؛ لأن المتكلم يقصد الخبر دون اللوم، كقول: "هذه ريح عاصف" كما ورد في كتاب الله -عز وجل-: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) [الحاقة: 6]
والواجب على العبد الحذر من سب الريح؛ لأنها مدَّبرة مسخَّرة، فسبُّها جهل في الدين ونقص في العقل.
هذا، وصلوا.