العزيز
كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - المنجيات |
العجيب: أن في القلب غدة في أعلاه بقدر حبة العدس هي التي جعلها الله مصدر الطاقة للقلب ليقوم بمهمتهِ خيرَ قيامٍ، بلا توقفٍ أو توانٍ أو كلل؛ فسبحان من منح هذه المضغة الجهد والقدرة لتقوم بعملها العضوي، وأي خلل فيها أو...
الخطبة الأولى:
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها الإخوة: قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: … "أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ"(رواه البخاري)، ولفظه في "حلية الأولياء" بسند صحيح: "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ وَطَابَتْ صُلْحَ لَهَا الْجَسَدُ وَطَابَ، وَإِنْ سَقِمَتْ وَفَسَدَتْ سَقِمَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَفَسَدَ، وَهِيَ الْقَلْبُ".
والمضغةُ قطعةُ اللحمِ بقدرِ ما يُمضغُ في الفمِ.
نعم، القلب مضغة صغيرة بحجمها، عجيبة في حقيقتها وخلقها، فقد جعلها خالقُها –سبحانه- سببَ الحياةِ، ومحركةَ الروحِ والبدنِ، وتقومُ بدورِها على أكملِ وجهِ في كلِ الأحولِ في حالِ اليقظةِ والنومِ لا تتوقفُ ولا تستريحُ تنبضِ في الدقيقةِ ما بين ستين إلى مائة مرة، أي أكثر من مائةِ ألف مرة باليوم، وأكثرَ من ثلاثةِ ملايين وستمائة ألف في السنة، وأكثر من مليارين ونصف مليار في العمر، وتضخُ ألفين جالون من الدم من خلال ستين ألف ميل من الأوعية الدموية كل يوم، وتنتج من الطاقة كل يوم ما يكفي لقيادة شاحنة 20 ميلاً، وهذا ما يعادل القيادة إلى القمر في العمر كله.
هذه المعلومات حسب أحد المواقع الطبية الأمريكية.ولو توقفت ثوانٍ لاعتل الجسد وربما هلك.
والعجيب: أن في القلب غدة في أعلاه بقدر حبة العدس هي التي جعلها الله مصدر الطاقة للقلب ليقوم بمهمتهِ خيرَ قيامٍ، بلا توقفٍ أو توانٍ أو كلل؛ فسبحان من منح هذه المضغة الجهد والقدرة لتقوم بعملها العضوي، وأي خلل فيها أو مرض يؤثر على كل أجزاء الجسد الحيوية وغيرها، وقد قال سبحانه لافتاً أنظارنا للتبصر في خلق أنفسنا: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[الذاريات: 21] فسبحان من سواها وأقدرها وقوها.
أحبتي: وكما أن الجسد يعتلُ بعلتِها ومرضِها العضوي، كذلك الروح تعتل بعلتها المعنوية ويختل السلوك، والقلوب كما قال ابن القيم: "ثلاثة: صحيح وسقيم وميت.
وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم.
والأمر الجامع لذلك: أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله.
فسلم في محبة غير الله معه ومن خوفه ورجائه والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذل له، وإيثار مرضاته في كل حال والتباعد من سخطه بكل طريق. وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده.
فالقلب السليم: هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله -تعالى-: إرادةً ومحبةً، وتوكلاً، وإنابةً، وإخباتاً، وخشية، ورجاء.
وخلص عمله لله، فإن أحب أَحَبَّ في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لغير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
والقلب الثاني: ضد السليم، وهو القلب الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره فيما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته ولذاته؛ ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه، رضى ربه أم سخط.. فهو متعبد لغير الله: حباً، وخوفاً، ورجاءً، ورضاً، وسخطاً، وتعظيماً؛ وذلاً. إن أحب أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه. فهواه آثرُ عنده وأحبُ إليه من رضا مولاه. فمخالطة صاحب هذا القلب سقم.. ومعاشرته سم.. ومجالسته هلاك..
والقلب الثالث: القلب المريض: قلب له حياة وبه علة؛ فله مادتان، تمده هذه مرة، وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله -تعالى- والإيمان به والإخلاص له، والتوكل عليه: ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها، والحسد والكبر والعجب؛ وحب العلو والفساد في الأرض بالرياسة: ما هو مادة هلاكه وعطبه، وهو ممتحن بين داعيين: داعٍ يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة، وداعٍ يدعوه إلى العاجلة. وهو إنما يجيب أقربهما منه بابا، وأدناهما إليه جوارا.
فالقلب الأول: حي مخبت لين واع، والثاني: يابس ميت، والثالث: مريض، فإما إلى السلامة أدنى، وإما إلى العطب أدنى.
ويقول رحمه الله: فالقلب الصحيح السليم: ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه، فهو صحيح الإدراك للحق، تام الانقياد والقبول له.
والقلب الميت القاسي: لا يقبله ولا ينقاد له.
والقلب المريض: إن غلب عليه مرضه التحق بالميت القاسي. وإن غلبت عليه صحته التحق بالسليم.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: لقد أخبر رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أنه "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ"(رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبيِ هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أي يولد بقلب نظيف طاهر، ثم يتعرض للمؤثرات المختلفة كما قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ"(رواه مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
أيها الإخوة: والمرء هو الذي يتولى إصلاح قلبه بعد عون الله -جل وعلا-، ويتسبب في إفساده بذنوبه ومعاصيه وآثامه الباطنة والظاهرة.
وسنذكر شيئاً مما يصلح القلب: أعظم إصلاح للقلب إخلاص العبادة لله، وعدمُ صرف شيء من العبادة لغير الله من الدعاء والخوف والرجاء والاستغاثة والاستعانة.
ولقد جهل بعض المسلمين وصرف أنواعاً من العبادة لغير الله -تعالى- جهلاً وضلالاً فذهبوا لقبور الأولياء والصالحين وتوسلوا بهم وربما طافوا بالقبور وذبحوا النذور واستقبلوا قبورهم وكأنها القبلة.
وهؤلاء وأمثالهم قال الله عنهم: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ* إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)[فاطر: 14-13].
ومن أسبابِ صلاحِ القلبِ: الابتعاد عن الوقوع في الشبهات فهي التي تدمر القلب وتفسده، وقد جُنِدَ أناسٌ في هذا الزمانِ لإفسادِ عقائد الأمة عبر وسائل الإعلام الحديث، وجعلوها منبراً يدعون فيه لباطلهم وينشرون فيها شبهاتهم وكم ضل على أيدهم من مفتون.
ومنها: البعد عن الشهوات؛ لأن لها ظلمة في القلب تنكت فيه نكتاً؛ حتى تُظلمه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ، فَإِنْ هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَتْ، فَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا، فَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ فِيهِ، فَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ بقوله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)"[المطففين: 14](رواه ابن حبان والحكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وحسنه الألباني).
فعلى المؤمن إذا وقع في معصية أن يبادر إلى التوبة والاستغفار منها، تحقيقاً لصفات المؤمنين الذين قال الله عنهم: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)[آل عمران: 136-135]
وعلى المؤمن أن يكثر من الاستغفار عموماً، ويتأكد ذلك بعد كل ذنبٍ ولا يتردد قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: "أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَ-تعالى-: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَ-تعالى-: فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ"(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ-).
معناه: ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك.
أيها الإخوة: وذِكْرُ اللهِ -سبحانه و-تعالى- دواءُ القلبِ وشفاؤه، وحياته، والذكر يزيل قلق القلوب واضطرابها، وتحضرها بسببه أفراحها ولذاتها، قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
والعفو أحبتي سببٌ كبير من أسباب صلاح القلب، فالإنسان الذي يعفو ويصفح ويغفر يكون رضي النفس سليم القلب مطمئناً محبوباً، وعلى المسلم أن يعوّد نفسه على العفو ويتحامل عليها ليفوز بجائزة الله -تعالى- بقوله: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[النور: 22].
والعفو منزلة رفيعة تحتاج إلى صبر، وقد أثنى الله على من اتصف بها فقال: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[الشورى: 43].
وبعد: القلب كالبدن له مغذيات، وغذاؤه بقراءة القرآن وتدبره، ونوافل الطاعات، والتعود على خبيئة من الأعمال الصالحات ومن الصدقات وحسن الأخلاق.
اللهم ارزقنا قلوباً سليمة وصلاحاً وفلاحاً...