المحيط
كلمة (المحيط) في اللغة اسم فاعل من الفعل أحاطَ ومضارعه يُحيط،...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
كلما كان العبد بالله أعرف كان لعبادته أطلب، وعن معصيته أبعد، ومنه -تبارك وتعالى- أخوف؛ ولهذا -عباد الله- يحتاج المسلم لصلاح أمره وللبعد عن الذنوب والخطايا أن يتعرَّفَ على الله -جل وعلا- بمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العظيمة، ومعرفة أنه -تبارك وتعالى- أحاط بكلّ شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، ومبلغ الناس شرعه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
معاشر المؤمنين عباد الله: اتقوا الله؛ فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه، وتقوى الله -جل وعلا- أساسُ السعادة وسبيلُ الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة، وهي وصية الله -جل وعلا- للأوّلين والآخرين من خلقه، كما قال سبحانه: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131].
عباد الله: وتقوى الله -جل وعلا- ليست أمرًا يقوله الإنسان بلسانه، ولا دعوى يَدَّعيها، وإنما حقيقة تقوى الله -جل وعلا- العملُ بطاعة الله، على نور من الله، رجاء رحمة الله، وترك معصية الله، على نور من الله، خيفة عذاب الله. فتقوى الله -جل وعلا- هي فعل ما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر؛ ولهذا -عباد الله- كانت المعصية منقسمةً إلى قسمين: فعلٍ للمحظور، وتركٍ للمأمور، تركُ المأمور -عباد الله- هو الذنب الذي عصى به إبليسُ ربَّه، أمره بالسجود فأبى، وفعلُ المحظور -عباد الله- هو الذنب الذي فعله آدم، حيث نهاه الله -جل وعلا- عن الأكل من الشجرة فأكل، ثم ندم فتابَ، فتابَ الله عليه؛ ولهذا كانت الذنوب منقسمة إلى قسمين: فعل للمحظور، وترك للمأمور، وكل ذلك معصية لله -جل وعلا-، ثم إن الذنوب -عباد الله- منقسمة من حيث حجمها إلى صغائرَ وكبائرَ، ولا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار والندم والتوبة.
وقد جاء القرآن -عباد الله- في مواضعَ عديدةٍ منه بالتحذير من الكبائر، والدعوةِ إلى اجتنابها، وبيان ما يترتب على اجتنابها والبعد عنها من الآثار الحميدة والعوائد المباركة في الدنيا والآخرة؛ ففي سورة النساء أخبر الله -جل وعلا- بتكفيره لسيئات مجتنب الكبائر، وإدخاله لهم المدخل الكريم -وهو الجنة- قال الله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) [النساء: 31]، وفي سورة الشورى ذكر -تبارك تعالى- في أوصاف عباده المؤمنين الكُمَّل اجتناب الكبائر؛ فقال سبحانه: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى: 37]، وفي سورة النجم ذكر -جل وعلا- ما أعدّه لمجتنبي الكبائر من الرحمة الواسعة وغفران الذنوب فقال -جل وعلا-: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) [النجم: 32].
إن الواجب على المسلم -عباد الله- أن يجتنب الكبائر، واجتنابُها هو فرع العلم بها؛ إذ كيف يجتنبها من لا يعرفها؟! وكما قيل قديمًا: كيف يتقي من لا يدري ما يتقي؟! ولقد كان نبينا -عليه الصلاة والسلام- ناصحًا لأمته تمام النصح، داعيًا لها لكل خير، ناهيًا لها عن كل شر ورذيلة، وقد جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- أحاديث متكاثرة، ونصوص متضافرة، في التحذير من الكبائر وبيان خطورتها، وما أعده الله -تبارك وتعالى- لأهلها من العقوبات في الدنيا والعذاب في الآخرة، والكبيرةُ -عبادَ الله- كل ما جاء فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة، كلُ ذنبٍ -عبادَ الله-، خُتِمَ بلعنة، أو وعيدٍ شديد، أو دخولِ صاحبه النار، أو أنه لا يدخلُ الجنة، أو لا يشم رائحتها، وكذلك كلُ ذنب قيل عن صاحبه: لا يؤمن، أو قيل: ليس منا، فكل ذلك من الكبائر، وكذلك ما جاء في السنة التصريح به بأنه من الكبائر، وأنه من الموبقات.
ومن ذلكم -عباد الله- ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، أي المهلكات، سميت موبقات لأنها مهلكات لصاحبها في الدنيا والآخرة، قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قالوا: وما هن -يا رسول الله-؟! قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات". وجاء في الصحيحين من حديث أبي بكر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ألا أُنبِئكم بأكبر الكبائر؟!"، قلنا: بلى -يا رسول الله-، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين"، وكان متكئًا فجلس ثم قال: "ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور"، ولم يزل يكررها -عليه الصلاة والسلام- حتى قال الصحابة: ليته سكت.
ومرَّ نبينا -عليه الصلاة والسلام- بقبرين، فالتفت إلى أصحابه وقال: "أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بل إنه كبير، أما أحدهما فإنه يمشي بالنميمة بين الناس، وأما الآخر فلا يستنزه من البول". تأمل، إنهما ليعذبان -أي في قبورهما- وما يعذبان في كبير، أي ما يعذبان في أمر كبير على الناس، بل هو أمر سهل يسير مستطاع لكل أحد البعد عنه وتركُه، النميمة من السهل على كل أحد أن يبتعد عنها، والاستنزاه من البول من اليسير على كل إنسان أن يستنزه، ولكن لما كان حالهما التهاون وعدم المبالاة، فَعَلا هذا الأمر مع أنه ليس بكبير، ولما كان يُخشى أن يُظَنَّ أن هذا الأمر ليس من كبائر الذنوب ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- تعقيبًا لذلك ما يزيل ما قد يُستشكل فقال: "بل إنه لكبير".
والكبائر -عباد الله- باب عظيم من الفقه في الشريعة، ينبغي على أمة الإسلام أن يُعْنَوْا بهذا الباب تفقهًا فيه، ومعرفة بنصوصه ودلائله، وحرصًا على البعد عنه واجتنابه؛ ولهذا فإن علماء الأمة في قديم الزمان وحديثه كتبوا في ذلك كتاباتٍ نافعةً، ومؤلفاتٍ مسددةً مفيدةً، ينبغي على المسلم أن يقرأ بعضها أو واحدًا منها ولو مرة في حياته، نصحًا لنفسه؛ ليتعرف على الكبائر والمحرمات، ليتسنى له بذلك اجتنابها والبعد عنها، ومن أحسن ما كتبه العلماء في هذا الباب ما كتبه الإمام الذهبي -رحمه الله- في كتابه العظيم المبارك الكبائر، وهو كتاب نفيس جدًّا، ومؤلَّفٌ نافع، ينبغي علينا -معاشر المؤمنين- أن نحرص على اقتنائه وقراءته بنية اجتناب الكبائر بعد معرفتها؛ اتقاءً لشرها، وبعدًا عن أخطارها وأضرارها على العبد المؤمن في دينه ودنياه.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، اللهم واغفر لنا ذنبنا كله: دقه وجله، أوله وآخره، سره وعلنه، اللهم اكتب لنا توبة نصوحًا يا ذا الجلال والإكرام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى تقوى من يعلم أن ربه يسمعه ويراه، وأساس العلم خشية الله؛ قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]، وكلما كان العبد بالله أعرف كان لعبادته أطلب، وعن معصيته أبعد، ومنه -تبارك وتعالى- أخوف؛ ولهذا -عباد الله- يحتاج المسلم لصلاح أمره وللبعد عن الذنوب والخطايا أن يتعرَّفَ على الله -جل وعلا- بمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العظيمة، ومعرفة أنه -تبارك وتعالى- أحاط بكلّ شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وأنه -تبارك وتعالى- يرى عباده، ويسمع أقوالهم، ويعلم أحوالهم، ولا تخفى عليه منهم خافية، ومن حدثته نفسه بالمعصية عليه أن يتذكر علمَ الله به، واطلاعَه عليه، ورؤيتَه له، ومعاينته لمقامه وحاله، حتى وإن كان مستخفيًا بالمعصية.
عباد الله: ومن فعلها خفيةً حياءً من الناس، مستخفيًا مِنْهُم بِفِعْلِها، فهو أحد رجلين: إما أنه يظن أن الله لا يراه، وهذا كفر بالله -جل وعلا-، وإما أنه يعتقد أن الله يراه، وبذلك يكون الله أهون الناظرين إليه، ألا فلنتقِِّ الله -عباد الله-، ولنراقب الله -جل وعلا- في السر والعلانية، والغيب والشهادة، والكيسُ من عبادِ الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة، وصلوا وسلموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرًا". اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم أبدل ذل المسلمين عزًّا، وفقرهم غنى، اللهم وأصلح لهم شأنَهُم كله يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وأعنَّا على البر والتقوى، وسددنا في أقوالنا وأعمالنا.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وأعنَّا على البر والتقوى، ولا تكِلْنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم اكتب لنا توبة نصوحًا، اللهم اكتب لنا توبة نصوحًا، اللهم اكتب لنا توبة نصوحًا، اللهم اغفر ذنوب المذنبين، وتب على التائبين، اللهم واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.
ربنا إنا ظلمنا أنفسنا، ربنا إنا ظلمنا أنفسنا، ربنا إنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.