الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | عبد الملك بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد - الحياة الآخرة |
ومن توسل إليه بإحسانه ونعمه وجوده وكرمه، فقد سلك مسلك الأصفياء الأفاضل، ومن تقرب إليه بترك معاصيه والعمل بما يرضيه، فهو الذي لا شك إلى كل خير واصل، ومن توسل إليه بحاجته وفقره وضرورته فقد توسل إليه بخير الوسائل، ومن توسل إليه بذوات المخلوقين وجاههم فهو مبتدع ظالم، ومن دعا مخلوقًا، أو استغاث به؛ وزعم أن يتوسل به إلى الله فهو مشرك آثم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- اتقوه في السر والعلن؛ فإن تقوى الله -عز وجل- وقاية من الزلل-.
أيها المسلمون: الجنة مطلب غال ومهر نفيس، فإنها السكن الدائم والنعيم المقيم، نذكرها فتحن قلوبنا شوقًا إلى ما أعَّد الله -عز وجل- فيها للصالحين، وما ادخره للعاملين برحمة منه وفضل، ومنة وعطاء.
وهي الجزاء العظيم، والثواب الجزيل، الذي أعده الله لأوليائه وأهل طاعته، وهي نعيم كامل لا يشوبه نقص ولا يعكر صفوه كدر، قال الله -تعالى- في الحديث القدسي: "أعددت لعبادي الصالحين؛ ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "اقرءوا إن شئتم: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة: 17]" رواه البخاري، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "موضع سوطٍ في الجنة، خير من الدنيا وما فيها" رواه البخاري.
عباد الله: الجنة لا تفنى ولا تبيد، وأهلها فيها خالدون، لا يرحلون عنها ولا يظعنون، ولا يبيدون ولا يملون ولا يموتون، لقوله تعالى: (لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [الدخان: 56] وقوله سبحانه: (خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) [الكهف: 108].
ويؤتى بالموت بعد أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، على شكل كبش أملح، والسبب في أنه أملح لأنه جمع اللونين الأبيض والأسود لصفة أهل الجنة وأهل النار، البياض والسواد، فيذبحه جبريل -عليه السلام- ثم يقال لأهل الجنة: "حياة بلا موت وكذلك لأهل النار"، فعنه -صلى الله عليه وسلم-، أنه قال: "يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت" رواه البخاري.
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من يدخل الجنة ينعم، لا يبأس، ولا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه" رواه مسلم.
ومن إعظام الله وإجلاله أن لا يُسأل بوجهه العظيم إلا غاية المطالب وهي الجنة؛ إجلالاً لله وإكرامًا، أو الإِعانة على أعمال الآخرة الموصلة إلى الجنة.
في الحديث عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة" رواه أبو داود.
والسؤال بوجه الله على حالتين:
الأول: أن يسأل الله بوجهه الكريم الجنة أو ما يقرب إليها، وهذا جائز، فمن إعظام الله وإجلاله ألا يُسأل بوجهه العظيم إلا غاية المطالب وهي: الجنة كأن يقول: "اللهم إني أسألك بوجهك الكريم الجنة، اللهم إني أسألك بوجهك الكريم أن توفقني لفعل الطاعات وترك المحرمات".
الثاني: أن يسأل الله بوجهه الكريم أمرًا من أمور الدنيا، فهذا من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد؛ لأن وجه الله أعظم من يُسأل به شيء من أمور الدنيا، كأن يقول: "اللهم إني أسألك بوجهك الكريم أن ترزقني منزلاً جميلاً".
والسؤال بوجه الله غير الجنة من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد؛ لمنافاة تعظيم الله - سبحانه وتعالى-.
ويحرم -عباد الله- سؤال المخلوق بوجه الله؛ إعظامًا وإجلالاً لله -سبحانه- كأن يقول: "أسألك بوجه الله أن تأكل طعامًا عندي". وفي الحديث إثبات صفة الوجه لله -سبحانه وتعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته.
وقد ذكر الله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- الجنة ودرجات أهلها وتفاوتهم، قال تعالى: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) [طه: 75] وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها" فقالوا: يا رسول الله، أفلا نُبشر الناس؟ قال: "إن الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، قال: وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة" رواه البخاري.
وقال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن: 46] وقال: (وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) [الرحمن: 62] ووصف الأوليين بقوله: (فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ) [الرحمن: 50] ووصف الأخريين بقوله: (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ) [الرحمن: 66] أي: فوارتان بالماء لكنهما ليستا كالجاريتين، لأن النضخ دون الجري.
وأعلى منزلة في الجنة الوسيلة ينالها شخص واحد، هو نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، وعنه -صلى الله عليه وسلم-: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته: حلت له الشفاعة يوم القيامة" رواه البخاري.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) [طه: 75]
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، العظيم في قدره، العزيز في قهره، العليم بحال العبد في سره وجهره، يسمع أنين المظلوم عند ضعف صبره، ويجود عليه بإعانته ونصره، أحمده على القدر خيره وشره، وأشكره على القضاء حلوه ومره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الآيات الباهرة، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، جاهد في الله حق جهاده طول عمره، وسائر دهره، صلى الله عليه وعلى سائر آله وأصحابه، ما جاد السحاب بقطره، وطل الربيع بزهره، وسلم تسليمًا كبيرًا.
أما بعد:
عباد الله: فقد قال -عز وجل- في سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:35].
والتقوى هنا: اجتناب الكفر والفسوق والعصيان، وأما الجهاد في سبيله: فهو بذل الجهد في مقاومة أهل الانحراف والإِلحاد والكفران، وأما ابتغاء الوسيلة إليه: فهي التقرب إليه بأصول الإِيمان وشرائع الإِسلام وحقائق الإِحسان، من تعبَّد له، أو دعاه بأسمائه وصفاته، فذاك أفضل الوسائل.
ومن توسل إليه بإحسانه ونعمه وجوده وكرمه، فقد سلك مسلك الأصفياء الأفاضل، ومن تقرب إليه بترك معاصيه والعمل بما يرضيه، فهو الذي لا شك إلى كل خير واصل، ومن توسل إليه بحاجته وفقره وضرورته فقد توسل إليه بخير الوسائل، ومن توسل إليه بذوات المخلوقين وجاههم فهو مبتدع ظالم، ومن دعا مخلوقًا، أو استغاث به؛ وزعم أن يتوسل به إلى الله فهو مشرك آثم، فتوسلوا إلى ربكم بكثرة السجود والركوع، وتوسلوا إليه بتلاوة كلامه بتدبر وخشوع، وتوسلوا إليه بالإِحسان إلى الخلق، إن الله يحب المحسنين، وببر الوالدين وصلة الأرحام، فإن الله يصل الواصلين ويقطع القاطعين، توسلوا إليه بخوفه ورجائه والتوكل عليه، فإن الله يحب المتوكلين، وتوسلوا إليه باللهج بذكره واستغفاره.
فيا سعادة الذاكرين، توسلوا إليه بمحبة نبيكم، وكثرة الصلاة والسلام عليه، فمن أكثر الصلاة عليه كفاه الله همه وقضى حاجته، ومن صلى عليه صلى الله عليه عشرة أضعافها، ونال حبه وشفاعته، توسلوا إليه بالحنو على اليتامى والضعفاء، وتقربوا إليه برحمة البهائم، فإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
توسلوا إليه بسلامة الصدور من الفسق والغل والحقد على المسلمين، وبالنصيحة والشفقة على الخلق أجمعين، توسلوا إلى الله بترك ما تدعو له النفس الأمارة بالسوء من الهوى والتبعات، وبغض الأبصار، وصيانة اللسان، والبعد عن جميع المحرمات، توسلوا إلى الله بكمال الإِخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول، لتدركوا كل مطلوب ومرغوب ومأمول.
هذا، وصلوا.