البحث

عبارات مقترحة:

البر

البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...

المبين

كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...

الكريم

كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...

جبر المصاب عند فقد الأحباب

العربية

المؤلف عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. صعوبة فقد الأحباب .
  2. أهمية الاهتمام بحقوق الأحباب قبل فقدهم .
  3. الصبر على فقد الأحباب والأجر المترتب عليه .
  4. الحكمة من الابتلاء .
  5. بم يكون البر والصلة بالأموات؟ .
  6. من أحكام العزاء .

اقتباس

وفقد الأحباب مصاب؛ من أبٍ وأُمٍ وولدٍ وإخوة وأصحاب، وهكذا يسير بالمؤمن البلاء والمصاب، فيوفقه الله للصبر والاحتساب؛ لأنه يريد له الأجر والثواب (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ)، وذلك قدر الله (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)...

الخطبة الأولى:

الحمد لله كتب الفناء على أهل هذه الدار، وجعل الجنة عقبى المتقين وعقبى الكافرين النار، وأشهد ألا إله إلا الله الواحد الغفار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعليه وعلى آله وصحبه الأخيار وسلم تسليماً كثيراً ما تعاقب لليل ونهار.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن فقدَ الأحبةِ خطبٌ مؤلم وحدث موجع وأمر مهول مزعج وحرقة تضطرم تحترق به الكبد ويُفت به العضد؛ ورب محبوب في مكروه، ومكروه في محبوب (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[النساء:19]، والدنيا دار مصائب وشرور.

طُبعت على كدرٍ وأنت تريدها

صفواً من الأقذار والأكدارِ

وهي لا تصفو من محنة ورزية؛ فلا ينتظر الصحيح فيها إلا السقم، والكبير إلا الهرم، والموجود إلا العدم، وعلى ذا مضى الناس؛ اجتماع وفرقة وميت ومولود، وبشر وأحزان

والمرء رهن مصائب ما تنقضي

حتى يُوسّد جسمه في رمسه

فمؤجل يلقى الردى في غيره

ومُعجّلٌ يلقى الردى في نفسه

وفقد الأحباب مصاب؛ من أبٍ وأُمٍ وولدٍ وإخوة وأصحاب، وهكذا يسير بالمؤمن البلاء والمصاب، فيوفقه الله للصبر والاحتساب؛ لأنه يريد له الأجر والثواب (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ)[البقرة:155]، وذلك قدر الله (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)[الأنعام:62].

عباد الله: كلنا فقدنا عزيزاً أو قريباً نبكيه ونتذكّره، وعلى فراقه القلب حزين، والدمع من العين يفيض، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا الكريم "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وهنا سؤال مهم لكلِّ من فقد غالياً وعزيزاً: ماذا أُقدمُ له وما حقُّه وكيف أصبر عنه وأحزن عليه؟!

وينبغي أن يكون هذا قبل الموت والفقد، وأثناء الحياة والعيْش؛ فهل قمنا بواجب أحبتنا وأكرمناهم وتواصلنا معهم زمن الصحة؟ هل بالحسنى عاملناهم وتحمّلناهم؟ وفي الدنيا صالحناهم؟ هل تصافت القلوب وخلصت النيات؟ وزانت المعاملات؟ فلا يجدي الندم بعد الوفاة والأنفس لربها فاضت.. ترى بعضهم يبكي الغالين بعد فقدهم بينما كانوا بين يديه في الحياة لكنه مقصر معهم؛ فاستدركوا -إخوتي- والديكم وأحبتكم وإخوانكم وأهلكم، واصطلحوا وتواصلوا وتسامحوا.

فيا أيها العاق بوالديه المتخاصم مع الناس القاطع للرحم الآكل للحقوق: والله ثم والله إن الدنيا إلى خراب، ولن تخرج منها إلا بكفن يغطيه التراب، والموعد يوم القيامة حيث الثواب والعقاب (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء:88-89].

أيها الأخوة: فقدُ الأحبة بلاء وابتلاء من الله لعباده؛ لينظر صبرهم وعدم جزعهم.. نُهينا عن البكاء والعويل والندبِ والنحيب؛ فهي أذيةٌ للميت وعرّف صلى الله عليه وسلم الصبر بأنه عند الصدمة الأولى والله كتبَ الآجال وقدرها من موتٍ وحياة "وما قضى الله للعبد قضاءً إلا كان خيراً له" (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)[الحديد:22]، وقال تعالى (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) وقال عز وجل (وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)[البقرة:156].

وقال صلى الله عليه وسلم: "أَيُّما أحدٍ أُصِيبَ بمصيبةٍ، فلْيَتَعَزَّ بمصيبتِه بي عن المصيبةِ التي تُصِيبُه بغيري"(حديث صحيح).

اصبر لكل مصيبة وتجلـَّـــدِ

واعلمْ بأنَّ المرءَ غيرُ مخلَّدِ

وإذا ذكرتَ محمَّداً ومصابــَـه

فاذكرْ مصابَك بالنبيِّ محمدِ

قال صلى الله عليه وسلم: قال الله: "ما لعبدي المؤمن جزاءٌ إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة"(رواه البخاري).

فيا أيها المصابون: عليكم من الله الرحمات عدد ما سكبتم من العبرات وكظمتم من الأنَّات، جعل الله مصابكم من الباقيات الصالحات، وأمَّنكم من الفزع يوم تنشر السجلات، وكتب لنا ولكم السعادة في الحياة والممات، واللهُ مقدّرُ الأقدار رحيمٌ تنوعت رحمته -سبحانه وبحمده-؛ يرحمُ العبد فيعطيه ثم يوفِّقُه للشكر، ويبتليه ثم يُوفقه للصبر، ويُكفِّرُ بالبلاءِ ذنوبَه وآثامَه، وكلما كان إيمانُه بالله أقوى عظُمَ بلاؤُه قال صلى الله عليه وسلم: "يُبتلَى المرءُ حسبَ دينهِ فإن وُجد في دينه رقةً خُفّف عنه، وإن وُجد قوة زيد في بلائه"(رواه الترمذي)؛ فالابتلاءُ تطهيرٌ للعبد من ذنوبه حتى يأتيَ يومَ القيامة وما عليه خطيئة كما في الحديث؛ فاصبروا على ما أصابكم وما فقدتم، واعلموا أنكم على خير.

أيها الأحبة: عند فقد عزيزٍ وموت إنسانٍ كريم يبحث أحباؤه وذووه كيف يُعوّضون موتَه وفقْدَه ذاك، والحمد لله أن دينَ الإسلام وجهنا وعلمنا فلسنا وثنيين لا يهتمون ولا هندوسيّين يُحرقون أو أصحابَ خرافاتٍ يُحرِّفون، والموفّقُ مَنْ يكون صبره على المصائب يعوّض فقْده المؤلم للأحباب بأن يُقدَّمَ لنفسِه ولهم عملاً صالحاً يعوّض به فقدهم ويصبرُ على مصابهم!! والفرص عظيمة والأجور كثيرة والعبادات متنوعة -بحمد الله-؛ جبراً للمصاب عند فقد الأحباب.

وهناك أعمالٌ تُعوّضُ مصاب الفقد وتجلبُ الأجر؛ كالدعاءُ للميت وما أدراك ما الدعاء؟! فإنه ينفع الميَّتَ عزيزاً ويداوي الحزنَ كثيراً؛ فيا أيها المكروب خاصة وأيُّها الناسُ عامة: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً)[الأعراف:55]؛ ففيه المطمع وإليه المفزع.. لا إله إلا هو يجبر كسركم، ويبدّدُ أحزانكم، ويؤنسكم في وحشتكم؛ فالدعاءُ رفعةٌ لدرجات الميّت قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ.. أَنَّى لِي هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ"(رواه أحمد).

وبالدعاء تُحقِّقُون وصف الصلاح؛ كما في الحديث: "ولدٌ صالح يدعو له"؛ فتأمل وصف "ولد صالح"، وأكثر من الدعاء لوالديك ولمن تحب وفقدت؛ فذلك من أعظم القربات لك والحسنات لهم، وهو أفضل من حزن وبكاء لا يقدم ولا يؤخر بل يؤذي الميت، وإذا فقدتُّم غالياً وعزيزاً؛ فاستمرُّوا على ما تميّز به من خصالٍ ومآثر وصلة وتواصل؛ فهذا كما أنه حقٌ له وردٌ لجميله فإنه يُديم ذكره الطيب والذكرُ الحسنُ للإنسان عمرٌ ثاني، وكما يقول الناس: "مَنْ أرّثَ ما مات".

وكذلك واجباتُه أداء الحقوق التي عليه؛ كسداد الديون وأداء الحج المتوجّب والكفّارات وسائر العبادات، ومن البرِّ به صلةُ مع أهل مودته قال رجلٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله هلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ فقَالَ: "نَعَمْ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا"(أخرجه أبو داود).

وأمرٌ منهم يحتاجه الميّت كثيراً بمسامحته، والصفح عمّا بدر منه في الدنيا والتحلُّلِ منه قبل موته لمن أخطأ عليه، وانتبهوا أيها الأولاد وأنتم يامن قاطعتم قرابتكم فمغفرة الله واسعة ورحمته شاملة وعفوه عظيم؛ لكنه لا يتجاوز في حقوق الخلق وظلمهم والتعدي عليهم؛ فحتى الحيوان له حقوق قال صلى الله عليه وسلم: "لتؤدُّنَّ الحقوقَ إلى أهلِها يوم القيامة حتى يُقاد للشاةِ الجلحاء من الشاة القرناء"(رواه مسلم).

كذلك قدّموا الأعمال الصالحة والمشاريع الخيرية لكم ولأمواتكم؛ فذلك العزاء والوفاء فعلاً فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر سعداً أن يتصدّق عن أمه بعد موتها، وبين أن أفضل الصدقة للميت سقيا الماء؛ فالصدقة نافعة للميت خاصةً الصدقةُ الجارية الممتد نفعها، وليست بالضرورة أن تكون بناء مسجد مع ما فيه من خيرٍ عظيم، ولكن يمكن أن تتنوع الصدقات بين نفع المرضى والمعاقين، وتسوية الطريق للمسلمين، وحماية البيئة والتعليم والدعوة وخدمة المجتمع، وذلك خيرُ ما يواسي به المرء نفسه ويعزّيها بفقد مَن يُحب.

أيها الأحبة: ولنا في مصاب فقد الأحباب قدوةٌ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه، فجعلت عيناه تذرفان، فلما سئل قال: "إنها رحمة وإن العين لتدمع وإن القلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب"، وقال: "إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا اللسان ويرحم"(متفق عليه).

وأمُّ سلمة -رضي الله عنها- سمعْت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبدٍ تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها"، فلما توفي أبو سلمة قالت: ومن خيرٌ من أبي سلمة؟ ثم قالت فتزوَّجت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-!!ومن خير من رسول الله؟.

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يموت لأحدٍ من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم"، وأتت امرأة إليه بصبيٍ لها فقالت: يا رسول الله ادعُ الله له فلقد دفنت ثلاثةً قبله، فقال صلى الله عليه وسلم.. "دفنت ثلاثة؟!" -مستعظماً أمرها- قالت: نعم، قال: "لقد احتضرتِ بحضارٍ شديدٍ من النار"؛ أي احتمت منها (رواه مسلم) وفي البخاري قال صلى الله عليه وسلم: "ما لعبدي المؤمن جزاءٌ إذا قبضتُ صفية ثم احتسب إلا الجنة".

فيا رب أنت حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله كثيراً وأولاً وأخيراً.. ارزقنا الصبر والاحتساب على ما ابتلينا من المصاب، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة من كل شر.

أقول ما تسمعون ..

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:

أيها الإخوة: نتذكر بفقد الأحباب أهميةَ العزاء؛ لتصبير أهله، والكلمة الطيبة صدقة، والمؤمن قليلٌ بنفسه كثيراً بإخوانه، وواجب التعزية به أجرٌ عظيم إذا وافقت الشرع والعقل واتبعنا فيه رسولنا الأكرم -صلوات الله وسلامه عليه- الذي حثَّ على التعزية، وأخبر أنها تكسي المؤمن من حُلل الكرامة يوم القيامة وعزَّى المصابَ قائلاً: "لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بأجلٍ مسمى فاصبر واحتسب" هكذا هدي النبي؛ فما بالنا اليوم نرى من يخالفون ذلك في التشييع للجنائز والتعزية؛ إما بالمزاحمة، أو التقبيل والبكاء والعويل، أو ممن نراهم في المقابر كأنهم يتنزهون، وربما يغتابون ويضحكون وهم لا يعتبرون، وربما على المقابر يدوسون؛ فهل هذا من حقِّ الميّت وسنن الجنائز؟!

كذلك رسالة لأهل الميت إذا كان أسهل للناس العزاء بالمنزل فاجلسوا له بلا تكلّف ولا إسراف، ونبهوا النساء والعوائل من البكاء والنحيب، واتركوا ما لم يرد في السنة؛ كقراءة القرآن على القبور، وما يسمى بالأربعين وغيرها من البدع والمحدثات، وأظهروا الصبر على المصاب تؤجروا.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، واغفر لجميع موتى المسلمين، واجعل قبورهم من الجنة رياضاً، وزد في حسناتهم وتجاوز عن سيئاتهم يا أرحم الراحمين.