البحث

عبارات مقترحة:

الواسع

كلمة (الواسع) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَسِعَ يَسَع) والمصدر...

المليك

كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...

الوكيل

كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...

آية الشيب

العربية

المؤلف عبد الله بن محمد الطيار
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - المنجيات
عناصر الخطبة
  1. عظم آية الشيب .
  2. الشيب بداية مرحلة الضعف وقرب الأجل .
  3. فضل الشيب .
  4. حقوق أهل المشيب .
  5. عظة للشباب وأهل الشيب .

اقتباس

فبينما الإنسانُ يعيشُ أيامَ شبابِهِ في أوجِ قوّتهِ، وعنفوانِ فتوتِه، ويؤمَّل طولَ بقائهِ في الدنيا، وقد ملأَ أيّامها نشاطًا وحيويةً، وتعلّق قلبُه بطول العمر؛ إذ ينقلب كل ذلك؛ فورقات شجرةِ عمرهِ تتهافت، وسنواتُها تتعاقبْ، وأحوالُه تتغيَّر، ويذبلُ عزُّه، ويبدأ ذُله، فيبيضُّ شعرُه، ويتجعَّدُ وجهُه، ويحدودبُ ظهرُه، وتهنُ حواسُّه، وتضعفُ ذاكرتُه، وتتغيَّر عافيتُه؛ فالشيبُ هو ناقوسُ...

الخطبة الأولى:

إنّ الحمدَ للهِ نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أمّا بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن التقوى طريقُ النجاة والفوز برضا الرحمن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].

عباد الله: لقد جعل اللهُ -تعالى- في خلقهِ آياتٍ عظيمةً، وبراهينَ عديدةً، تَظهرُ فيها قدرةُ وعظمةُ الخالق الجليل، وصدق الله -تعالى-: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)[فصلت: 53] وقال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)[النحل: 105].

ومن تلك الآياتِ الباهرةِ التي غفل عنها كثيرٌ من الناسِ آيةُ المشيبِ التي تصيبُ الإنسانَ في آخرِ سنواتِ عمرهِ، تلك الآيةُ التي ذكرها اللهُ -تعالى- في كتابهِ العزيزِ كما في قوله -جلّ وعلا- عن زكريا عليه السلام: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً)[مريم:4].

تلك الآيةُ العظيمةُ التي يُظهرِها اللهُ -تعالى- في كثيرٍ من خلقهِ ويغفلونَ عما وراءها من العبرِ والعظاتِ، والإنسانُ في هذهِ الدنيا يعيشُ بين ضَعْفَين، ضَعْفٌ في مبدأِ طفولتِهِ، ثم ضعفٍ وَوَهنٍ عند نهايتِهِ وشيخوختِه، وهذا الضعفُ والنقصُ المحاطُ به الإنسانُ، هو من جملةِ آياتِ اللهِ -تعالى- التي وضعها في خلقِهِ للاعتبارِ والتذكرِ؛ قال جلّ وعلا: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)[الروم:54]؛ فتعالوا بنا نقفُ مع ضعفٍ يسبقُنا، أو قد حلَّ ببعضِنا، مع الشيبِ والمشيبِ، وهمّهِ وهمومِه، وحلوهِ ومُرِّه، وعِبرِه وعَبَراتِهِ.

أيّها المؤمنون والمؤمنات: حياةُ الكهولةِ والمشيبِ محطةٌ لا بدّ منها لمنْ أمدَّ اللهُ في عمرِهِ، وأنسأَ لهُ في أثرِهِ، وهي حياةٌ تبعثُ على الإشفاقِ، والرأفةِ، والرحمةِ.

مرحلةٌ تحملُ في طيّاتها تغيرًا كثيرًا في الخلقةِ والطبعِ والطبائعِ.

تأمّلوا معي -عباد الله- عظيمَ قدرةِ اللهِ وصُنعهِ في عبدِه؛ فبينما الإنسانُ يعيشُ أيامَ شبابِهِ في أوجِ قوّتهِ، وعنفوانِ فتوتِه، ويؤمَّل طولَ بقائهِ في الدنيا، وقد ملأَ أيّامها نشاطًا وحيويةً، وتعلّق قلبُه بطول العمر؛ إذ ينقلب كل ذلك؛ فورقات شجرةِ عمرهِ تتهافت، وسنواتُها تتعاقبْ، وأحوالُه تتغيَّر، ويذبلُ عزُّه، ويبدأ ذُله، فيبيضُّ شعرُه، ويتجعَّدُ وجهُه، ويحدودبُ ظهرُه، وتهنُ حواسُّه، وتضعفُ ذاكرتُه، وتتغيَّر عافيتُه؛ فالشيبُ هو ناقوسُ الضعفِ، ونذيرُ الفناءِ، والعجزِ بعد القوّةِ، والعلةُ التي لا تبرأُ، والدليلُ على قربِ الرحيلِ.

وهو آيةٌ عظيمةٌ على قربِ نهايةِ عمر الإنسانِ، ومنتهى حياتِهِ، وصدقَ اللهُ -تعالى-: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ)[يس: 68].

وإذا شابَ المرءُ فقدْ أعذَرَه ربُّه بتعميرِه، وإمدادِهِ في فسحةِ حياتِهِ، وقد اشتدَّ عتابُ اللهِ على أقوامٍ عاشوا طويلاً، وامتدتْ حياتُهم، لكنّهم لم ينتفعوا بأعمارهمْ؛ قال تعالى: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)[فاطر: 37]، وقد فسَّره بعضُ العلماءِ بأنّه الشيبُ.

فأهلُ القلوبِ الحيَّةِ يعتبرون هذا الشيبَ نَذارةً من ربّهم؛ ليستعدوا بالعملِ، قبلَ حلولِ الأجلِ، فليسَ بعد هذا المشيبِ بضعفهِ ووهنهِ إلّا رذائلُ الأعمارِ، والانتقالُ من هذهِ الدّارِ.

عبادَ اللهِ: إنّ هذا المشيبَ، وإنْ جاءَ بالضعفِ والعجزِ والحزنِ، إلا أنّه يحملُ بين طياتِهِ الأجرَ العظيمَ، والثوابَ الجزيلَ، لمن تحلّى بالصبرِ، وآمن بالقضاءِ والقدرِ؛ فهو في حياتِه كلّها في خيرٍ، وعلى خيرٍ، يقولُ -صلى الله عليه وسلم-: "عجبًا لأمرِ المؤمنِ، إنّ أمرَهُ كلَّهُ خير، وليسَ ذاك لأحدٍ إلا للمؤمنِ، إن أصابتْهُ سرّاءُ شَكَرَ، فكانَ خيْرًا لهُ، وإنْ أصابتْهُ ضرّاءَ صبرَ، فكانَ خيْرًا لهُ"(رواه مسلم).

فأهلُ الشيبِ في الإسلامِ لهمْ من المكانةِ والفضلِ ما ليسَ لمنْ دونهمْ، فإنّ رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلّم- قَرَنَ إِجْلالَ اللهِ بإجلالِهِمْ ؛ قالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ مِنْ إجلالِ اللهِ -تعالى- إكرامَ ذي الشيبةِ المسلمِ"(رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وحسنه الألباني في سنن أبي داود).

وكافأهم أيضًا بحطِّ السيّئاتِ، وزيادةِ الحسناتِ، ورفعةِ الدرجاتِ ؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَنْتِفُوا الشّيْبَ فَإِنّهُ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشِيبُ شَيْبَةً فِي الإِسْلَامِ إلّا كتبَ اللهُ لهُ بِهَا حَسَنَةً وَحَطّ عنهُ بِهَا خَطِيئةً"(رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).

وأبدلهـم -سبحانه وتعالى- بهذا الشيبِ نورًا؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الِإسلامِ، كانتْ لهُ نورًا يومَ القِيَامةِ"(رواه ابن حبان بسند حسن).

وسُئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ النَّاسِ خيرٌ؟ قال: "مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ"، قال: فأيُّ النَّاسِ شرٌّ؟ قال: "منْ طالَ عُمْرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ"(رواه الترمذي، وصححه الألباني في سنن الترمذي)؛ فطوبى لمنْ شابَ رأسُهُ، وابْيّضَ شعرُهُ، وهو مستقيمٌ على طاعة رَبّهِ. قال الحسنُ البصريُّ: "أفضلُ الناسِ ثوابًا يومَ القيامةِ المؤمنُ المعمَّرُ".

فإذا استقامتْ أحوالُ أهلِ المشيبِ وصلَحتْ أعمالُهم وحسُنت سيرتُهم؛ كانوا أقربَ النّاسِ إلى ربّهم -عزّ وجلّ-، وأهلاً للرحمةِ وإجابةِ الدعاءِ.

قال اللهُ -تعالى-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)[الروم:54].

باركَ اللهُ لي ولكُمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإياكمْ بما فيهِ من الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكمْ منْ كلِّ ذنْبٍ فاستغفروهُ؛ إنّهُ هو الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على فضلِهِ وإحسانِهِ، والشكرُ لهُ على توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ ومنْ سارَ على نهجِهِ إلى يومِ الدّينِ.

أمَا بعدُ:

فيا أيها المؤمنون والمؤمنات: اتقوا الله –تعالى-، واعلموا أن تقواه سبيل إلى نيل رضاه وجنته.

عباد الله: إنّ الشيبَ -وإنْ أَنِفَهُ بعضُ النّاس- يُعتبر عُنوانَ وَقارٍ وتَاجَ هيبةٍ ورمزَ إجلالٍ ورزانةٍ؛ فحرِيٌّ بمنْ ابيضّ عارضاهُ أنْ يحفظَ وقارَهُ وهيبتَه، وأن يبيّضَ صحيفتَهُ، وأنْ يكثرَ منْ حسناتِهِ.

فعلينا أن نُوقِّر أهل المشيبِ ونَحترمُهُمْ، وأنْ نُصغِي لحديثِهِم، وأنْ نَقضي حَوائجهمْ، وأن نُقدّمهم في المجالسِ؛ لما روي عنْ أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جاء شيخ غريب يريد النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فأبطأَ الناسُ أنْ يُوسِّعوا له، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "ليسَ منّا مَنْ لمْ يرحمْ صغيرَنا، ويوقّر كبيرَنا"(رواه الترمذي، وصححه الألباني في جامع الترمذي).

ولما روي أيضًا عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ مِنَ الشّجَرِ شجرةً لا يسقطُ ورقُهَا وهو مثلُ المؤمنِ حدّثُوني ما هي؟"، قال عبدُ الله: فوقعَ النّاسُ في شجرِ البوادي ووقعَ في نفسي أنّهَا النّخْلةُ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هي النخلةُ"، فاستحييت أنْ أقول. قال عبد الله: فحدّثت عمرَ بالذي وقعَ في نفسي، فقال: لأنْ تكونَ قلتَهَا أحبُّ إليَّ منْ أنْ يكونَ لي كذا وكذا"(رواه الترمذي، وصححه الألباني في جامع الترمذي).

وإنّي في مقامي هذا أخاطبُ شبابنَا ممنْ لم يروا المشيب، وأقول لهم: اعتبروا بغيرِكم، واتّعِظُوا بما ترونهُ أمامَ أعينِكُمْ، واعلموا أنّ زمنَ الصِّبا والفُتُوَّةِ ظِلٌّ زائل وبستانٌ ذابل، وتذكّروا أنّ زمنَ المشيبِ قريبٌ، وأنّ العمرَ يمضي والسنوَن تنقضي؛ فاملؤوا رصيدكم بالأعمالِ الصالحةِ، واستعينوا بقوّتكمْ على الإكثارِ من الحسناتِ، ولا تخدعنَّكم الدنيا بزخرفِها.

وتذكَّرْ -يا من علاكَ الشيبُ- أن الفُسحةَ في العمرِ نعمةٌ كبيرةٌ يمنُّ الله بها على عبادهِ؛ فاستثمرْ هذه النّعمةَ فيما يُرضي ربَّكَ ويُعلِي منزلتَك، واستدرِك ما فاتَ بالاستعدادِ لما هو آتٍ. لتكنْ شعراتُ شيبكَ تؤزُّكَ للإِنابةِ إلى ربّك أزًّا، وتحرّك مشاعرَ النّدم في نفسِك على تقصيرك، وتضييعِ عمرِك فيما لا ينفعُ؛ فليس فيما بقي من العمر أطولُ مما فاتَ؛ فبادرْ بالتوبةِ والعمل بقيّة أيامك قبل أن تبادرك المنون، واجعل مسك ختام العمر طاعة وتقوى، صلاة وصيامًا، وصدقة واستغفارًا، سلِّ الله حُسن الخاتمة، واعلم أن من عاش على شيء مات عليه، وأن الأعمال بالخواتيم.

أسأل الله -جل وعلا- أن يبارك لنا في شيوخنا وكبارنا، وأن يثبِّتنا وإياهم على الإيمان، وأن يزيدهم إحسانًا وتقى، وأن يُلبسهم لباسَ الصحة والعافية.

وأسأله جل وعلا أن يجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمهـا، وخير أيامنا يوم نلقاه؛ إنه سميع قريب مجيب.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:٥٦].