البحث

عبارات مقترحة:

الفتاح

كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...

الودود

كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...

اللطيف

كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...

النظر إلى المحرمات (3) أضرار إطلاق البصر في المحرم

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. ابتلاء النظر إلى المحرمات ابتلاء عظيم .
  2. أضرار النظر إلى المحرمات .
  3. وجوب مراقبة الله تعالى في السر والعلانية .

اقتباس

وَلْيَعْلَمْ كُلُّ مُبْتَلًى بِإِطْلَاقِ بَصَرِهِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ أَنَّ لَذَّةَ الِانْتِصَارِ عَلَى الشَّهْوَةِ أَعْظَمُ مِنْ لَذَّةِ الشَّهْوَةِ، وَأَنَّ الْكَفَّ عَنْ رُؤْيَةِ الْمُحَرَّمِ؛ طَاعَةً لِلَّهِ -تَعَالَى- وَخَوْفًا مِنْهُ؛ أَكْثَرُ سُرُورًا لِلْقَلْبِ مِنْ سُرُورِهِ بِشَهْوَةٍ عَابِرَةٍ يَعْقُبُهَا أَلَمُ النَّدَمِ وَالتَّسَخُّطِ وَالتَّشَكِّي...

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ؛ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الْمُلْكِ: 14]، نَحْمَدُهُ فَهُوَ أَهْلُ الْحَمْدِ كُلِّهِ، وَنَشْكُرُهُ فَلَا أَحَدَ أَحَقُّ بِالشُّكْرِ مِنْهُ؛ خَلَقَنَا مِنَ الْعَدَمِ، وَأَفَاضَ عَلَيْنَا النِّعَمَ، وَهَدَانَا لِمَا يُصْلِحُنَا، وَدَفَعَ عَنَّا مَا يَضُرُّنَا، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ رَبٌّ اسْتَحَقَّ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ لِذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ؛ وَلِإِنْعَامِهِ عَلَى الْخَلْقِ وَإِفْضَالِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَلَا رَبَّ لَنَا سِوَاهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ لَا خَيْرَ إِلَّا دَلَّنَا عَلَيْهِ، وَلَا شَرَّ إِلَّا حَذَّرَنَا مِنْهُ، تَرَكَنَا عَلَى بَيْضَاءَ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ رَقِيبٌ عَلَيْكُمْ، مُحِيطٌ بِكُمْ، عَلِيمٌ بِأَفْعَالِكُمْ وَخَطَرَاتِكُمْ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْكُمْ (إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 54].

أَيُّهَا النَّاسُ: لَمْ يُبْتَلَ الْعِبَادُ فِي هَذَا الزَّمَنِ بِشَيْءٍ كَابْتِلَائِهِمْ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَإِنَّهَا تَمْلَأُ كُلَّ مَكَانٍ؛ حَيْثُ الشَّاشَاتُ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَسْوَاقِ وَالْمَقَاهِي وَالْمَطَاعِمِ وَالْمَطَارَاتِ، وَحَيْثُ الْأَجْهِزَةُ الْجَوَّالَةُ فِي الْجُيُوبِ وَالْأَيْدِي لَا تَكَادُ الْأَعْيُنُ تَطْرِفُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، وَهِيَ آخِرُ مَا يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهِ قَبْلَ نَوْمِهِمْ، وَأَوَّلُ مَا يَسْتَقْبِلُونَهُ فِي صُبْحِهِمْ، وَفِيهَا مَا فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ، الثَّابِتَةِ مِنْهَا وَالْمُتَحَرِّكَةِ، حَتَّى أَلِفَ النَّاسُ تَنَاقُلَهَا، وَلَمْ تَعُدْ أَبْصَارُهُمْ تَسْتَنْكِرُهَا، وَلَا قُلُوبُهُمْ تَنْقَبِضُ مِنْهَا.

هَذَا عَدَا مَا يُشَاهِدُهُ الْمَرْءُ مِنْ تَسَاهُلِ كَثِيرٍ مِنَ النِّسَاءِ فِي اللِّبَاسِ وَالْحِجَابِ حَتَّى غَدَا كَثِيرٌ مِنْهُنَّ فِتْنَةً تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، تَدْعُو الرِّجَالَ إِلَى النَّظَرِ لِزِينَتِهَا وَجِمَالِهَا وَفِتْنَتِهَا، وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  قَالَ: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ" (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). وَصَدَقَ أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَإِنَّ النَّظَرَ إِلَى النِّسَاءِ مُبَاشَرَةً أَوْ عَبْرَ الشَّاشَاتِ يَعْجِزُ أَكْثَرُ الرِّجَالِ عَنِ التَّخَلُّصِ مِنْهُ، وَالْفِطَامِ عَنْهُ. نَاهِيكُمْ عَمَّا يُعْرَضُ فِي الشَّاشَاتِ مِنْ مُشَوِّقَاتٍ لِلنَّظَرِ الْمُحَرَّمِ تَصِلُ بِالْمُتَسَاهِلِ فِيهِ إِلَى حَدِّ النَّظَرِ إِلَى الْعَرَايَا، وَإِلَى الزِّنَا وَالشُّذُوذِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ -تَعَالَى- مِنْ ذَلِكَ.

وَالنَّظَرُ الْمُحَرَّمُ يَفْتِكُ بِقَلْبِ صَاحِبِهِ، وَيَأْكُلُ مِنْ دِينِهِ بِحَسَبِهِ، وَيَنْخُرُ إِيمَانَهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ" (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). وَمَنْ رَأَى كَثْرَةَ الْمَعْصِيَةِ بِالنَّظَرِ الْمُحَرَّمِ فِي هَذَا الزَّمَنِ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، فَقَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْلَمُ مِنْ زِنَا النَّظَرِ.

وَمِنْ أَضْرَارِ النَّظَرِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ: أَنَّهُ فِتْنَةٌ، وَقَدْ يَجُرُّ النَّاظِرَ إِلَى فِتَنٍ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ النَّظَرِ، وَلَمَّا كَذَبَ أَبُو سَعْدَةَ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي مَظْلَمَةٍ ادَّعَاهَا؛ دَعَا عَلَيْهِ سَعْدٌ بِأَنْ يُعَرِّضَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- لِلْفِتَنِ، فَاسْتُجِيبَ لِسَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِيهِ، وَكَانَ يَقُولُ عَنْ نَفْسِهِ: "شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قَالَ الرَّاوِي: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ". فَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي أَصَابَتْهُ هِيَ تَعَرُّضُهُ لِلنِّسَاءِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِتْنَةٌ وَعُقُوبَةٌ فِي آنٍ وَاحِدٍ.

وَكَانَ عَابِدٌ مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُصَلِّي فِي صَوْمَعَتِهِ فَنَادَتْهُ أُمُّهُ فَلَمْ يُجِبْهَا لِأَنَّهُ فِي صَلَاةٍ، فَدَعَتْ عَلَيْهِ قَائِلَةً: "اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: لَأَفْتِنَنَّ جُرَيْجًا، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَكَلَّمَتْهُ، فَأَبَى" (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). فَاسْتُجِيبَ لِأُمِّهِ فِيهِ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ مُومِسٌ فِي صَوْمَعَتِهِ وَرَآهَا، وَأَخْبَرَتْ بِأَنَّهَا تَقْصِدُ فِتْنَتَهُ فَقَالَتْ: "لَأَفْتِنَنَّ جُرَيْجًا" لَكِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- نَجَّاهُ مِنْ فِتْنَتِهَا بِعِفَّتِهِ وَصَلَاحِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَيُحَدِّثُنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَذِهِ الْقِصَّةِ؛ لِنَعْلَمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ وَلَوْ كَانَتْ مُومِسًا فَهِيَ فِتْنَةٌ لِلْعَابِدِ الصَّالِحِ. وَعَجِيبٌ أَنْ يَدْعُوَ سَعْدٌ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ بِأَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْفِتَنِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ وَفُتِنَ ظَالِمُهُ بِالنِّسَاءِ، وَعَجِيبٌ أَنْ تَدْعُوَ أُمُّ جُرَيْجٍ عَلَى ابْنِهَا لَمَّا لَمْ يُجِبْهَا بِأَنْ يَرَى وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَتِلْكَ الدَّعَوَاتُ عُقُوبَاتٌ عَلَى مَنْ أَصَابَتْهُمْ، ثُمَّ نَجِدُ مِنْ شَبَابِ الْمُسْلِمِينَ، وَرُبَّمَا مِنْ كُهُولِهِمْ مَنْ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ لِهَذِهِ الْفِتَنِ وَالْعُقُوبَاتِ، وَيَبْحَثُ فِي جِهَازِهِ عَنْ صُوَرِ الْمُومِسَاتِ وَأَفْلَامِهِنَّ، وَيَخْلُو فِي غُرْفَتِهِ لِيَسْتَمْتِعَ بِعِهْرِهِنَّ وَفَوَاحِشِهِنَّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ فِتْنَةٌ قَدْ دُعِيَ بِفِتْنَتِهِنَّ عَلَى أُنَاسٍ فَأَصَابَتْهُمْ!! مِمَّا يَعْنِي أَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ عُقُوبَةٌ تُصِيبُ صَاحِبَهَا، وَمَعَ كَوْنِهَا عُقُوبَةً فَهِيَ إِثْمٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعُقُوبَةَ، وَلَوْ عَلِمَ الْمُطْلِقُونَ أَبْصَارَهُمْ فِي الْمُحَرَّمَاتِ خَطَرَ ذَلِكَ لَكَفُّوا وَغَضُّوا أَبْصَارَهُمْ؛ إِذْ كَيْفَ يَسِيرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ إِلَى عُقُوبَةٍ تَجُرُّ إِلَى عُقُوبَةٍ.

وَمِنْ أَضْرَارِ النَّظَرِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ: مَا يُحْدِثُهُ فِي الْقَلْبِ مِنْ فَجْوَةٍ وَقَسْوَةٍ؛ إِذْ يَشْغَلُ بَالَهُ بِمَا رَأَى مِنَ الصُّوَرِ وَالْأَفْلَامِ، فَيُلْهِيهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَمَصَالِحِهِ؛ فَإِمَّا بَلَغَ مَا يُرِيدُ مِنَ الْمُحَرَّمِ فَوَقَعَ فِي كَبِيرَةٍ مِنَ الْكَبَائِرِ، لَا عَافِيَةَ لَهُ مِنْهَا إِلَّا بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ، وَإِمَّا مَرِضَ قَلْبُهُ بِمَا رَأَى فَأَضْحَى طَرِيحَ الْغَرَامِ، أَسِيرَ الْخَيَالِ، مُنْشَغِلَ الْبَالِ، مُعْتَزِلَ النَّاسِ، شَارِدَ الذِّهْنِ، حَتَّى يَفْتِكَ بِهِ الْهَوَى، يَمْضِي لَيْلَهُ فِي خَيَالَاتٍ تَضُرُّهُ وَلَا تَنْفَعُهُ، وَلَمْ يَنَلْ مِنْ نَظْرَتِهِ شَيْئًا سِوَى السَّقَمِ وَالضَّيَاعِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "مَا كَانَ مِنْ نَظْرَةٍ فَلِلشَّيْطَانِ فِيهَا مَطْمَعٌ، وَالْإِثْمُ حَوَازُّ الْقُلُوبِ"؛ أَيْ: إِنَّ الْإِثْمَ يَحُوزُ الْقُلُوبَ وَيَتَمَلَّكُهَا، وَيَغْلِبُ عَلَيْهَا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "كَمْ نَظْرَةٍ أَلْقَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا الْبَلَابِلَ".

وَمِنْ أَضْرَارِ النَّظَرِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ: أَنَّ الْعَبْدَ يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[الْإِسْرَاءِ: 36]، وَيَشْهَدُ الْبَصَرُ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا كَانَ يُشَاهِدُ، وَيَشْهَدُ السَّمْعُ بِمَا كَانَ يَسْمَعُ (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[فُصِّلَتْ: 20]. فَحَرِيٌّ بِمَنْ كَانَ مَسْئُولًا عَنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَهُمَا شَاهِدَانِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُشَاهِدَ وَلَا يَسْمَعَ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّهُ -سُبْحَانَهُ-، وَأَنْ يُجَانِبَ مَا يُسْخِطُهُ مِنْ مُشَاهَدٍ وَمَسْمُوعٍ؛ لِيَنْجُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَإِذَا ضَعُفَ فَوَقَعَ فِي مُشَاهَدَةِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ الْمُحَرَّمَةِ فَلْيُبَادِرْ بِالتَّوْبَةِ، وَلْيَمْحُ أَثَرَ الذَّنْبِ بِالْحَسَنَاتِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ وَذِكْرٍ وَاسْتِغْفَارٍ وَدُعَاءٍ (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)[هُودٍ: 114].

هَذَا؛ وَلْيَعْلَمْ كُلُّ مُبْتَلًى بِإِطْلَاقِ بَصَرِهِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ أَنَّ لَذَّةَ الِانْتِصَارِ عَلَى الشَّهْوَةِ أَعْظَمُ مِنْ لَذَّةِ الشَّهْوَةِ، وَأَنَّ الْكَفَّ عَنْ رُؤْيَةِ الْمُحَرَّمِ؛ طَاعَةً لِلَّهِ -تَعَالَى- وَخَوْفًا مِنْهُ؛ أَكْثَرُ سُرُورًا لِلْقَلْبِ مِنْ سُرُورِهِ بِشَهْوَةٍ عَابِرَةٍ يَعْقُبُهَا أَلَمُ النَّدَمِ وَالتَّسَخُّطِ وَالتَّشَكِّي، قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْوَرَّاقُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ مُحَرَّمٍ أَوْرَثَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ حِكْمَةً عَلَى لِسَانِهِ يَهْتَدِي بِهَا وَيَهْدِي بِهَا إِلَى طَرِيقِ مَرْضَاتِهِ".

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَهْدِيَنَا وَالْمُسْلِمِينَ لِمَا يُرْضِيهِ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا مَا يُسْخِطُهُ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].

أَيُّهَا النَّاسُ: الْعَبْدُ قَدْ يَسْتَخْفِي مِنَ النَّاسِ، وَيَكْرَهُ اطِّلَاعَهُمْ عَلَى مَا يَرَى، وَيَخْلُو بِنَفْسِهِ، وَيُغْلِقُ الْأَبْوَابَ، وَيُرْخِي السُّتُورَ؛ لِئَلَّا يَرَاهُ فِي خَلْوَتِهِ مَعَ الْمُحَرَّمِ أَحَدٌ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، أَيْنَ يَخْفَى مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَمِنْ مَلَائِكَتِهِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)[غَافِرٍ: 19]، (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)[الِانْفِطَارِ: 10-12]، (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)[النِّسَاءِ: 108]؛ أَيْ: يَسْتَتِرُونَ مِنَ النَّاسِ حَيَاءً مِنْهُمْ، وَخَوْفًا مِنْ ضَرَرِهِمْ، وَلَا يَسْتَحْيُونَ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- وَهُوَ عَالِمٌ بِهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ، لَا يَخْفَى عَنْهُ -تَعَالَى- شَيْءٌ مِنْ أَسْرَارِهِمْ، وَكَفَى بِهَذِهِ الْآيَةِ نَاعِيَةً عَلَى النَّاسِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ قِلَّةِ الْحَيَاءِ وَالْخَشْيَةِ مِنْ رَبِّهِمْ، مَعَ عِلْمِهِمْ -إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ- أَنَّهُمْ فِي حَضْرَتِهِ لَا سُتْرَةَ وَلَا غَفْلَةَ وَلَا غَيْبَةَ، وَلَيْسَ إِلَّا الْكَشْفُ الصَّرِيحُ وَالِافْتِضَاحُ. وَعَلَى الْمُتَسَاهِلِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَكُونَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ، فَيَسْتَحِيَ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ-، وَيَتْرُكَ الْمُحَرَّمَ طَاعَةً لَهُ.

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: وَبَعْدَ أَيَّامٍ قَلَائِلَ يَهُلُّ رَمَضَانُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ شَهْرُ خَيْرٍ وَطَاعَةٍ وَبَرَكَةٍ، وَفُرْصَةٌ لِمَنْ قَارَفَ الْمَعَاصِيَ وَالْمُحَرَّمَاتِ أَنْ يَتُوبَ مِنْهَا الْآنَ، وَيُقْلِعَ عَنْهَا فَوْرًا، وَيَنْدَمَ عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا، وَيَعْزِمَ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ لَهَا، وَيَسْتَقْبِلَ رَمَضَانَ بِهَذِهِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ؛ فَإِنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ أَدْرَكَهُ بِقَلْبٍ تَائِبٍ مُنِيبٍ مُقْبِلٍ عَلَى الطَّاعَاتِ، فَسَهُلَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمُرَ رَمَضَانَ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ -تَعَالَى-، وَيَتَزَوَّدَ فِيهِ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ. وَإِنْ قَضَى قَبْلَ رَمَضَانَ قَابَلَ اللَّهَ -تَعَالَى- بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ أَزَالَتْ آثَارَ مَا قَارَفَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ. وَمَنْ قَابَلَ رَبَّهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ أَحَبَّ اللَّهُ -تَعَالَى- لِقَاءَهُ، وَتَقَبَّلَهُ فِي عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النُّورِ: 31].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...