الباسط
كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...
العربية
المؤلف | فيصل بن جميل غزاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ومما يُعين على البُعْد عن الملل والفتور: قِصَرُ الأملِ وتذكُّر الآخرةِ، وهذا من أعظم المنقِذات للهِمَّة، ومن أكبر البواعث على الإقبال على الله، فيدرك المرءُ أن الدنيا مزرعة للآخرة، وفرصة لكسب الأعمال الصالحة، كما أنه لا بد للمرء من دافع قويّ يُنَشِّطه ويدفعه إلى عبادة ربه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله خالق الكون، وباري البَرِيَّات، ومقسِّم الأرزاق والأقوات، ومانح العطايا والهبات، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعطي من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بحكمته، لا مانع لِمَا أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، رضي بما أعطاه الله، وقنع بما كُتِبَ له، وكان شاكرا في السراء، صابرا في الضراء، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-؛ فتقواه تُعصَمون من الضلالة، وتُحفَظون من الغواية، وتنالون عز الدنيا وسعادة الآخرة.
أيها المسلمون: إن معايش العباد وأرزاقهم الدنيوية وأعطياتهم في الحياة بيد الله وحده، وهو الذي يقسمها بين عباده، قال تعالى: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)[الرَّعْدِ: 26]، قال البغوي -رحمه الله-: "أي: يُوَسِّع على مَنْ يشاء، ويُضَيِّق على من يشاء، وله الحكمة والعدل التام، ومن حكمته -سبحانه- أن فاوت بين الناس في أرزاقهم، واختلف عطاؤه من عبد إلى آخَرَ، فيعطي هذا ما يمنعه غيرَه، والعكس".
وقد لا يُدرك المرءُ النعمَ التي أنعمها الله عليه، فلا يراها شيئًا، وقد يؤدي به ذلك إلى الملل والسآمة والضجر، فيريد أن يتحول عنها إلى غيرها، ولنا في الماضين عبرة وعظة، فبنو إسرائيل الذين طلبوا من نبي الله موسى -عليه السلام- أن يكون لهم طعام بدلا من المَنِّ والسلوى الذي لم يعودوا يصبرون عليه، بل ملوا فاستبدلوا بذلك ما هو أدنى؛ من البقول والقثاء والفوم والعدس والبصل، فتحولوا عن خير الأطعمة وأشرفها إلى ما طلبوا من الأدنى.
وقوم سبأ الذين أدَرَّ اللهُ عليهم النعم، وصرف عنهم من النقم، وقد رزقهم الله الجنتينِ العظيمتينِ وما فيهما من الثمار، وجعل بلدَهم طيبةً لحُسْن هوائها، وقلة وَخَمِها، وحصول الرزق الرغد فيها، بدلا من أن يشكروا الله بَطِروا النعمة وملوها حتى طلبوا أن تتباعد أسفارهم بين تلك القرى التي كان السير فيها متيَسِّرًا، فملوا حتى الأمن والأمان الذي كانوا فيه، فعاقَبَهم اللهُ فأرسل عليهم سيلَ العَرِم الذي خرَّب السدَّ وأتلف جناتِهم؛ فتبدَّلت تلك الجناتُ ذاتُ الحدائق المعجبة، والأشجار المثمرة، وصار بدلها أشجار لا نفع فيها.
معاشر المسلمين: إن الملل من نعمة الله آفة عظيمة قد يخسر العبدُ بسببها ما هو فيه، ويصبح في حال يتمنَّى لو أن قد رضي بما كان عليه، يقول ابن القيم -رحمه الله- متحدثًا عن هذه الآفة: "مِنَ الآفات الخفية العامة أن يكون العبد في نعمة أنعم الله بها عليه، واختارها له، فيملها ويطلب الانتقال منها إلى ما يزعم -لجهله- أنه خير له منها، وربه -برحمته- لا يُخرجه من تلك النعمة، ويعذره بجهله وسوء اختياره لنفسه، حتى إذا ضاق ذَرْعًا بتلك النعمة وسَخِطَها وتَبَرَّمَ بها واستحكم ملله لها سلبه اللهُ إياها، فإذا انتقل إلى ما طلبه ورأى التفاوتَ بين ما كان فيه وما صار إليه اشتد قلقُه وندمُه وطلب العودةَ إلى ما كان فيه، فإذا أراد الله بعبده خيرًا ورشدًا أشهده أن ما هو فيه نعمة عليه، ورضَّاه به، وأوسعه شكرَه عليه".
نَعَمْ -عباد الله-: إن من الناس من لا يشعر بقدر النعمة التي هو فيها فما أكثرَ ما يشكو، وما أكثرَ ما يتضجر، عن عبد الله بن أبي نوح قال: قال لي رجل على بعض السواحل: "كم عاملتَه تبارَكَ اسمُه بما يكره فعامَلَكَ بما تُحِبُّ؟ قلتُ: ما أُحصي ذلك كثرةً. قال: "فهل قصدتَ إليه في كربكَ فخَذَلَكَ؟ قلتُ: لا واللهِ، ولكنه أحسن إلي فأعانني. قال: فهل سألتَه شيئًا قطُّ فأعطاكَ؟ قلتُ: وهل منعني شيئًا سألتُه؟ ما سألتُه قطُّ إلا أعطاني، ولا استغثتُ به إلا أغاثني. قال: أرأيتَ لو أن بعض بني آدم فعل به هذه الخلال. ما كان جزاؤه عندكَ؟ قلتُ: ما كنتُ أَقْدِرُ له على مكافأة ولا جزاء، قال: فربُّكَ أحقُّ وأحرى أن تُدني نفسَكَ له في أداء شكر نعمته عليه، وهو المحسن قديما وحديثا إليكَ، واللهُ لشكره أيسرُ من مكافأة عباده، إنه -تبارك وتعالى- رضي بالحمد من العباد شكرا".
فالواجب علينا -عباد الله- أن نحمد الله دائما على كل حال، تَحَدُّثًا بنعمة الله، وإظهارًا لشكره، فقد روى الطبرانيُّ عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجل: "كيف أصبحتَ يا فلانُ؟ قال: أحمدُ اللهَ إليكَ يا رسولَ اللهِ. فقال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "هذا الذي أردتُ منكَ". أي: إظهارَ الحمد والشكر والثناء.
ولَمَّا سُئِلَ ابنُ المغيرة -رضي الله عنه- "كيف أصبحتَ يا أبا محمد؟" قال: أصبحنا مُغْرَقِينَ في النعم، عاجزينَ عن الشكر، يتحبَّب إلينا ربُّنا وهو عنا غنيّ، ونتمقَّت إليه ونحن إليه محتاجون".
وهذا عمر بن العاص -رضي الله عنه- يقول: "لا أملُّ ثوبي ما وسعني، ولا أملُّ زوجتي ما أَحْسَنَتْ عِشْرَتي، ولا أملُّ دابتي ما حملتني، إن الملال من سيئ الأخلاق" وصدق -رضي الله عنه-؛ فالملال من سيئ الأخلاق وأقبح الخصال؛ إذ يجعل العبد يتنكر لنعمة الله عليه ويتسَخَّط ولا يرضى بما قسم اللهُ له من الرزق.
وما أسوأ أن يكون المرء في نعمة من الله وفضل فإذا به يمل النعمةَ ويبطرها، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وليس على العبد أضر من ملله لنعم الله، فإنه لا يراها نعمة، ولا يشكره عليها، ولا يفرح بها، بل يَسْخَطُها ويشكوها ويُعِدُّها مصيبةً، هذا وهي من أعظم نعم الله عليه، فأكثر الناس أعداء نعم الله عليهم، ولا يشعرون بفتح الله عليهم نعمه، وهم مجتهدون في دفعها وردها، جهلا وظلما، فكم سعت إلى أحدهم من نعمة وهو ساعٍ في ردها بجهده، وكم وصلت إليه وهو ساعٍ في دفعها وزوالها بظلمه وجهله، قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الْأَنْفَالِ: 53]".
فيا أيها المسلمون: ما بالُ أقوامٍ يَمَلُّون النعمةَ التي هم فيها، ويستصغرونها ويتطلعون إلى مَنْ فُضِّلَ عليهم في الدنيا، وقد يؤدي بهم الحالُ إلى حسد غيرهم، حتى يقول أحدهم: "لماذا كان فلان أفضل مني؟ ولِمَ أكون أقلَّ من غيري؟"، وإذا ظفر بنعمة واستمتع بها زمنا، قال مُستَقِلًّا لها مزدريا: "ما عندنا شيء غير هذا؟"؛ قد مل ما هو فيه من النعمة، فلا يشكر مولاه، ولا يقنع بما آتاه، أين هؤلاء من النظرة الحقيقية لمتاع الدنيا، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "انظُرُوا إلى مَنْ هو أسفل منكم، ولا تنظُرُوا إلى مَنْ هو فوقَكم؛ فهو أجدرُ ألَّا تزدروا نعمةَ الله عليكم"؛ -أي: أجدر أن يشكر المرء نعمة الله عليه إذا هو قَنِعَ بما أُعْطِيَ، ولم يمد عينيه لما مُتِّعَ به الآخرون، فالعبدُ حُرٌّ إن قَنِعَ، والحُرُّ عَبْدٌ إِنْ طَمِعَ.
وإنْ تَعْجَبْ -عبدَ اللهِ- فعجب حال مَنْ يريد أن يحظى بشيء لم يُكتب له، أو أن يغدق عليه من النعم ليكون في مستوى معيشيّ رفيع، فيصبح في رفاهية ورغد من الرزق، وبحبوحة من العيش، وما درى هذا المسكينُ أن القناعة لا يعدلها شيءٌ، فهناك مَنْ أصاب من هذه الدنيا حظًّا وافرًا، لكنه محرومٌ، لا يشعر بالقناعة والرضا أبدا، بل يطلب المزيدَ، وهناك مَنْ بُسِطَ له في الرزق وأوتي من أصناف النعم فبغى في الأرض ولم يشكر نعمةَ الله عليه فكانت وبالًا عليه.
أيها الإخوة: إن واقعنا اليومَ يشهد صورًا شتى من إصابة كثير من الناس بالملل، والشعور بالضيق والضجر، وهذا ينشأ عن ضَعْف صلة العبد بربه وطاعته له، وإعراضه عن منهجه، فمن تلك الصور الواقعية: سآمة بعض الناس من حياته عند الكِبَر؛ كحال الشاعر الجاهلي الكبير:
سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ | ثَمَانِينَ حَوْلًا لَا أَبَا لَكَ يَسْأَمِ |
وقد يحمله ذلك على أن يدعو على نفسه بالموت، وغاب عنه تحذيرُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من ذلك بقوله: "لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لي" (رواه البخاري، ومسلم).
ومن الناس من يعيش مع والديه أو أحدهما حياة سعيدة طيبة، بارًّا بهما محسنًا إليهما، فإذا كَبِرَا عافَ الحياةَ معهما وملَّ صحبتَهما وتنكَّر لهما وصار يعاديهما ويؤذيهما ويتضجر منهما ويُسمعهما من عبارات التأنيب ما يُؤلمهما ويجرح مشاعِرَهما، وينسى فضائِلَهما، وأيُّ عقوق أعظم من ذلك؟! ألم يعلم هذا الجاحدُ حقَّهما أن الله نهاه أن يسيء إليهما، قال الله -تعالى-: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا)[الْإِسْرَاءِ: 23]، فنهى الولدَ أن يَظهر منه ما يدل على التضجر من أبويه أو استثقال لهما، ومن الناس مَنْ يبدأ بتعلُّم القرآن أو الدروس الشرعية النافعة، ثم سرعان ما يصيبه المللُ، ويستطيل الطريقَ فلا يثبت بل يستعجل ويترك ما هو فيه، وينتقل إلى علم آخر دون تدرُّج، ومن غير منهجية في الطلب، ولا صبر ولا مصابرة.
ومنهم مَنْ يكون له دور عظيم في تعليم الناس وفي دعوتهم ونصحهم وتوجيهم وإرشادهم، فإذا طال عليه الأمدُ وشعر ألا فائدة من التكرار والاستمرار أو وجد في طريق دعوته مَنْ عاند واستكبر وامتنع عن قَبُول الحقِّ فيقطع رجاءه في انتفاعهم، وييأس من حالهم، فيمَلُّ ويترك مواصلةَ العمل دون أن يستشعر مكانة وشرف ما كان يقوم به.
ومنهم من يقوم بعمل خيري، يداوم على فعل بِرٍّ وقُرْبَة؛ كقضاء حوائج المسلمين، وإعالة فقراء محتاجين، أو تفريج كربات المعسرين، أو كفالة أيتام، أو السعي في الإصلاح بين الأنام، ثم لا يلبث أن يترك ذلك من غير عذر مانع قاهر، ولا سبب وجيه ظاهر، بل ملله وفتوره وسآمته أدَّتْ إلى أن ينقطع عن الخير الذي كان فيه، ويُحرم من الأجر الذي كان يناله ويجنيه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خاتم النبيين، حثَّنا على الجِدِّ والعمل، ونهانا عن السآمة والملل، اللهم صل وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله: علينا أن نثبت في طريق سيرنا إلى ربنا، ونحذر أن تنحرف بنا الوجهة عن طريق نجاتنا، ونحذر كذلك أن نمل النعمة والطاعة؛ وذلك يتأتَّى بأمور، هي من وسائل العلاج لدفع هذه الآفة العظيمة وإزالتها من النفس، منها:
تقوية الصلة بالله، وملازَمة العبد دعاءَ ربه؛ حتى يثبت ويواصل العمل، فقد كان أكثر دعاء المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "يا مُقَلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قلبي على دِينِكَ"، وأوصى رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- معاذَ بنَ جبلٍ -رضي الله عنه- فقال: "أوصيكَ يا معاذُ، لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللهم أَعِنِّي على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبَادَتِكَ" (رواه أبو داود).
ومنها الصدق مع الله، وأخذ الأمور بصدق وحزم حتى يسمو المرء عن مستنقع الكسل والملل، وهذا الذي دعا عليَّ بنَ أبي طالب -رضي الله عنه- أن يواظِبَ على الذِّكْر الذي علَّمَه له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ولفاطمة، إذا أخَذَا مضطجَعَهما، حتى أنه لم يتركه ليلة صِفِّينَ، ليلة الحرب والشدة.
ومما يُعين على البُعْد عن الملل والفتور: قِصَرُ الأملِ وتذكُّر الآخرةِ، وهذا من أعظم المنقِذات للهمة، ومن أكبر البواعث على الإقبال على الله، فيدرك المرءُ أن الدنيا مزرعة للآخرة، وفرصة لكسب الأعمال الصالحة، كما أنه لا بد للمرء من دافع قويّ يُنَشِّطه ويدفعه إلى عبادة ربه، فعند إصابة أحدنا بالملل وهو يداوم على صالح العمل عليه أن يستشعر قيمة ما يقوم به وما له من الأجر عليه، فقد كان مَسْلَمَةُ بنُ عبدِ الملكِ -رحمه الله- إذا أكثر عليه أصحابُ الحوائجِ وخشي الضجرَ أمر أن يحضر ندماؤه من أهل الأدب فتَذَاكَروا مكارمَ الأخلاقِ في الناس، وجميل طرائقهم ومروءاتهم، فيطرب ويهيج ثم يقول: ائذنوا لأصحاب الحوائج فلا يدخل عليه أحدٌ إلا قضى حاجته.
وهكذا لو أقبل المرء على العبادة بنفس منشرحة، واستشعار لقدرها لوجد لذة الطاعة وحلاوة الإيمان، ولَعلت همته، ولقويت عزيمته، فلم ينفكَّ عن العمل، ولم يغتر بطول الأمل، ولم يطرأ عليه الملل، عن عمر بن عبد الله بن عتبة قال: "أتينا أمَّ الدرداء فتحدَّثْنا عندها فقلنا: أمللناكِ يا أمَّ الدرداءِ، فقالَتْ: ما أمللتموني، لقد طلبتُ العبادةَ في كل شيء فما وجدتُ شيئًا أَشْفَى لنفسي من مذاكرة العلم، أو قالت: من مذاكرة الفقه".
كما أن على العبد ألا ييأس من حاله ويحذر أن يمل من تكرار التوبة كلما أخطأ، قيل للحسن -رحمه الله-: "ألا يستحيي أحدُنا من ربه، يستغفر من ذنوبه ثم يعود، يستغفر ثم يعود، فقال: ودَّ الشيطانُ لو ظَفِرَ منكم بهذه، فلا تملوا من الاستغفار".
عباد الله: إن الأَوْلَى بالملل والكلل والفتور هو صاحب المعصية والمجاهِر بفسقه، فجديرٌ به أن يسأم من ارتكاب المحرمات، ويتوقف عن اجتراح الموبِقات ويحذر من سوء الخاتمة والمهلكات، ويُقبل على مَنْ يَقبل التوبةَ عن عباده ويعفو عن السيئات.
أيها المسلمون: اجعلوا نُصْبَ أعينكم وأنتم في طريق سيركم إلى ربكم هدي قدوتنا -صلى الله عليه وسلم-، فمع أن الله قد غفر له ما تقدَّم وما تأخَّر من ذنبه إلا أنه لم ينقطع عن العبادة، بل كان دائم الصلة بربه، مُقْبِلًا عليه، مجتهدًا في طاعته، لا يكل ولا يمل، ولا يسأم ولا يفتر.
هذا، وصلوا -رحمكم الله- على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، امتثالا لأمر الله -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارِكْ على محمد وعلى آل محمد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم وارضَ عن الخلفاء الأربعة؛ أصحاب السُّنَّة الْمُتَّبَعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصَّحْب والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوكَ وكرمكَ وإحسانكَ يا أكرمَ الأكرمينَ.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، اللهم انصر دينك وكتابك وسُنَّة نبيك -صلى الله عليه وسلم- وعباد الصالحين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وأصلح الأئمةَ وولاةَ الأمورِ، واجعل ولايَتَنا فيمن خافَكَ واتقاكَ، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وَفِّقْ وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم.
اللهم كُنْ لإخواننا المستضعفين والجاهدين في سبيلك، والمرابطين في الثغور، وحماة الحدود، اللهم كن لهم معينًا ونصيرًا، ومؤيِّدًا وظهيرًا، اللهم إنا نسألكَ الثباتَ في الأمر، والعزيمة على الرشد، ونسألكَ شكرَ نعمتِكَ، وحُسْن عبادتك ونسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، ونسألكَ من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونستغفرك لما تعلم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.