الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
و(التَّوَّاب): صيغةُ مبالغة على وزن (فَعَّال) من تابَ يتُوبُ، ويقال: تاب العبدُ: أي: رجَعَ عن معصيتِه إلى طاعته، وتاب اللهُ عليه: أي: قَبِلَ توبتَه.
فـ(التَّوَّاب) إذا أُطلِق على العباد، فمعناه: مَن يُكثِر التوبةَ من ذنوبه، وإذا أُطلِق على الله، فمعناه: كثيرُ قَبول التوبة من عباده، أو كثيرُ التوفيق والإعانة عليها.
هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفةِ (التَّوْبِ) الثابتة لله سبحانه، واختلَف أهل العلم فيه: هل معناه قَبولُ التوبة أو التوفيقُ لها والإعانة عليها؟
قال ابنُ جرير رحمه الله: «وقد ذكَرْنا أن معنى (التوبة) من العبدِ إلى ربِّه: إنابتُه إلى طاعته، وأَوْبَتُه إلى ما يُرضِيه؛ بتركِه ما يُسخِطه من الأمور التي كان عليها مقيمًا مما يَكرَهُه ربُّه، فكذلك توبةُ الله على عبده هو أن يرزُقَه ذلك، ويؤُوبَ من غضبِه عليه إلى الرِّضا عنه، ومن العقوبةِ إلى العفوِ والصَّفح عنه». "جامع البيان" (1 /195).
وقال الزَّجاج رحمه الله: «قال الله تعالى: ﴿غَافِرِ اْلذَّنۢبِ وَقَابِلِ اْلتَّوْبِ﴾ [غافر: 3]؛ أي : يَقبَل رجوعَ عبدِه إليه؛ ومن هذا قيل: التوبةُ كأنها رجوعٌ إلى الطاعة وتركِ المعصية». "تفسير أسماء الله" (ص62)، وبنحوه قال الزَّجاجي، ثم قال: «فجاء (توَّاب) على أبنية المبالغة؛ لقَبوله توبةَ عباده، وتكريرِ الفعل منهم دفعةً بعد دفعة، وواحدًا بعد واحد، على طولِ الزمان، وقَبولِه عز وجل ممن يشاء أن يَقبَلَ منه؛ فلذلك جاء على أبنية المبالغة». "اشتقاق الأسماء" (ص63).
(الغفورُ) مَن إذا طلَب العبدُ منه المغفرةَ غفَر له، و(التَّوَّاب) مَن يُوفِّق إلى التوبة، أو: هو مَن إذا تاب العبدُ إليه تابَ عليه، لكن ما الفرقُ بين المغفرة والتوبة؟
هذه من الألفاظ التي إذا اجتمَعت افترَقت، وإذا افترَقت اجتمَعت؛ فالتوبةُ - إذا انفرَدت -: هي الرجوعُ مما يَكرَهه اللهُ ظاهرًا وباطنًا إلى ما يُحِبُّه ظاهرًا وباطنًا، والاستغفار - إذا انفرَد -: هو كالتوبة، أو هو التوبة بعينها، وكلٌّ منهما يَتضمَّن مَحْوَ الذَّنْبِ، وإزالةَ أثره، ووقايةَ شره، وأما إذا اجتمعتا، فالاستغفار: طلبُ وقايةِ شرِّ ما مضى، والتوبةُ: الرجوع، وطلبُ وقايةِ شرِّ ما يُخاف الوقوعُ فيه في المستقبل من المعاصي. انظر للاستزادة: "المدارج" لابن القيم (1 /306-309).
انظر: الغفورقال قتادةُ: «إن اللهَ هو الوَّهَّاب لعباده الإنابةَ إلى طاعته، المُوفِّق مَن أحَبَّ توفيقَه منهم لِما يُرضِيه عنه، (الرحيم) بهم أن يعاقِبَهم بعد التوبة، أو يخذُلَ مَن أراد منهم التوبةَ والإنابة، ولا يتُوبَ عليه». "جامع البيان" للطبري (11 /71).
وقال ابنُ جرير بعد أن ذكَر معنى (التَّوَّاب) الذي تقدم: «وأما قوله: (الرحيم)، فإنه يعني: أنه المتفضِّلُ عليه مع التوبة بالرحمة، ورَحْمتُه إيَّاه إقالةُ عَثْرتِه، وصَفْحُه عن عقوبةِ جُرْمِه». "جامع البيان" للطبري (1 /195).
وجمَع بين وصفَيْ كونه (توَّابًا) وكونه (رحيمًا): إشارةً إلى مزيدِ الفضل، وقدَّم (التَّوَّاب) لظهورِ مناسبته لِما قبله.
* حديثُ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: «إنْ كنَّا لَنعُدُّ لرسولِ اللهِ ﷺ في المجلسِ يقولُ: «رَبِّ اغفِرْ لي، وتُبْ عليَّ؛ إنَّك أنت التَّوَّابُ الغفورُ» مائةَ مرَّةٍ». أخرجه أحمد (4726).
* حديثُ أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه الدالُّ على صفةِ (التوبة) التي يشتمِلُ عليها اسمُه تعالى (التَّوَّاب): «مَن تابَ قبل أن تطلُعَ الشمسُ مِن مَغرِبِها، تابَ اللهُ عليه». أخرجه مسلم (2703).
* وكذلك حديثُ أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: «لو أنَّ لابنِ آدَمَ واديًا مِن ذَهَبٍ، أحَبَّ أن يكونَ له واديانِ، ولن يملأَ فاهُ إلا التُّرابُ، ويتُوبُ اللهُ على مَن تاب». أخرجه البخاري (6439).
اسمُ الله (التَّوَّاب) ثابتٌ لله جل وعلا بقياس الأَوْلى؛ فـ(العفوُ) الذي يدل عليه اسمُ (التَّوَّاب) صفةُ كمالٍ ورِفْعة، وخلافُه صفةُ نقص، ومن المعلوم أن كلَّ كمالٍ لا نقصَ فيه يكون لبعضِ الموجودات المخلوقة المُحدَثة: فالربُّ الخالق هو أَوْلى به، وكلُّ نقصٍ أو عيب يجب أن يُنزَّهَ عنه بعضُ المخلوقات المُحدَثة: فالربُّ الخالق هو أَوْلى أن يُنزَّهَ عنه. انظر: "شرح الأصفهانية" لابن تيمية (ص74).
إن الإيمانَ باسم الله (التَّوَّاب) مِن أكثَرِ ما يحُثُّ المسلمَ على تجديد التوبة والإنابة والرجوع إليه سبحانه في كلِّ حال؛ ذلك أن العبدَ دائمُ التعثُّر، ووقوعُه في المعصية متكرِّرٌ، يحتاج معه إلى ما يُعِيدُه إلى الله؛ كما جاء في حديثِ أنسٍ رضي الله عنه، عن النبي ﷺ، قال: «كلُّ بني آدَمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائين التوَّابون». أخرجه التِّرْمِذي (2499)، وأحمد (13049).
وهو أيضًا محتاجٌ إلى تجديدِ توبته باستمرار؛ كما في حديث ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما مرفوعًا: «ما مِن عبدٍ مؤمنٍ إلا وله ذَنْبٌ يعتادُه الفَيْنةَ بعد الفينة، أو ذَنْبٌ هو مُقِيمٌ عليه، لا يُفارِقُه حتى يُفارِقَ الدُّنيا، إنَّ المؤمنَ خُلِقَ مُفتَّنًا توَّابًا نَسِيًّا، إذا ذُكِّرَ ذكَرَ». أخرجه الطبراني في "الكبير"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2277).
ولذلك سمَّى اللهُ نفسَه (التَّوَّاب) على المبالغة؛ لكثرةِ ما يأتي العبدُ طُولَ حياته من المعاصي التي يلزمُه التوبةُ منها؛ ولذلك عندما قال سبحانه: ﴿لَّقَد تَّابَ اْللَّهُ عَلَى اْلنَّبِيِّ وَاْلْمُهَٰجِرِينَ وَاْلْأَنصَارِ﴾ [التوبة: 117]، فإنه يُحمَل على تجديدِ التوبة وتَواليها؛ كما قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ءَامِنُواْ بِاْللَّهِ وَرَسُولِهِۦ﴾ [النساء: 136].
اسمُ الله (التَّوَّاب) يدل على توفيقِه عبادَه للتوبة، وقَبولِها منهم، وأيُّ أثرٍ في حياة الناس أعظَمُ من هذا؟! يقول جل في علاه: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اْللَّهُ اْلنَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٖ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَـْٔخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل: 61].
فإتاحةُ التوبة نعمةٌ جليلة مِن نِعَمِ الله عز وجل، وإنظارُه العبدَ المُذنِب حتى يعُودَ ويرجع عن ذنبِه مِنَّةٌ عظيمة؛ فأثرُ اسمِ الله (التَّوَّاب) ظاهرٌ في الإبقاء على العباد، وعدمِ أخذِهم بكفرِهم وعصيانهم؛ قال البَغَويُّ رحمه الله: «قال قتادةُ في تفسير الآية: قد فعَل اللهُ ذلك في زمنِ نوحٍ؛ فأهلَكَ مَن على الأرض، إلا مَن كان في سفينةِ نوحٍ عليه السلام.
رُوِي أنَّ أبا هُرَيرةَ سَمِع رجُلًا يقول: إنَّ الظالمَ لا يضُرُّ إلا نفسَه، فقال: بئسَ ما قلتَ؛ إنَّ الحُبَارَى تموتُ في وَكْرِها بظُلْمِ الظالمِ». انظر: "معالم التنزيل" (5 /26).
«ولمَّا كانت المعاصي متكرِّرةً من عباده، جاء بصيغةِ المبالغة؛ ليقابِلَ الخطايا الكثيرةَ بالتوبة الواسعة».
القُرْطُبي "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" (1 /411).
«ومِن أسمائه تعالى: (التَّوَّاب)؛ ومعناه: يَقبَل توبةَ عباده إذا أذنَبوا، ويَقبَلهم إذا استقالوا، والمخلوقُ توَّاب؛ لأنه يتُوبُ إلى الله، واللهُ توَّابٌ يَقبَل توبةَ العبد».
قِوَام السُّنَّة "الحجة في بيان المحجة" (1 /156).
«ومنها: تعريفُه عبادَه كَرَمَه سبحانه في قَبولِ توبتِه، ومغفرتِه له على ظُلْمِه وإساءته؛ فهو الذي جادَ عليه بأنْ وفَّقه للتوبة، وألهَمه إياها، ثم قَبِلها منه فتابَ عليه أولًا وآخرًا؛ فتوبةُ العبد محفوفةٌ بتوبةٍ عليه من الله إذنًا وتوفيقًا، وتوبةٍ ثانية منه عليه قَبولًا ورضًا؛ فله الفضلُ في التوبة والكَرَمِ أولًا وآخرًا لا إلهَ إلا هو».
ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة "مفتاح دار السعادة" (2 /273).