الشاكر
كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
العمل مفتاح الأمل، وأطيب الكسب عمل اليد، واليد العليا خير من اليد السفلى، والتعفُّف خيرٌ مِنَ التكفُّف، ومن استغنى عن غيره عَزَّ وصان نفسَه وبَزَّ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له البقاء والثناء، وبيده المقادير والقضاء، يدبر الأمر إلى الأرض من السماء، يفعل ما يشاء، وما تشاءون إلا أن يشاء، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ، ونصَح الأمةَ، وجاهَد في الله حقَّ الجهادِ حتى أتاه اليقينُ، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعدُ: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عبادَ اللهِ: اتقوا الله فيما أمر، وكُفُّوا عما نهى عنه وزجر، واعلموا أن كل صغير وكبير مستطر، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
معاشرَ المسلمينَ: لقد قدَّر اللهُ المقاديرَ، وكتَب الآجالَ، وقسَم الأرزاقَ، وكتَب على كل أحدٍ حظَّه من السعادة والشقاء، ونصيبَه من النِّعم والسراء، والبأساء والضراء، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، وكل شيء بقدر وقضاء.
عبادَ اللهِ: كتب الله أرزاق بني آدم وهم في عالَم الأرحام، فإذا أتمَّ الإنسانُ في بطن أمه أربعة أشهر بعَث اللهُ إليه مَلَكًا مُوَكَّلًا بالأرحام، فينفخ فيه الروحَ -بإذن الله-، ويكتب أجَلَه وعَمَلَه ورِزْقَه، وشقي أو سعيد، جاء عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: "حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق: إنَّ أحدَكُم يُجمع خَلْقُه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقةً مثلَ ذلك، ثم يكون في ذلك مضغةً مثلَ ذلك، ثم يُرسَلُ الْمَلَكُ فينَفُخُ فيه الروحَ، ويؤمر بأربع كلمات: بكَتْب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد" (متفق عليه).
فالرزق مقسوم، وكلُّ شيء بقضاء وأجَل معلوم، فأَجْمِلُوا في الطلب، واستعينوا على الكسب، وأحسِنوا الظنَّ بالله، فسوء الظن مذموم لا ينفع، والله عند حسن ظن العبد به، فعليك -عبدَ اللهِ- بالفأل الصالح، وارضَ بما قسَم اللهُ لكَ، وإياكَ والطمعَ والهلعَ والجشعَ، وإياك وسوء التدبير، فإنه سَفَه وتبذير، وإن أصابَتْكَ مصيبةٌ فلا تقل: لو أني ...، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل.
عبادَ اللهِ: إن الله هو المعطي، وهو الرزاق، ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، وخزائنه لا تنفد، ويمينه ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء بالليل والنهار، عن أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن الله -تبارك وتعالى- أنه قال: "يا عبادي، إني حرمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا مَنْ كسوتُه فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تُخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أَوَّلَكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في مُلْكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيتُ كلَّ إنسان مسألتَه ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحرَ، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، ثم أُوَفِّيكم إياها، فمَنْ وَجَدَ خيرًا فليحمد الله، ومَنْ وَجَدَ غيرَ ذلك فلا يلومن إلا نفسه" (رواه مسلم).
عبادَ اللهِ: إن الله قد تكفَّل بالأرزاق فقال: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[هُودٍ: 6]، فيرزق الجنينَ في بطن أمه، والحيتانَ في البحر، والحياتِ في الوكر، وما خلَق اللهُ خَلْقًا فضيَّعَهم، ولو فَرَّ عبدٌ من رزقه لَأَدْرَكَهُ، (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ)[الْعَنْكَبُوتِ: 62].
أيها المسلمون: الله يمتحن بالرزق، فيبسط فيه لِيُحْمَدَ ويُشْكَرَ، ويضيِّق فيه ابتلاءً لا نسيانًا وعجزًا، وحينها يلزم الصبرُ، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بغير الله لم تُسَدَّ فاقتُه، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، فالصبر على الفاقة واللأواء والبلاء مطلب شرعي واجب، وأمر ضروري لازب، وقد عاتَب اللهُ في ذلك فقال: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي)[الْفَجْرِ: 15-16].
عبادَ اللهِ: تقوى الله خير مَغْنم للعبد، وهي المخرج من كل ضيق ونكد، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطَّلَاقِ: 2-3]، تقوى الله مفتاح خزائن السموات والأرض، وما عند الله لا يُنال بمعصيته، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الْأَعْرَافِ: 96].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الذي خلَق الموتَ والحياةَ ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وجعل الباقيات الصالحات خيرًا عند ربك ثوابا وخيرا أملا، والصلاة والسلام على نبينا محمد أزكى الخَلْق قولًا وعملًا، وعلى آله وأصحابه الكرام الفُضَلا، وعلى التابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
عبادَ اللهِ: العمل مفتاح الأمل، وأطيب الكسب عمل اليد، واليد العليا خير من اليد السفلى، والتعفُّف خيرٌ مِنَ التكفُّف، ومن استغنى عن غيره عَزَّ وصان نفسَه وبَزَّ، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لأن يأخُذَ أحدُكم حبلَه فيحتطب على ظهره خيرٌ له من أن يأتي رجلًا فيسأله أعطاه أو مَنَعَهُ" (رواه البخاري).
ولقد كان نبي الله موسى -عليه السلام- يرعى الغنم استئجارا، ونبي الله زكريا كان نَجَّارًا، ونبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده، وكان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يرعى الغنم على قراريط لأهل مكة، وما أكل أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، فالعمل شرف، والبطالة تلف، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُّوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)[الْمُلْكِ: 15]،(فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)[الْجُمُعَةِ: 10]، وتوَكَّلُوا عليه، فَمَنْ توكَّل عليه كَفَاهُ، ولا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم.
معاشرَ المسلمينَ: الدنيا زائلة فانية، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، ولا عيش إلا عيش الآخرة، الدنيا متاع الغرور، سريعة العبور، كثيرة التغير، لا تثبت على حال، أشد تقلبا من الأيام والليالي، إذا حَلَتْ أَوْحَلَتْ، وإن جَلَتْ أَوْجَلَتْ، وكم أضحكت فأبكت، وسرَّت فأوجعت، وأقبلت فأدبرت، إنما هي أحزان وأفراح، وسرور وأتراح، سعادة وحبور، وهموم وغموم، لهو ولعب، زينة وتفاخُر وتكاثُر، يقول-تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الْحَدِيدِ: 20].
ما لابن آدم منها إلا ما قَدَّمَ، أو أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأمضى، فكن -عبد الله- في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، فمتاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، والآخرة خير وأبقى، فازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس.
وبعدُ معاشرَ المسلمينَ: فإن الدنيا سترتحل مدبرةً، وإن الآخرة مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل:
فحَيَّ على جنات عدن فإنها | منازلنا الأولى وفيها المخيَّمُ |
فيا بائعا هذا ببخس مُعَجَّلً | كأنك لا تدري، بلى سوف تعلم |
فإن كنتَ لا تدري فتلكَ مصيبةٌ | وإن تدري فالمصيبة أعظم |
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا، واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اهدنا فيمن هديتَ، وعافنا فيمن عافيتَ، وتولنا فيمن توليتَ، وبارِكْ لنا فيما أعطيتَ، وبارك لنا فيما أعطيتَ، وقِنَا شرَّ ما قضيتَ، إنكَ تقضي ولا يُقضى عليكَ.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك الموحدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وَأَصْلِحْ أئمتَنا وولاةَ أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين بتوفيقِكَ، وأيِّدْه بتأييدِكَ، اللهم وَفِّقْه ووليَّ عهده لما تحب وترضى، اللهم وفقهما لما فيه صلاح البلاد والعباد يا رب العالمين.
عبادَ اللهِ: صَلُّوا وسَلِّمُوا على مَنْ أمرَكُم اللهُ بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وَبَارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلِيٍّ وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم برحمتك وكرمك وجودك يا أرحم الراحمين.