البحث

عبارات مقترحة:

الحكم

كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...

القاهر

كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...

المتعالي

كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...

التسويف وطول الأمل

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. التحذير من طول الأمل وأسبابه .
  2. علاج طول الأمل .
  3. أثر طول الأمل والاغترار بالدنيا .
  4. حقيقة الدنيا والتزهيد في طول الأمل فيها .
  5. عاقبة التسويف وطول الأمل .

اقتباس

إن طول الأمل من مداخل للشيطان إلى قلب ابن آدم؛ فإنه لا يزال بالإنسان في اتباع الهوى، والنفس الأمارة بالسوء، حتى يوقعه في سوء الخاتمة -نسأل الله السلامة والعافية-، وبذلك يكون الشيطان قد حقق مراده، وإن من أهم أدوية طول الأمل: النظر للدنيا على أنها محل عبور لا إقامة، وأنها فانية لا باقية...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المؤمنون: لا أضر على العبد في حياته من طول أمله ونسيان لقاء ربه وخالقه، وذلك لما يورثه طول الأمل من الغفلة في قلب العبد والتهاون في ارتكاب المحرمات وكذلك التقصير في الواجبات؛ وما علم هذا المسكين أنه إلى الله راحل، وصدق القائل:

أؤمل أن أحيا وفي كل ساعة

تمر بي الموتى تهز نعوشها

وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي

بقايا ليال في الزمان أعيشها

قال بعض السلف: "من طال أمله، ساء عمله"؛ وذلك أن طول الأمل يحمل الإنسان على الحرص على الدنيا، والتشمير في عمارتها وطلبها، فيقطع وقته في التفكير في جمعها وإصلاحها، فيصير قلبه وجسمه مستغرقين في طلبها، وحينئذ ينسى نفسه، والسعي لها بما يعود إلى صلاحها، وكان ينبغي له المبادرة والاجتهاد، والتشمير في طلب الآخرة التي هي دار الإقامة والبقاء، وأما الدنيا، فهي دار الزوال والانتقال.

أتبني بناء الخالدين وإنما

مقامك فيها لو عرفت قليلُ

لقد كان في ظل الأراك كفاية

لمن كان يوماً يقتفيه رحيلُ

 

عباد الله: ذكر العلماء أن طول الأمل له سببان؛ أحدهما: حب الدنيا، والآخر: الجهل؛ فحب الدنيا فيه ضرر على القلب؛ حيث يتعلق بها ويصعب عليه مفارقة ميادينها؛ حتى ينسى صاحبه ربه ومولاه ومآلاه وأخراه ظنا منه أنه سيعمر العمر الطويل في هذه الحياة الزائلة، وهو في الواقع مخدوع بدنيا لا قرار لها ولا بقاء، قال تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[يونس:24].

تصفو الحياة لجاهل أو غافل

عما مضى منها وما يتوقعُ

ولمن يغالط في الحقائق نفسه

ويسوقها طلب المحال فتطمعُ

وأما الجهل؛ فهو سبب لطول الأمل ونسيان الأجل وفساد العمل؛ لكن العقلاء يعلمون أن العمر محدود وأن الديمومة في دار الخلود؛ فما أعظم جهلنا وما أكبر آمالنا في حياة قصيرة، وصدق القائل:

نسير إلى الآجال في كل لحظة

وأيامنا تطوى وهن مراحلُ

أيها المؤمنون: إن من أهم أدوية طول الأمل: النظر للدنيا على أنها محل عبور لا إقامة، وأنها فانية لا باقية، وأن الإنسان فيها مسافر لداره الحقيقية، حينها يقل طمعه فيها، وتعلقه بها، ويعلم أنه راحل عنها، وأنه لا يقوى لحمل شيء منها ما دام سفره طويلاً، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع!"(رواه مسلم).

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"(رواه البخاري).

وعن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء"(رواه الترمذي).

وعن المستورد بن شداد قال: كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السخلة الميتة، فقال: "أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها؟ قالوا: ومن هوانها ألقوها يا رسول الله، قال: فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها"(رواه الترمذي).

ومن الأدوية لطول الأمل: تأمل الإنسان في عمره، وأنه عبارة عن ليلتين اثنتين: ليلة بين أهله وأولاده مسرورا منعما، يأنس بهم ويأنسون به، وليلة أخرى: في قبره وحيدًا فريدًا، لا أهل ولا ولد.

وأعظم دواء لطول الأمل: تذكر الموت والرحيل؛ فتذكره بداية كل فلاح ومسيرة كل نجاح، وتذكر أنه مهما عشنا لا بد يوما تأتي المنايا وتحل السكرات؛ كما قال سبحانه: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ)[ق: 19]؛ فيتخرج الروح إلى باريها والأهل ينظرون وحالهم؛ كما قال تعالى: (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ)[الواقعة: 83- 85].

أيها المؤمنون: وقف محمد -عليه الصلاة والسلام- على شفير قبر فبكى حتى بل الثرى، ثم قال: "يا إخواني لمثل هذا فأعدوا"(رواه ابن ماجه)، وسأله -عليه الصلاة والسلام- رجل فقال: من أكيس الناس يا رسول الله؟ فقال:"أكثرهم ذكراً للموت، وأشدهم استعداداً له، أولئك هم الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا، وكرامة الآخرة"(رواه الطبراني).

يقول الحسن -رحمه الله-: "إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لبٍّ بها فرحاً"، وقال يونس بن عبيد: "ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل ولا مال"، وقال الدقاق رحمه الله: "من أكثر ذكر الموت أكرمه الله بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت ابتلي بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة".

ألا فلنحذر الاغترار وطول الأمل، ولنسارع بالتوبة ما دمنا في هذه الدار، ولنحذر التسويف؛ فإنها بضاعة المفلسين، ولنسلك طريق الأوابين، عسى الله أن يجعلنا من عباده المتقين.

قال الله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)[المؤمنون: 115].

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

عباد الله: اعلموا أن الدنيا دار ممر لا دار مقر، وأن الحياة الآخر هي المستقر؛ فكم من أناس فيها غرهم طول الأمل، وألهاهم التسويف عن المسارعة في العمل؛ فلا هي بقيت لهم، ولا هم الذين انتفعوا بها، (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)[التكاثر:1-2].

عباد الله: من طال أمله ضعف عمله، واستبعد ما هو آتٍ وقريب، وقسا قلبه عن الاستعداد ليوم الرحيل، تمر به الجنائز تترى، ويرى الموت يتخطف الناس من حوله.

وقد أخبر الله -سبحانه- عن خسّة الدنيا، وزهّد الناس فيها فقال:(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا)[الكهف: 45]، وقال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الحديد: 20]، وقال سبحانه: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)[آل عمران: 14].

وقال سبحانه: (وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ)[الرعد: 26].

عباد الله: لقد توعد الله من رضي بالحياة الدنيا، واطمأن بها، وغفل عن آياته، ولم يرج لقاءه بأعظم الوعيد فقال: (إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[يونس: 7-8]، وهذا كافٍ في التزهيد في الدنيا.

ثم إنه لو حصل للمؤمِّل منا حصل له، ما هي عاقبته؟ أليس الموت والفناء والانتقال؟ قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)[الشعراء: 205-207]، وقال سبحانه عن هؤلاء المؤملين إذا شاهدوا ساعة رحيلهم وإن طالت بهم حياتهم: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)[النازعات:46].

اللهم وفقنا للصالحات قبل الممات، وأرشدنا إلى استدراك الهفوات من قبل الفوات، وألهمنا لأخذ العدة للوفاة قبل الموافاة، ونجنا يوم العبور على الصراط حين تنسكب العبرات.

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة عليه...