الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ولصحابة رسول الله -رضي الله عنهم- مواقف تدل على بسالتهم وقوة شجاعتهم، من ذلك: مواقف أبي بكر في الشجاعة وهي كثيرة، منها: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي في حجر...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: حث الإسلام على الأخلاق الفاضلة، ورغب أتباعه في التزامها والاتصاف بها، ومن تلك الأخلاق التي ينبغي على المسلم التحلي بها، خلق الشجاعة.
والشجاعة: "بذل النفس للموت عن الدين والحريم، وعن الجار المضطهد، وعن المستجير المظلوم، وعن الهضيمة ظلماً في المال والعرض وفي سائر سبل الحق"، وتنبعث الشجاعة من القلب، وهي ثباته واستقراره عند المخاوف، وتثمر الإقدام والبسالة والرجولة، يقول عمر بن الخطاب: "إنَّ الشجاعة والجُبن غرائزٌ في الرجال".
أيها المسلمون: أمر الله -سبحانه- عباده المؤمنين بالجهاد في سبيل الله ضد أعداء الملة؛ كما أوجب الثبات عند ملاقاة العدو وحرم الفرار من الزحف؛ فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[الأنفال:16]، وقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)[الأنفال:65].
قال السعدي: "أي: حثهم وأنهضهم إليه بكل ما يقوي عزائمهم وينشط هممهم، من الترغيب في الجهاد ومقارعة الأعداء، والترهيب من ضد ذلك، وذكر فضائل الشجاعة والصبر، وما يترتب على ذلك من خير في الدنيا والآخرة، وذكر مضار الجبن، وأنه من الأخلاق الرذيلة المنقصة للدين والمروءة، وأن الشجاعة بالمؤمنين أولى من غيرهم".
وحسْس الشجاعة أنها من أسباب نيل محبة الله -سبحانه وتعالى-، قال -صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يُحبُّهم الله -عز وجلَّ- وذَكَر منهم: ورجل كان في سريَّة، فَلقوا العدوَّ، فهُزِموا، فأقبَل بصدره؛ حتى يُقتلَ، أو يَفتحَ الله له"(رواه النسائي وأحمد)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"(رواه مسلم).
قال النووي: "والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداما على العدو في الجهاد، وأسرع خروجا إليه، وذهابا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله -تعالى-".
أيها الأحبة: والشجاعة من صفات رسل الكريم المتعال؛ كما وصفهم رب العزة والجلال في كتابه العزيز؛ فقال: (الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً)[الأحزاب:39].
هذا هود -عليه السلام- يتحدى قومه: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا)[هود:55-56]، ووقف موسى -عليه السلام- أمام فرعون طاغية مصر، فقال له -بعد أن وعظه، وتمرد موسى على ذلك-: (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا)[الإسراء:102].
وكان خُلق الشجاعة أحد أوصاف النبي -صلى الله عليه وسلّم-؛ حيث عرف به في الجاهلية والإسلام؛ يقول أنس -رضي الله عنه-: "كان رسول الله أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجعَ الناس"، قال: وقد فزِع أهل المدينة ليلة سَمِعوا صوتًا، قال: فتلقَّاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على فرسٍ لأبي طلحة عُرْي، وهو متقلِّد سيفَه، فقال: "لَمْ تُراعُوا، لَم تُراعوا"(رواه البخاري ومسلم)، وعن البراء -رضي الله عنه- قال: "وكان إذا احمرَّ البأس، يُتَّقى به -يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنَّه الشجاع الذي يُحاذَى به"، ويقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "لقد رأيتُنا يوم بدر ونحن نلُوذ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أقربُنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يَومئذ بأسًا"(رواه أحمد).
ولصحابة رسول الله -رضي الله عنهم- مواقف تدل على بسالتهم وقوة شجاعتهم؛ فمن ذلك:
مواقف أبي بكر في الشجاعة وهي كثيرة، منها: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا؛ فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه؛ فعن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "(أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ)"(رواه البخاري).
ومن شجاعة عمر ما أخبر عنه علي -رضي الله عنه- أنه قال: "ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً إلا عمر بن الخطاب؛ فإنه لما همَّ بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه وامتطى وفي يده أسهماً واختصر عَنزته، ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعاً متمكناً، ثم أتى المقام فصلى متمكناً، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة وقال لهم: "شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس -الأنوف-، من أراد أن تثكله أمه، ويويتم ولده، أو ترمل زوجته، فليلقاني وراء هذا الوادي، قال علي: فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين، علمهم وأرشدهم ومضى لوجهه".
وذكر الذهبي في ترجمة البراء بن عازب؛ أنه ألقى بنفسه مقتحماً حديقة المرتدين، عند حرب مسيلمة الكذاب، واشتهر عنه أنه قتل 100 من الشجعان مبارزة.
ومن قصص الشجاعة التي تُذكر: ما حصل في غزوة بدر، قَالَ مُعَاذُ بنُ عَمرٍو -رضي اللهُ عنه-: "جَعَلْتُ أَبَا جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ شَأْنِي، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ فَضَرَبْتُهُ فَقَطَعْتُ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ، فَضَرَبَنِي ابْنُهُ عِكْرِمَةُ عَلَى عَاتِقِي، فَطَرَحَ يَدِي وَبَقِيَتْ مُعَلَّقَةً بِجِلْدَةٍ بِجَنْبِي، وَأَجْهَضَنِي عَنْهَا القِتَالُ، فَقَاتَلْتُ عَامَّةَ يَوْمِي، وَإِنِّي لَأَسْحَبُهَا خَلْفِي، فَلَمَّا آذَتْنِي، وَضَعْتُ قَدَمِي عَلَيْهَا، ثُمَّ تَمَطَّأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى طَرَحْتُهَا". قَالَ الذَّهَبِيُّ بَعدَ هَذِهِ القِصَّةِ: "هَذِهِ وَاللهِ الشَّجَاعَةُ، لَا كَآخِرِ مَنْ خُدِشَ بِسَهْمٍ، يَنْقَطِعُ قَلْبُهُ، وَتَخُوْرُ قِوَاهُ".
وتذكر لنا كتب التاريخ مواقف مشرفة للعلماء في الجرأة على قول الحق؛ فمن ذلك إنكار الأوزاعي على عبد الله بن علي عم أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، فيما قتل من المسلمين في دمشق، واشتد عليه في الإنكار، وسيوف حجاب الأمير حول الأوزاعي تقطر حوله دماً، حتى قال بعض الوزراء: كنت أجمع ثيابي خوفاً من دم الأوزاعي؛ فما هاب وما خاف.
عباد الله: تمر بالمسلم مواقف وأحوال يحتاج فيها للشجاعة من أجل الثبات؛ فمن هذه المواطن:
الجهاد في سبيل الله، قال أبوبكر الصديق لخالد بن الوليد: "احرص على الموت تُوهب لك الحياة".
ومن مواطنها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الحديث: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"(رواه أبوداود والترمذي)، ومن الأمثلة على ذلك موقف الإمام أحمد وثباته في فتنة خلق القرآن.
ومن مواطنها: في حالة التعرض للبغي والعدوان؛ فتحتاج الشجاعة لدفع الظلم والذل عن النفس، والدفاع عن الحريم والأعراض.
ومنها: شجاعة الإرادة؛ وهي القدرة على ضبط شهوات النفس ومنع جنوحها إلى مهاوي الردى والمهالك، والتغلب على مخاوف النفس وهواجسها وقهر أوهامها.
ومن مواطنها: الشجاعة في اتخاذ القرار؛ مثل إمضاء أبي بكر الصديق الجيش لحرب المرتدين. قال ابن تيمية: "لا يتم رعاية الخلق وسياستهم إلا بالجود الذي هو العطاء، والنجدة التي هي الشجاعة، بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك".
ومنها: الشجاعة في إعلان الرأي؛ وذلك أن يبدي الإنسان الحق الموافق لرضا الله -تعالى-، ومواقف العلماء الربانيين كثيرة في هذا الجنب، ومن ذلك مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية وتصديه لأهل البدع والأهواء، وتحمله في سبيل فتاواه وإظهار معتقده الأذى والسجن، يقول شوقي:
إِنَّ الشَّجَاعَةَ فِي القُلُوبِ كَثِيْرَةٌ | وَوَجَدْتُ شُجْعَانَ العُقُولِ قَلِيلا |
ومن مواطنها: الاعتراف بالخطأ والاعتذار، وقول الصدق، كلها أمور تحتاج لجرأة وشجاعة.
وأعظم الشجاعة: الخوف من الله -عز وجلّ-
ليس الشجاع الذي يحمي فريسته | عند القتال ونار الحرب تشتعل |
لكن من رد طرفاً أو ثنى وطراً | عن الحرام فذاك الفارس البطل |
ولذلك قيل: "لا ينتصر العبد في المعركة حتى ينتصر في نفسه على الشهوات والمعاصي".
أقول ما سمعتم واستغفر الله؛ فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعهد، وآله وصحبه ومن تبعه، وبعد:
أيها الأحبة: قد يظن البعض ويتصور أن التحلي بالشجاعة أمر فطري، وإن كان منها ما هو كذلك؛ إلا جزءا كبيرا منها يستطيع الإنسان أن يكتسبه ويتربى عليه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم"(صحيح الجامع)، وهاهنا نذكر بعض الأسباب التي تعين على اكتساب الشجاعة وتنميتها:
أولاً: ترسيخ الإيمان بالقضاء والقدر، وتسليم العبد أمره لربه -جل وعلا-؛ ففي الحديث: "وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"(رواه الترمذي).
ثانياً: حسن التوكل على الله -تعالى-؛ كحال هود -عليه السلام- حينما واجه قومه كلهم قائلاً لهم: (إِنّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[هود:56].
ثالثاً: معرفة آثار الجُبن ومساوئه، والحذر من تخويف الشيطان؛ كما يفعل مع أوليائه؛ (إِنَّمَا ذلكم الشَّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ)[آل عمران:175].
رابعاً: اللجوء إلى الله بالدعاء والذكر، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الأنفال:45]
خامساً: قراءة قصص الشجعان والاقتداء بهم وفي مقدمتهم النبي -عليه الصلاة والسلام، والصحابة الكرام، والأئمة الأعلام.
وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].