المقدم
كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
من اعتقد الوحدانية في الألوهية لله، والرسالة لعبده ورسوله، ثم لم يُتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام، الذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح، بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو بالفعل، كان...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا أيها الناس: إن أمتنا هي خير الأمم على الإطلاق؛ كما قال سبحانه: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)[آل عمران: 110].
ونبينا -صلى الله عليه وسلم- خير الأنبياء والرسل؛ أخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي سعيد الخدري قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي".
وكتابنا خير الكتب، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)[المائدة: 48].
فلا بد أن نعرف قيمة الدين والأمة التي ننتسب لها، لكي نقدرها حق قدرها، ونسعى أن نكون من أهلها، وأن نحذر من المخالفة، فطريق الله واحد لا يزيغ عنه إلا هالك: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)[الأنعام: 153].
فمن سار على صراط الله نجا وأفلح، ومن بدل وخالف طرد عن الرحمة، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا" قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ" فَقَالُوا : كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ؛ أُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا".
قال القرطبي -رحمه الله-: "قال علماؤنا -رحمة الله عليهم أجمعين-: فكلُّ مَن ارتد عن دين الله، أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله، ولم يأذن به الله، فهو من المطرودين عن الحوض، المبعدين عنه، وأشدهم طرداً، مَن خالف جماعة المسلمين، وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدِّلون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم، وطمس الحق، وقتل أهله، وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر، المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ، والأهواء، والبدع".
معاشر المسلمين: يجب أن نعظم ديننا ونجله ونتأدب في تعاملنا مع أحكامه؛ لأنه من تعظيم الله -تعالى-، وهي دالة على التقوى؛ كما قال سبحانه: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ)[الحـج: 30]، وقال: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحـج: 32].
أقول ذلك؛ لأننا نرى الاستهزاء بالدين وبشعائره قد انتشرت بين الناس، وأصبح المنتمي للإسلام يستخف بشعائره وبأهله، ويمدح الكفار ومذاهبهم، وكأنه يتمنى لو انتحل ملتهم، وما ذاك إلا لقلة المعرفة بالله وبدينه.
إنّ الإيمان بالله مبني على التعظيم والإجلال له عز وجل، قال الله -تعالى-: (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ)[مريم: 90]؛ قال الضحاك بن مزاحم في تفسير هذه الآية: "يتشققن من عظمة الله".
ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية أهمية تعظيم الله وإجلاله، فيقول: "فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله، والرسالة لعبده ورسوله، ثم لم يُتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام، الذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح، بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو بالفعل، كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه، وكان ذلك موجباً لفساد ذلك الاعتقاد ومزيلاً لما فيه من المنفعة والصلاح".
ومما قاله ابن القيّم عن منزلة التعظيم: "هذه المنزلة تابعة للمعرفة، فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الربّ في القلب، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيمّاً وإجلالاً، وقد ذم الله من لم يعظمه حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته، قال تعالى: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)[نوح: 13].
قال ابن عباس ومجاهد: "لا ترجون لله عظمة"، وقال سعيد بن جبير: "ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته".
عباد الله: إن من إجلال الله: الاستحياء منه، ومراقبته، وعدم ارتكاب معاصيه، والوقوف عند حدوده، فالمرء يجب عليه أن يترك المعصية إذا وردت عليه تركها خوفا من الله وتعظيما له؛ كما قال سبحانه: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 40-41].
إن معرفة الشيء على حقيقته تدعو المرء لكيفية التعامل معه، فالله -جل وعلا- قال عن كرسيه الذي هو المرقاة بين يدي العرش: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)[البقرة 255]؛ أي أحاط بهما لضخامته وعظم خلقه، ثم هو مثل الدرجة بين يدي العرش، فكيف بخلق العرش؟ أخرج أحمد في مسنده من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- مرفوعا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة".
هذه عظمة مخلوقات تأخذ بالقلوب وتشد النفوس، فإذا كانت هذه المخلوقات بهذا العظم فكيف الشأن بمبدعها!
وكيف الأمر بخالقها -جل شأنه وعظم سلطانه- وكمل في أسمائه وصفاته -عز وجل-.
إذً، ما بال الإنسان يتغافل ويتجاهل وينسى هذه الحقائقَ العظيمةَ، والبراهينَ الساطعة، ثم يكون غافلا عن تعظيم ربه وخالقه ومولاه بتوحيده، وعبادته ورجائه والخوف منه، قال سبحانه: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الزمر: 67].
إنَّ القلوب إذا عظّمت الله عظُم في النفوس شرعُ الله، وعظُمت حرمات الله، وصلحت أحوال العباد.
اللهم أصلح لنا أمور ديننا ودنيانا وأخرانا، واملأ قلوبنا تعظيما لك ولشرعك.
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا أيها الناس: لقد استخف كثير من الناس بشرع الله وشعائره، فهذه تكشف وجهها، وتلك تلبس اللبس المتبرج، وذاك يجاهر بالدخان أمام الناس، ويعلن الموسيقى والغناء ويجاهر به في كل مكان بلا حياء من الله ولا من الناس، وآخر يعارض شرع الله، وآخر ينسف سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يقبلها ويشكك فيها، وهلم جرا، من الاستخفاف بدين الله وعدم تعظيمه.
فكم نحتاج إلى تعظيم الدين في القلوب، كما تعظمه العجائز اللاتي لم يتعلمن شيئا في المدارس ولكن غرس في قلوبهم الإيمان غرس الجبال، فتجد في قلوبهن تعظيما لشعائر الله جلس موسى بن إسحاق "قاضي الريَّ والأهواز" ينظر في قضايا الناس ودعاويهم، وفي ذات يومٍ دخل عليه رجل وامرأة، وادَّعت المرأة على الرجل وهو زوجها أن لها عليه خمسُمائة دينارٍ مهراً ..فأنكر الزوج أن يكون قد بقي لها في ذمته أيُّ مبلغٍ مالي، فقال القاضي للزوج بعد أن سمع دعوى الطرفين: هات شهودك ليشيروا إليها في الشهادة، فأحضرهم الزوج، فاستدعى القاضي أحدهم، وقال له: انظر إلى الزوجة لتشير إليها في شهادتك، فقام الشاهد لينظر، وقال القاضي للزوجة: قومي واكشفي عن وجهك ليتعرف عليكِ الشاهد، فقال الزوج: وماذا تريدون منها؟! فقيل له: لا بد أن ينظر الشاهد إلى امرأتك سافرة كاشفة عن وجهها، لتصح معرفته بها؟ فكره الزوج أن تضطر زوجته إلى الكشف عن وجهها أمام الناس، فصاح قائلاً: إني أُشهد القاضي على أن لزوجتي في ذمتي المهر الذي تدَّعيه، ولا تكشف وجهها أمام الرجال الأجانب! فلما سمعت الزوجة ذلك، أكبرت وأعظمت في زوجها، أنه يظنُّ بوجهها عن رؤية الشهود له، وأنه يصونه عن أعين الناس، فصاحت تقول للقاضي: إني أُشهدك أني قد وهبت له هذا المهر وسامحته، وأبرأته في الدنيا والآخرة.
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء.
معاشر المسلمين: لنغرس في نفوسنا ونفوس أولادنا ومن تحت أيدينا تعظيم الله وتعظيم شرعه والوقوف على حدوده، فوالله لقد رق الدين في قلوبنا وقلوب أولادنا -إلا من رحم الله- نتج منها الاستخفاف بالدين وأهله، وشموخ المنافق، والتصريح بنفاقه، وظهر الإلحاد في صفوف الأولاد، ولا يزال تعظيم الدين يضعف في القلوب حتى ينسلخ الناس من الدين -والعياذ بالله-.
ألا فالعودة العودة للتمسك بالدين، والحذر الحذر ممن يدعون للتجديد، فالخير كل الخير في الأمر العتيق، نهج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو ما درج عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم إلى عصرنا هذا، خذوا العلم والفتوى من العلماء الكبار الذين رسخت أقدامهم في العلم وإياكم وأنصاف طلبة العلم الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
اللهم اعصمنا من الزلل، ورزقنا تعظيمك وتعظيم أمرك والوقوف على حدودك.