الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - التوحيد |
ويدور معنى المقيت لغةً على الحفظ والرزق والتدبير. والمقيت -سبحانه- هو خالق الأقوات ومُوصّلها إلى الأبدان، المفيض على عباده ما لا قوام لأبدانهم إلا به، والمنعم عليهم بإيصال حاجتهم إليهم، هو الذي يعطي أقوات الخلائق دون أن يؤثر ذلك العطاء بالنقص على ملكه وخزائنه...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ومَنْ يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله. اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبي، وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وذرِّيته وأهل بيته، كما صليتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور مُحْدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.[حديث خطبة الحاجة أخرجه أبو داود (2118) وصححه الألباني].
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، وأثنوا عليه بما هو أهله، واعلموا أن ربنا -تبارك وتعالى- تفرد بأنه المقيت –سبحانه- القائم على جميع المخلوقات بالتدبير والتصريف، الوهاب الرزاق، خلق الأقوات كلها بمختلف أنواعها، وأوصل إلى كل مخلوق من القوت ما يناسبه ويعيش عليه، وأوصل إلى الكائنات أقواتها، وصرَّفها بين هذه المخلوقات العظيمة كيف شاء، بعلمه وحكمته ورحمته، وهو -سبحانه- من أعطى كل إنسان وطير وحيوان قُوته على مر الأوقات، ومدَّ الخلائق في كل وقت بما جعله قوامًا لها، فإذا أراد موت شيء منها، حبس عنه ما جعله سببًا لبقائه من القوت، فيهلك بإذنه -سبحانه-.
وثقوا -عباد الله- أن المقيت -سبحانه- جعل في كل بلدة من المنافع والمكاسب والثمار ما لم يجعله في الأخرى؛ ليتبادل الناس حاجاتهم ومنافعهم، فينتفع بعضهم من بعض بالتجارة والأسفار من مصرٍ إلى آخر، ويحصل لهم من المنافع والمصالح الدينية والدنيوية المتعددة، قال تعالى: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) [فصلت:10]، فقد أخبر -سبحانه- أنه قدَّر في الأرض أقوات أهلها، وذلك ما يقوتهم من الغذاء، ويصلحهم من المعاش، فسبحان الغني القدير، المقيت لعباده والحافظ لهم الشاهد لأحوالهم.
وتأمل -عبد الله- ماذا لو سمعت عن رجل له كثير من الأولاد يرعاهم وينفق عليهم ويعلمهم، وهو متعدد الزوجات، يعدل بينهن ويقوم عليهن نصحًا وتعليمًا، وله أبوان يشملهم بعطفه ورعايته، وله عمات أرامل، وخالات عجائز، وهو في ذلك كله يرعى وينفق، ويحنو ويسع الجميع، ويحرص على بذل الخير للجميع، ويرعى الفقير ويساعد الأرملة والمسكين، وهو راضٍ سعيد، ماذا يدور في ذهنك عن كرم رجل كهذا وشهامته ومروءته وكمال سؤدده، هذا الرجل ببساطة يقوت هؤلاء، ولله رب العالمين المثل الأعلى يقوم على عباده، وينفق عليهم، ويشملهم بمنّه وكرمه -سبحانه وتعالى-.
فَلَو تصوّر إنسان قوته، وسأل نفسه، كم من الطعام ومثله الشراب والفواكه، يقتاته الفرد في اليوم الواحد، ثم لكل الآدميين في اليوم الواحد، ثم كم في حياتهم كلها، ثم تفكر في قوت كل الكائنات في بحرها وبرها، وسهولها وجبالها، كم تحتاج من الأقوات في عمرها، هذا هو معنى المقيت، قال تعالى: (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [المنافقون: 7]، خزائن لا تنفد، وملك لا ينتهي، وعطاء لا ينقطع، فسبحان الغني الكريم.
فالله هو الحفيظ المقيت، تكفل بإقاتة جميع المخلوقات والكائنات، خلق الخلق ورزقهم وهداهم لما ينفعهم، يعطي كل مخلوق قوته ليظل حيًّا، فهو مشاهد له فلا يغيب المخلوق عن خالقه لحظة، ويعني بهذا أنه شهيد، وبما أنه يعطي القوت للإنسان على قدر حاجته، فهو حسيب، وبما أنه يعطي كل مخلوق ما يناسبه نوعًا وكمًّا فهو حكيم.
فسبحان الذي خلق الأقوات على مختلف الأنواع والألوان، ويسَّر أسباب جلبها ونفعها للإنسان والحيوان، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفا أكلهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّان مُتَشَابِها وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كلوا مِنْ ثمَرِهِ إِذَا أَثمَر وَآتُوا حَقهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المسْرِفِينَ) [الأنعام:141]؛ ولأنه المقيت فقد تكفل بكامل الرزق للإنسان والحيوان، ويقيت القلوب بالمعرفة والإيمان.
وسبحان المقيت أحاط بالعباد علمًا بأحوالهم وأفعالهم ونياتهم، وما يحتاجون إليه، وأحاط بهم قدرة وقهرًا وهيمنة، فهو على كل شيء قدير، وتولى حفظهم ورزقهم وأقدارهم، يُقيت الأبدان بالأطعمة والأرزاق، ويقيت قلوب من يشاء من عباده بالعلم والإيمان، والسعادة والأمان، -سبحانه- وتعالى.
فهو المقتدر الذي خلق الأقوات، وتكفل بإيصالها إلى الخلق، وساق إليهم الأقوات، وأوْصَل إليهم الضروريات، والكماليات، فتكفل بقوت الأشباح، وقوت الأرواح، حفيظ عليها، يعطي كل مخلوق قوته ورزقه على ما حدّده -سبحانه- من زمان أو مكان، أو كمّ أو كيف، وبمقتضى المشيئة والحكمة، فربما يعطي المخلوق قوتًا يكفيه لأمد طويل أو قصير كيوم أو شهر أو سنة، وربما يبتليه فلا يحصل عليه إلا بمشقة وكلفة، -سبحانه جل شأنه-.
يا عباد الله: وقد سمى الله نفسه في كتابه بالمقيت، قال تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا) [النساء:85]، فالله - عز وجل - من فوق عرشه مقيتٌ لخلقه، له الكمال المطلق في إقاتتهم ورزقهم، فسبحان الله العظيم على حلمه بعد علمه.
أيها المسلمون: ويدور معنى المقيت لغةً على الحفظ والرزق والتدبير. والمقيت -سبحانه- هو خالق الأقوات ومُوصّلها إلى الأبدان، المفيض على عباده ما لا قوام لأبدانهم إلا به، والمنعم عليهم بإيصال حاجتهم إليهم، هو الذي يعطي أقوات الخلائق دون أن يؤثر ذلك العطاء بالنقص على ملكه وخزائنه، فهو الذي أوصل إلى كل الموجودات ما به تقتات، وأوصل إليها أرزاقها، وصرَّفها كيف يشاء بحكمته وحمده، فيقيت عباده ليحافظ على حياتهم فهو الذي أنزل الأقوات للخلق، وقسَّم أرزاقهم كلهم صغيرهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم. قال تعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [هود: 6].
وهذه الأرزاق قدَّرها -سبحانه- عند خلقه للأرض، قال تعالى: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ) [فصلت:10] فسبحان الذي قدّر في الأرض ما يحتاجه أهلها من الأرزاق، كما قدّر أماكنها التي تُزرع فيها وأوقاتها التي فيها تُغرس، ومدة بقائها حتى تنضج، والقدر الذي به يصلح معاشهم من التجارات والأشجار والمنافع.
قال الحليمي: والمقيت معناه المفيض على عباده ما لم يجعل لأبدانهم قوامًا إلا به، والمنعم عليهم بإيصال حاجتهم من ذلك إليهم؛ لئلا تُنَغَّص عليهم لذة الحياة بتأخره عنهم، ولا يفقدوها أصلاً لفقدهم إياه. ومنها الرزاق، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 58]، والرزاق هو المتكفل بالرزق القائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها، وكل ما وصل منه إليه من مباح وغير مباح فهو رزق الله، على معنى أنه قد جعل له قوتا ومعاشًا.
وقال الغزاليّ رحمه الله: "المُقيت معناه خالق الأقوات، ومُوصّلها إلى الأبدان وهي الأطعمة، وإلى القلوب وهي المعرفة، فيكون بمعنى الرزّاق إلّا أنّه أخصّ، فالرزق يتناول القوت وغيره، والقوت ما يُكتفى به في قوام البدن".
والمقيت -سبحانه- هو الحفيظ الذي أحاط بالعباد علمًا بأحوالهم وأفعالهم ونياتهم، القائم على جميع المخلوقات بالتدبير والتصريف، وهو المغيث لعباده في الشدائد إذا دعَوه، ومجيبهم ومخلّصهم، قال تعالى: (وَكَانَ الله على كُلّ شيء مُّقِيتًا) أي: مطلعًا قادرًا، فوصف الله تعالى بالمقيت أتم وأبلغ من وصفه بالقادر وحده وبالعالم وحده؛ لأنه دالّ على المعنيين بلفظ واحد. قال القرطبيّ -رحمه الله- في تفسيره عند تفسيره لقوله تعالى: (وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا): "فالمعنى أن الله تعالى يعطي كل إنسان وحيوان قُوته على ممر الأوقات، شيئًا فشيئًا، فهو يمدّها في كل وقت بما جعله قوامًا لها، فيكون مع اسم الله تعالى القيّوم في المعنى".
أيها المسلمون: إن من أمعن النظر في قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الروم: 40]، يجد كيف أن الله لم يقُل (ثم يرزقكم) أي في المستقبل، بل جاء اللفظ بالماضي، والسر في ذلك أنه تطمين لخلقه، وأمان لهم من الانشغال بالرزق، وحتى لا يحملوا همّه، كما لو أنك أرسلت موظفًا لدولة ما، وأمنّت له مسبقًا لسنوات قادمة مسكنه ومطعمه ومشربه، وكافة احتياجاته، فإن أداءه وقيامه بالمهمة سيكون أرقى وأفضل وآمن مما لو أنك أرسلته وأخبرته أن كفالته ستكون بعد ذهابه؛ لأنه حينها سيبقى متخوفًا مضطربًا يخشى تأخره وانقطاعه، ولله المثل الأعلى -سبحانه- جل شأنه.
وانتبهوا -عباد الله- إلى القوت الحقيقي ولا تخدعنكم الدنيا، قال بعض العلماء: "القوت ذِكْر الحيّ الذي لا يموت" أي أن القوت الحقيقي النافع للعباد هو ذكر الله تعالى الذي تستأنس به القلوب، وتنشرح به الصدور، وتخلد إليه الأرواح، وينتفع به البدن، وتشفى به الأمراض، وتُزال به الأوهام، أما الأقوات الأخرى فليست سوى قوت للأبدان فقط، لذا فإن الله جعل أقوات عِباده وخلقه مختلفة، فمنهم من جعل قوته الأطعمة والأشربة على اختِلاف أنواعها، وهم الآدميون وبعض الحيوانات، ومنهم من جعل قوته الطاعة والتسبيح وهم الملائكة، ومنهم من جعل قوته المعاني والمعارف، وهي العقول التي في الأجساد، وفي العقل نِظام يجمع المحاسن كلها، فالمقيت خالق الأقوات البدنية والروحانية، وموصلها إلى الأرواح والأشباح، -سبحانه- وتعالى.
فما أكرم الله ربنا -جل في علاه- يقيت عباده ويرزقهم، ويعطيهم وهو الغني عنهم –سبحانه وتعالى-، اللهم إنا نسألك من فضلك العظيم وجودك القديم، فكم لك ربنا من أياد ومنن وإحسان.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة، وهو الغني الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله الكريم المقيت، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله البشير النذير، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وعظّموه حق تعظيمه، وأحبوه لما يغذوكم به من نعمه، وأكثروا من دعائه واستغفاره، وأخلصوا له العبادة، يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم، واعلموا أن المقيت -سبحانه- أسبغ علينا نعمه الكثيرة الظاهرة والباطنة، فتفكّر - عبد الله- في طعامك وشرابك، قال تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا *وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا* وَفَاكِهَةً وَأَبًّا* مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) [عبس: 24 - 32].
وإذا تيقنت -عبد الله- أن الله -سبحانه- هو المُقيت الذي يُطعمك ويكفيك؛ فلا تأكل إلا الحلال، ولا تكسب إلا الطيب، فمن أعظم أسباب تقوية القلب: أكل الحلال، ومن أنجح وسائل استجابة الدعاء إطابة المأكل والمشرب، فتحرّى الحلال دائمًا لتكن مجاب الدعوة.
ويجب عليك -أخي- أن تسعى في تحصيل قوت قلبك وروحك، وأعظم قوت للقلب وأنفعه: الذّكر، فقوتُ القلوبِ ذكرُ الحيّ الذي لا يموت، وهذا عتبة الغلام كان يقول: "أنا العطشان من حبّك لا أروى، أنا الجائع الذي لم يشبع من حب ربّي". وكان الرّازي -رحمه الله- يقول: "المُقيت -سبحانه- من شهد النّجوى فأجاب، وعلم البلوى فكشف واستجاب".
وإياك -أخي- أن تسأل حوائجك من غير ربك، وتوجه إلى المُقيت -سبحانه-، فهو الغني الكريم الذي له خزائن كل شيء، وهذا ما أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن عباس -رضي الله عنهما- وسائر الأمة فقال: "إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ" [الترمذي (2516) وصححه الألباني]؛ لأن خزائن الأرزاق بيده، وقد رُوي في الأثر أن موسى -عليه الصلاة والسلام- قال له ربه: "يا موسى! سلني كل شيء، صغيره وجليله وعظيمه، قال: والله, يا ربي! إنه لترد عليَّ الحاجة، وأستحي أن أسألك إياها لصغرها، فقال: لا، بل سلني كل شيء، حتى شراك نعلك، وملح عجينك، وعلف دابتك" [شرح الأربعين النووية (3/44)].
إخوة الإسلام: وعلى المسلم أن يكون قُوته وسطًا قوامًا بين الإسراف والتقتير، قال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُل الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورا) [الإسراء:29]، وعن المقدام بن معد يكرب -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ" [أخرجه الترمذي (2380) وصححه الألباني].
عباد الله: عندما نتحدث عن بعض الألفاظ كالزهد والتوسط في المطعم والمشرب، ينبغي أن نفرّق بين الحرص على أن يكون طعام المسلم قوتًا كفافًا، وبين التجويع والمبالغة في الزهد الذي يصل إلى درجة الإضرار بالنفس والإهلاك لها، فالله -سبحانه- أمر بالاقتصاد في كل شيء، وبالصبر على الجوع عندما يكون ابتلاءً لا حيلة للإنسان فيه، وإن تعذيب البدن والمبالغة في الترك طلبًا للحكمة والمعرفة، لا أصل له في الشرع، بل هو من شطحات الصوفية والمبتدعة، نسأل الله الهداية.
وفي المقابل ينبغي أن لا يكثر المسلم من الأكل الكثير حتى لا يصاب بالتخمة التي تضيع على العبد خيرًا كثيرًا، فقد يكون الأكل واجبًا بقدر ما تقوم به الحياة، ومندوبًا بقدر الشبع الشرعي المقوي له على التنفل، فالقوت إنما يكون لقوام البدن وسلامته من الموت والهلاك لا لتسمينه وانشغاله عن الله، فيصير علافًا لا عابدًا.
واعلموا -إخواني- أن ادخار الإنسان بعض قوته لأيامه المستقبلية؛ حتى لا يشغل عمره به، أن هذا الفعل لا ينافي التوكل على الله، ولا يعارض القدر الذي كتبه الله، فالأخذ بالأسباب أمرٌ مشروع ومتعبَد به، واحتياط الشخص لمستقبله أمر مرغوب، ولو ترك ذريته أغنياء خير من أن يذرهم عالة يتكففون الناس طالما أن عنده خير ومعه مال، وقدوتنا في ذلك خير المتوكلين محمد بن عبد الله، ففي حديث عُمَرَ -رضي الله عنه-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَيَحْبِسُ لأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ" [البخاري (5357)].
وهذا الادخار ليس في بني آدم وحدهم، بل هناك أمم كثيرة تقوم بهذا الأسلوب بإلهام من الله -سبحانه- لها. ولكن هذا الادخار مشروط بعدم الاحتكار أو التضييق والإضرار، أو يكون على حساب التوكل على الله، والاعتماد على النفس، فهذا ما لا يجوز، وإذا زاد الشيء عن حده انقلب لضده.
أيها المسلمون: لا ينبغي للعبد الموفق أن يغفل عن سؤال ربه ودعائه، والتوسل إليه بأسمائه الحسنى، ومن ذلك أن يدعو العبد ربه باسمه المقيت، وهذا ما علمنا إياه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اللَّهُمَّ اجُعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا" [أخرجه ابن ماجه 4139 وصححه الألباني]، فالمقيت هو الذي يعطي كل مخلوق قوته ورزقه على ما حدّده من زمان أو مكان، أو كمّ أو كيف، وبمقتضى المشيئة والحكمة، قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام-: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَل أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم: 37].
واعلموا -عباد الله- أنه ينبغي على العبد أن يتصف بخلق الإيثار ليسد قوت المحتاجين الذين اشتدت عليهم الكروب، وحلت بهم النكبات، وقلَّت لديهم فرص الكسب مع إيمانه وثقته أن القوت من رب العالمين، وقد برز خُلق الإيثار عند الصحابة -رضوان الله عليهم-، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاً (ضيفًا) أَتَى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ -يسألهن إطعامه- فَقُلْنَ مَا مَعَنَا إِلاَّ الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-: "مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلي الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلاَّ قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ، إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلاَ يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ، غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ أَوْ عَجِبَ مِنْ فَعَالِكُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَي أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)" [البخاري (3798)].
وختامًا -أيها المسلمون- ينبغي لنا أن نحمد الله تعالى على ما اتصف به من صفات الكمال والجلال والعظمة، فحمدًا للمقيت -سبحانه- الذي خلق الخلق، وما نسيهم في أقواتهم وأنفاسهم وقواهم، خلق الخلائق، وتكفل بأرزاقهم وعلمه -سبحانه- محيط بكل شيء، وقدرته مهيمنة على كل شيء، ورحمته وسعت كل شيء، وخزائنه مملوءة بكل شيء، وهو المقيت لكل شيء، قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)[الحجر:21]، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَدُ الله مَلأى لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّـهَارَ. وَقَالَ: أرَأيْتُـمْ مَا أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأرْضَ فَإِنَّـهُ لَـمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ" [البخاري (4684)، ومسلم (992)].
فعطروا أسماعكم ونفوسكم -إخوتي- إلى جمال هذا التعبير! فهذا سيد الخلق وأعرفهم بربه يقول: "أرَأيْتُـمْ مَا أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأرْضَ!!" كم أنفق! وكم رزق! وكم أعطى! وكم منع من المصائب والبلايا! وكم وقى من الرزايا؟!.
سبحانه استغنى عن الطعام والشراب والنوم والصاحبة والولد، والخلق فقراء إلى المقيت الذي يقيتهم، ويعولهم من فضله ومنّه وكرمه، ألا فلنحمد الله على نعمه ومنّه وكرمه، وصدق الله تعالى إذ يقول: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ) [النمل: 73]، فيا الله ما أكرم ربنا وأعظمه! ذو فضل على الناس على ظلمهم، وعلى عصيانهم، يقيتهم ويحوطهم، ويطعمهم ويسقيهم، ويرعاهم، ومن كل الخير أعطاهم، ونسأل الله من خير القوت وأفضله قوت الأرواح والنفوس بمعرفة الله ومحبته وطاعته، والقرب من أرحم الراحمين.
فاحرصوا -عباد الله- على محبة المقيت -سبحانه-، واخضعوا لأمره، وانقادوا لشرعه، جنبني الله وإياكم مضلات الفتن، وأسأل الله أن يسعدنا بتقواه، وأن يجعل خير أيامنا وأسعد لحظاتنا يوم أن نلقاه.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا مبدلين ولا مغيرين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، زدنا ولا تنقصنا، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، واجعل أوسع أرزاقنا عند ضعفنا وكبر سننا، اللهم صب علينا الرزق صبًّا، ولا تجعل معيشتنا كدًّ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.