الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
ومن شدة هوله أنه لا يتكلم عند إجازته إلا الرسل داعين الله -تعالى- بالسلامة لمن عبره من أتباعهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أول من يجوز من...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: من مشاهد يوم القيامة مشهد وهول عظيم، وعقبة كؤود إنها عقبة المرور على الصراط، هذا المرور الذي لا مفر منه، والعبور فوقه قبل دخول الجنة، والصراط ينصب على متن جهنم، والنار تحته سوداء مظلمة، وليس للجنة طريق إلا عن طريق هذا الجسر الذي نصب على وسط النار، ولذا قد أقسم الرب -جل جلاله- أن يورد عباده عليها، فقال -تعالى-: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً)[مريم:71-72]؛ فورود المسلمين للنار يكون بالمرور على هذا الصراط الذي بين ظهرانيها، وورود المشركين للنار أن يدخلوها.
أيها المسلمون: إن المرور على الصراط من أعظم الكرب وأخطر المواقف يوم القيامة، ففي الصراط تزل أقدام وتدحض، وعلى حافتيه خطاطيف وكلاليب من نار، وكل فرد منا سيمر عليه لا محالة؛ فإما أن يكمل العبور بسهولة، وإما أن يعبره بصعوبة، وإما أن ينتكس ويسقط! أعاذنا الله وإياكم!.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم"، قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: "مدحضة مزلة -أي: طريق زلق تزلق فيه الأقدام- عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة، لها شوكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السعدان"(رواه البخاري)، وقال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "بلغني أن الجسر أدق من الشعرة، وأحَدُّ من السيف"(رواه مسلم).
ويتضح من هذا أن المرور على الصراط من أخطر كرب يوم القيامة؛ لأن فيه من الشدائد والخوف والرعب، وقد سألت أمنّا عائشة رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحدٌ أحداً: عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أو يثقل، وحيث الكتاب حين يقال: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ) حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أم شماله أم من وراء ظهره، وعند الصراط إذا وُضع بين ظهري جهنم"(رواه أبو داود).
إن هذه الأحاديث توضح لنا أن الصراط من الكروب والأهوال الكبيرة التي تستوجب علينا الحرص على الأعمال التي تنجينا منه؛ لذا قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "إن المؤمن لا يسكن رَوْعُه حتى يترك جسر جهنم وراءه".
أيها المؤمنون: ولهول الصراط وصعوبته يأتي رسولنا -صلى الله عليه وسلم- بنفسه؛ ليحضر هذا الموقف رحمة منه وشفقة بأمته؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يشفع لي يوم القيامة فقال: "أنا فاعل"، قال: قلت: يا رسول الله، فأين أطلبك؟ قال: "اطلبني أول ما تطلبني على الصراط"(صحيح الترغيب).
ومن شدة هوله أنه لا يتكلم عند إجازته إلا الرسل داعين الله -تعالى- بالسلامة لمن عبره من أتباعهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذٍ: اللهم سلم سلم"(متفق عليه)، وحسبك بدعائهم ذلك بياناً لما سيكون عليه الأمر من كرب شديد.
أيها المسلمون: ومرور الناس على الصراط يختلف بحسب اختلاف استقامتهم على الصراط المستقيم في الدنيا؛ فمنهم من يمر عليه سريعاً كالبرق فينجو منه، ومنهم من تخدشه كلاليب الصراط أو تقطّع لحمه ثم ينجو، ومنهم من يُحبَس على الصراط فيعاني الشيء العظيم من لفح جهنم وألوان الخوف والرعب الذي تنخلع له الأفئدة حتى ينجو، ومنهم من يوبقه عمله فيسقط في النار، والعياذ بالله.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَشَدِّ الرِّجَالِ، تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا، وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنِ اُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ"(رواه مسلم).
فمن استقام على الصراط المستقيم في الدنيا أعانه الله ويسر عليه المرور في صراط الآخرة، ومن أعاقته الشهوات عن التزام صراط الله في الدنيا؛ فعلى جَانبي الصراط كلاليب تَعُوق مَن علقت به عن العبور على حسب ما كانت تعوقه الدنيا وشهواتها عن طاعة الله، ومن حاد عن الصراط المستقيم في الدنيا فلن يصمد على صراط الآخرة فسيهوي إلى جهنم.
أيها الناس: وأول من يجوز الصراط من الأمم أمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- لكرامتها عند الله -عز وجل-، وأول من يجوز من هذه الأمة هو سيدنا ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- لقوله: "فأكون أنا وأمتي أول من يمر، أو قال: أول من يجيز"(السنة لابن أبي عاصم)، وأول من يجوز من هذه الأمة بعد نبيها هم فقراء المهاجرين؛ فعن ثوبان -رضي الله عنه- أن حبراً من أحبار اليهود سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عدة أسئلة كان منها قوله: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هم في الظلمة دون الجسر"، قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: "فقراء المهاجرين"(رواه مسلم).
وأما آخر الناس مروراً على الصراط فهو الذي يمشي مرة ويكبو مرة؛ فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "آخر من يدخل الجنة رجل يمشي على الصراط، فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك؛ لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين"(رواه مسلم).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
عباد الله: مما يزيد من هول الصراط وكربته الظلمة المطبقة التي عليه؛ فلا يستطيع أحد الرؤية إلا من آتاه الله نوراً يهتدي به في تلك الظلمات، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)[النور:40]، وهذا النور يعطيه الله للمؤمنين؛ كل مؤمن على قدر عمله؛ ليبصر به في ذلك الظلام الدامس، قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، منهم من نوره مثل الجبل، وأدناهم نوراً من نوره على إبهامه يطفئ مرة ويُقدّ مرة"(رواه الحاكم)، ويعطيه أيضاً للمنافقين مكراً بهم؛ فبينما هم يمشون على الصراط؛ إذ ذهب ذلك النور، وأما الكافر فإنه يمشي في ظلام بهيم ولا يعطى من النور شيئاً.
ولقد وصف الله لنا مشهد المؤمنين وهم يسعون في نورهم، ومشهد المنافقين وهم يتخبطون في ظلمتهم، وينادون المؤمنين أن ينتظروهم؛ ليقتبسوا من نورهم ليروا طريقهم؛ فقال الله -تعالى-: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[الحديد:12-15].
عباد الله: وإذا مر المؤمنون على الصراط ونجوا فإنهم يحبسون قبل دخول الجنة في موضع يقال له: "القنطرة" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَخْلُصُ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ"(البخاري)، والقنطرة: هي "طرف الصراط مما يلي الجنة"(ابن حجر)".
وهذا القصاص غير القصاص الأول الذي في عرصات القيامة؛ لأن هذا قصاص أخص لأجل أن يذهب الغل، والحقد، والبغضاء التي في قلوب الناس فيكون هذا بمنزلة التنقية والتطهير، وذلك لأن ما في القلوب لا يزول بمجرد القصاص، فهذه القنطرة التي بين الجنة والنار لأجل تنقية ما في القلوب حتى يدخلوا الجنة وليس في قلوبهم غل"(ابن عثيمين)، قال -تعالى-: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)[الحجر: 47].
عباد الله: تتفاوت سرعة مرور الناس على الصراط بقدر أعمالهم؛ فأعمالك الصالحة هي التي ستحدد مقدار سرعتك عليه، ولذا فهي من أهم الوسائل المعينة للعبور الصراط بسلام؛ فتقرب إلى الله -تعالى- بكل ما يحبه ويرضاه، وتجنب كل ما يسخط الله -تعالى- من شهوات محرمة، وكبائر ذنوب.
فالإكثار من الأعمال الصالحة، والمبادرة إلى الاستغفار والتوبة من كل ذنب هو سبيلنا الوحيد للنجاة من هول هذا الكرب العظيم، ومن فرّط في ذلك، وَأَلْهَتْهُ حياته عن آخرته، ولم يأخذ الأمر بالجد، ندم أشد الندم، ولات ساعة مندم عند اشتداد كربات يوم القيامة.
لقد كان أسلافنا الصالحون يعيشون همَّ هذا الصراط، ويجعلونه نصب أعينهم في كل تصرفاتهم؛ فزكت نفوسهم، وقلت ذنوبهم، وكثرت حسناتهم؛ فعلينا أن نحذو حذوهم، ونقتفي أثرهم.
أيها الناس: إن وراءنا أهوالا عِظاما يشيب لها الوالدان؛ فالواجب أن نكثر من الأعمال الصالحات، ونخفف من المعاصي السيئات، ونسأل الله من فضله في الدنيا، وفي الآخرة الفوز والثبات.
ألا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).