المؤمن
كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | العقيدة - أركان الإيمان - التوحيد |
إنه لا مخرج للأمة من كل ما تعانيه اليوم من ضعف وتقهقر سوى برجوعها الصادق إلى الدين الحق، والتمسك بالمعتقد السليم والصحيح، فاحرصوا -يا رحمكم الله- على عقيدتكم الصحيحة، وتمسكوا بها غاية التمسك، واهتموا بتنقيتها عن كل ما يشوبها من تكدير، وكونوا معلمين ومرشدين لمن حولكم إلى صحيح المعتقد، واحذروا من أهل الزيغ والأهواء والمنحرفين عن العقيدة التي..
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
معاشر المؤمنين: إن العقيدة الصحيحة هي أساس كل عمل يقوم به المسلم، وشرط في قبوله، وهي ركيزة الدين التي يقوم عليها، وقوام السعادة في الدارين للمتمسكين بها، لذلك لا أخطر على الإنسان من الانحراف فيها والزيغ عنها.
وحتى يحمي المسلم عقيدته من الانحراف الذي وقعت فيه كثير من الفرق والجماعات التي ضلت عن طريق العقيدة الصافية والفطرة السليمة، يجب عليه أن يعرف الأسباب التي تحرفه عن العقيدة الصحيحة، ومن تلك الأسباب ما يلي:
أولاً: تفشّي الجهل بالعقيدة الصحيحة؛ بسبب الإعراض عن تعلمها وتعليمها، أو قلة الاهتمام والعناية بها؛ وذلك يؤدي لنشوء جيل لا يعرفُ تلك العقيدة الصحيحة، ولا يعرف ما يخالفها ويضادها؛ فيعتقد الحق باطلاً، والباطل حقًّا؛ كما قالَ الخليفة الراشد عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إنما تُنقضُ عُرى الإسلام عروةً عروةً إذا نشأ في الإسلام من لا يعرفُ الجاهلية".
ثانياً: التّعصُّبُ لما عليه الآباء والأجداد، والتمسك به وإن كان باطلاً، وترك ما خالفه وإن كان حقًّا، كما قال الله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة:170].
ثالثاً: التقليدُ الأعمى بأخذ أقوال الناس في العقيدة من غير معرفة دليلها، ومعرفة مدى صحتها؛ وهذا هو الواقعُ من الفرقِ المخالفة للمعتقد الصحيح من جهمية ومعتزلة، وأشاعرة وصوفية، وغيرهم، حيثُ إنهم يقلدون من قبلهم من أئمة الضلال؛ فضلُّوا وانحرفوا عن الاعتقاد الصحيح.
رابعاً: الغُلُوّ في الأولياء والصالحين، ورفعهم فوق منزلتهم؛ بحيث يُعتقد فيهم ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب النفع، ودفع الضر، واتخاذهم وسائط بين الله وبين خلقه في قضاء الحوائج وإجابة الدعاء؛ حتى يؤول الأمر إلى عبادتهم من دون الله، والتقرب إلى أضرحتهم بالذبائح والنذور، والدعاء والاستغاثة وطلب المدد، كما حصل من قوم نوح في حق الصالحين حين قالوا: (لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) [نوح: 23]، وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه أخبر عن أصنام قوم نوح أنها صارت في العرب، ثم قال: "أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونُسِخ العلم، عُبدت من دون الله".
ولذلك ينبغي للمسلم أن يحذر من التساهل في هذا الباب؛ لئلا يؤدي به أو يؤدي بمن يراه أو يقلده أو يأتي بعده إلى الوقوع في الشرك الأكبر.
خامساً: ومن أسباب الانحراف عن العقيدة الصحيحة؛ غفلة الناس عن تدبر آيات الله الكونية، وآيات الله الشرعية، وانبهارهم بمعطيات الحضارة المادية؛ حتى ظن بعضهم أن ذلك من مقدور البشر وحده؛ فصاروا يُعظِّمون البشر، ويضيفون هذه المعطيات إلى مجهوده واختراعه وحده، كما قال قارون من قبلُ: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص: 78]، وكما يقول الإنسان (هَذَا لِي) [فصلت: 50]، (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ) [الزمر: 49]؛ ولم يتفكروا وينظروا في عظمة مَن أوجد هذه الكائنات، وأودعها هذه الخصائص الباهرة، وأوجد البشر وأعطاهُ المقدرةَ على استخراج هذه الخصائص، والانتفاع بها: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات: 96]، وقوله: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) [الأعراف: 185].
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم: 32- 34].
سادساً: ومن أسباب الانحراف عن العقيدة الصحيحة: أن البيت أصبح في الغالب خاليًا من التوجيه السليم؛ وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، فالأبوان لهما دور كبير في تقويم اتجاه الطفل.
سابعاً: فساد بعض المناهج التعليمية ووسائل الإعلام المقروءة والمرئية؛ حيث صارت مناهج التعليم -للأسف- في الغالب لا تولي جانب الدين اهتمامًا كبيرًا، أو لا تهتم به أصلاً، وأضحت وسائلُ الإعلام سواء المرئية والمسموعة والمقروءة في الغالب أداة هدم وتدمير وانحراف، أو أنها تهتم بأشياء مادية وترفيهية، ولا تولي عناية لما يُقَوِّمُ الأخلاق، ويزرع العقيدة الصحيحة، ويقاوم التيارات المنحرفة؛ حتى ينشأ جيلٌ أعزلُ أمام جيوش الإلحاد لا يدان له بمقاومتها.
وكما أن لتحقيق العقيدة الصحيحة أسبابًا ووسائل كذلك للانحراف عنها أخطارًا عظيمة وآثارًا أليمة، ومن تلك الأخطار والآثار:
عدم قبول الأعمال من صاحبها والخسارة في الآخرة، قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85]؛ أي: أن من يدين لله بغير دين الإسلام التي ارتضاه الله لعباده، ويعتقد غير عقيدة خير الأنام، فليس لعمله أجرٌ وهو مردود على صاحبه.
ومن آثار الانحراف عن العقيدة السوية: العذاب الأليم، قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) [مريم: 41 - 45].
ومن الآثار -أيضًا-: حرمان الجنة والخلود في النار، قال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) [المائدة: 72]، أي: أن من صرف شيئًا من العبادة لغير الله فجزاؤه النار، وأي ذنب أعظم من الإخلال في توحيد الله والانحراف إلى من سواه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد النّبي الأمي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
أيها المؤمنون: ولا يخفى على كل عاقل أن الانحراف عن العقيدة السليمة خطير جداً، وتفشّي تلك الانحرافات العقدية هي سبب مصائب المسلمين، لهذا كان لازماً أن نعرف سبل التّوقِّي عن هذا الانحراف، حتى نتخلص من تلك الآفة العظيمة، ونسير على الطريق المستقيم، الموصِّل إلى مرضاة الله تعالى ونعيمه، وتلك السبل الواقية من الانحراف تتلخص فيما يلي:
الاهتمام بالعقيدة تعلماً وتعليماً؛ فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلِّم أصحابه العقيدة الصافية، ويغرس ذلك في قلوبهم منذ الصغر، روى الترمذي حديثا عن ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قَالَ: "كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا فَقَالَ: "يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؛ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ".
ومن الوسائل والسبل التي تقي من الانحراف عن العقيدة الصحيحة: معرفة العقائد الباطلة والفرق الضالة والحذر منها، وقد جاء في الصحيحين عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: "كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير وكنت أسأله عن الشر؛ مخافةَ أن يدركني"، وأيّ شر أعظم من الانحراف عن العقيدة الصحيحة والزيغ عنها؟!
أيها المسلمون: إنه لا مخرج للأمة من كل ما تعانيه اليوم من ضعف وتقهقر سوى برجوعها الصادق إلى الدين الحق، والتمسك بالمعتقد السليم والصحيح، فاحرصوا -رحمكم الله- على عقيدتكم الصحيحة، وتمسكوا بها غاية التمسك، واهتموا بتنقيتها عن كل ما يشوبها من تكدير، وكونوا معلمين ومرشدين لمن حولكم إلى صحيح المعتقد، واحذروا من أهل الزيغ والأهواء والمنحرفين عن العقيدة التي ارتضاها رب الأرض والسماء.
اللهم احفظ لنا عقيدتنا التي ارتضيتها لنا وجنِّبنا سبل أهل البدع والضلال واغفر لنا وارحمنا وأسعدنا بالتمسك بشريعتك وأدخلنا الجنة بفضلك يوم المآل.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].