الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الأطفال |
إِعْطَاءُ الطِّفْلِ جُرْعَةً كَافِيَةً مِنَ الْحُبِّ وَالْحَنَانِ، وَالرِّعَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ، وَإِيجَادِ بَعْضِ وَسَائِلِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، حَتَّى فِي أَيَّامِ الْأَحْزَانِ وَالْأَكْدَارِ فِي الْبَيْتِ، وَمُحَاوَلَةِ الْبُعْدِ الشَّدِيدِ عَنِ الْخِلَافَاتِ الزَّوْجِيَّةِ أَمَامَهُ، وَكَذَلِكَ الْبُعْدُ عَنْ طَرْحِ الْمُشْكِلَاتِ وَأَسْبَابِ الْقَلَقِ عَلَى سَمْعِهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَهَا أَثَرُهَا السَّلْبِيُّ الْكَبِيرُ عَلَى صِحَّتِهِ النَّفْسِيَّةِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الطِّفْلَ جَوْهَرَةٌ ثَمِينَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى عِنَايَةٍ، وَلَا تَبْقَى عَلَى نَقَائِهَا إِلَّا إِذَا أُولِيَتِ الِاهْتِمَامَ وَالرِّعَايَةَ، وَمَتَى مَا نَالَ الطِّفْلُ ذَلِكَ اسْتَقَامَ وَتَشَكَّلَتْ شَخْصِيَّتُهُ بِاعْتِدَالٍ.
وَلْيَعْلَمْ كُلُّ وَالِدٍ وَمُرَبٍّ أَنَّ لِلطِّفْلِ حَاجَاتٍ يَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ إِلَى قَضَائِهَا، وَالْمُسَارَعَةُ إِلَى تَلْبِيَتِهَا بِالطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ وَبِالْقَدْرِ الْمُنَاسِبِ؛ إِذِ التَّوَسُّطُ فِي ذَلِكَ مَطْلُوبٌ؛ لِأَنَّ الْإِفْرَاطَ يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ الطِّفْلِ، وَالتَّفْرِيطُ يُوصِلُ إِلَى تَعَقُّدِهِ وَضِيقِهِ. وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كَثِيرًا مَا يُرْشِدُنَا إِلَى الِاعْتِدَالِ فِي الْأُمُورِ فِي عَدَدٍ مِنْ آيَاتِهِ؛ كَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[الفرقان: 67].
وَالْحَاجَاتُ الَّتِي يَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ إِلَى قَضَائِهَا لِلْأَطْفَالِ كَثِيرَةٌ؛ فَمِنْهَا الرُّوحِيَّةُ، وَمِنْهَا الْعَقْلِيَّةُ، وَمِنْهَا النَّفْسِيَّةُ، وَمِنْهَا الْبَدَنِيَّةُ، وَيَأْتِي فِي مُقَدِّمَتِهَا: تَعْلِيمُهُ أُصُولَ دِينِهِ، وَمَعَالِمَ شَرْعِ رَبِّهِ، وَتَنْبِيهُهُ عَلَى خَالِقِهِ الَّذِي خَلَقَهُ، وَدِينِهِ الَّذِي شَرَعَهُ؛ وَلَقَدْ كَانَتْ أَهَمَّ مَا عَمِلَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِابْنِ عَبَّاسٍ حَيْثُ قَالَ: "يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ"(رواه أحمد والترمذي).
"وَهُنَا نُلَاحِظُ كَيْفَ رَسُولُنَا وَمُعَلِّمُنَا الْكَرِيمُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَامَ بِتَرْسِيخِ الْعَقِيدَةِ السَّلِيمَةِ فِي نَفْسِ ذَلِكَ الطِّفْلِ، وَالَّذِي أَصْبَحَ عَلَمًا مِنْ أَعْلَامِ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ بِحَسَبِ مَا ذَكَرَهُ الْعَدِيدُ مِنْ رِجَالِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى نِصْفِ عَقِيدَةِ الْمُسْلِمِ"(أعراض وأسباب الضعف النفسي الذي أصاب غالب المسلمين (ص: 14).
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ"(رواه أبو داود).
وَفِي قِصَّةِ لُقْمَانَ مَعَ ابْنِهِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى قَضَاءِ هَذِهِ الْحَاجَةِ لِلطِّفْلِ أَمْثِلَةٌ عَدِيدَةٌ، فَعَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ أَنْ يَرْجِعَا إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ وَيَتَأَمَّلَا فِيهَا الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ وَالْعِبَرَ وَالْعِظَاتِ.
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ حَاجَاتِ الطِّفْلِ الَّتِي يَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ إِلَيْهَا: فَتْحُ مِظَلَّةِ عَقْلِهِ لِتُحَلِّقَ فِيمَا حَوْلَهُ مِنَ الْعَوَالِمِ، وَتَعْرِيفُهُ بَعْضَ أُمُورِ الْحَيَاةِ، وَالْإِجَابَةُ عَلَى أَسْئِلَتِهِ، وَالَّتِي مِنْ خِلَالِهَا يُرِيدُ لِعَقْلِهِ أَنْ يَنْطَلِقَ لِمَعْرِفَةِ مَا يُشَاهِدُ وَيَسْمَعُ.
أَيُّهَا الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ: إِنَّ "هَذَا النُّمُوَّ الْعَقْلِيَّ السَّرِيعَ عِنْدَ طِفْلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِعْدَادِكَ وَصَبْرِكَ وَاهْتِمَامِكَ بِأَسْئِلَتِهِ وَإِجَابَتِكَ عَلَيْهَا الْإِجَابَةَ الصَّادِقَةَ وَالصَّحِيحَةَ"، وَإِيَّاكَ وَالْإِجَابَة الْخَاطِئَةَ، فَـ"هَذَا وَلَدٌ سَأَلَ أَبَاهُ: يَا أَبِي: لِمَاذَا الْبَيْضُ الَّذِي نَشْتَرِيهِ مَا يَفْقِسُ وَيَطْلُعُ كَتَاكِيتَ؟ الْأَبُ مَا يَعْرِفُ؛ فَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ طِفْلَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ، فَقَالَ: هُمْ يُعْطُونَ إِبَرًا مِثْلَ الَّتِي عِنْدَ الطَّبِيبِ مِنْ أَجْلِ أَنْ لَا يَفْقِسَ، فَقَعَدَ الطِّفْلُ يُفَكِّرُ، فَذَهَبَ وَأَتَى بِبَيْضَةٍ وَسَأَلَهُ: أَيْنَ مَكَانُ الْإِبْرَةِ؟ فَالْأَبُ تَوَرَّطَ، وَمَع إِلْحَاحِ الطِّفْلِ اعْتَرَفَ الْأَبُ فَقَالَ: وَاللهِ يَا وَلَدِي مَا أَدْرِي لِيش الْبَيْضُ مَا يَفْقِسُ! يَا لَيْتَ هَذَا الْأَبَ مِنَ الْبِدَايَةِ قَالَ: وَاللهِ سُؤَالُكَ ذَكِيٌّ، وَلَا أَعْرِفُ جَوَابَهُ الآنَ، لَكِنْ -بِإِذْنِ اللهِ- نَسْأَلُ وَاحِدًا يَعْرِفُهُ، هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ، وَلَا يَعْتَرِفُ بِجَهْلِهِ وَيَهُزُّ مِصْداقِيَّتَهُ عِنْدَ وَلَدِهِ، وَيُثْبِتُ لَهُ عَمَلِيًّا أَنَّ أَبَاهُ كَذَّابٌ، أَوْ يَقُولُ لَهُ مَعْلُومَةً غَيْرَ صَحِيحَةٍ"(طفلك من الثانية إلى العاشرة توجيهات تربوية (ص: 25،23) ).
وَمِنْهَا -أَيْضًا-: الْحَاجَةُ إِلَى مَا يُعِينُ عَلَى اسْتِقْرَارِ نَفْسِيَّةِ الطِّفْلِ، وَإِبْعَادِهَا عَنِ الِاضْطِرَابَاتِ؛ "فَـالطِّفْلُ كَائِنٌ رَقِيقٌ سَهْلُ التَّشْكِيلِ، وَسَهْلُ التَّأَثُّرِ بِمَا يَدُورُ حَوْلَهُ، وَمِنْ هُنَا تَكُونُ مَسْئُولِيَّتُنَا نَحْنُ -الآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ- كَبِيرَةً فِي تَنْشِئَةِ الطِّفْلِ وَتَوْجِيهِهِ .. إِمَّا إِلَى الطَّرِيقِ الصَّحِيحِ فَيَنْشَأُ شَابًّا عَلَى نَهْجٍ سَلِيمٍ، بَعِيدًا عَنِ الِاضْطِرَابَاتِ وَالْمَشَاكِلِ النَّفْسِيَّةِ .. وَإِمَّا أَنْ يَنْشَأَ مَلِيئًا بِالْعُقَدِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي تُؤَدِّي بِهِ إِمَّا إِلَى الْجُنُوحِ أَوِ الْمَرَضِ النَّفْسِيِّ"(مقالات نفسية في تربية الأطفال (ص: 1) ).
فَلِذَلِكَ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى قَضَاءِ هَذِهِ الْحَاجَةِ؛ حَتَّى تَصْلُحَ نَفْسِيَّتُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ إِعْطَاؤُهُ جُرْعَةً كَافِيَةً مِنَ الْحُبِّ وَالْحَنَانِ، وَالرِّعَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ، وَإِيجَادِ بَعْضِ وَسَائِلِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، حَتَّى فِي أَيَّامِ الْأَحْزَانِ وَالْأَكْدَارِ فِي الْبَيْتِ، وَمُحَاوَلَةِ الْبُعْدِ الشَّدِيدِ عَنِ الْخِلَافَاتِ الزَّوْجِيَّةِ أَمَامَهُ، وَكَذَلِكَ الْبُعْدُ عَنْ طَرْحِ الْمُشْكِلَاتِ وَأَسْبَابِ الْقَلَقِ عَلَى سَمْعِهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَهَا أَثَرُهَا السَّلْبِيُّ الْكَبِيرُ عَلَى صِحَّتِهِ النَّفْسِيَّةِ؛ إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ الْحَذَرُ مِنَ الإِسْرَافِ فِي الْحُبِّ وَالْعِنَايَةِ الزَّائِدَةِ الَّتِي تَصِلُ إِلَى حَدِّ الْإِفْرَاطِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَهُ مَضَرَّةٌ كَبِيرَةٌ عَلَى شَخْصِيَّةِ الطِّفْلِ وَنَفْسِيَّتِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ تِلْكَ الْحَاجَاتِ كَذَلِكَ: حَاجَةُ الْأَطْفَالِ إِلَى الْغِذَاءِ، وَهَذَا حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى الْأَبَوَيْنِ يَجِبُ أَنْ يُبَادِرَا إِلَيْهِ، فَالْأُمُّ بِالرَّضَاعِ الطَّبِيعِيِّ، وَالْأَبُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ قَلَّ الرَّضَاعُ الطَّبِيعِيُّ فَعَلَى الْأَبِ الإِرْضَاعُ الصَّنَاعِيُّ، وَعَلَى الْأُمِّ الْقِيَامُ بِهَذِهِ الْمُهِمَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- هَذَا الْحَقَّ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[البقرة:233].
وَقَدْ ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سُنَّتِهِ هَذَا الْحَقَّ فَقَالَ: "كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ"(رواه أبو داود والحاكم وغيرهما وسنده صحيح).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الْمُبَادَرَةَ إِلَى هَذِهِ الْحَاجَةِ لِلطِّفْلِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِاعْتِدَالٍ، فَالطَّبِيعَةُ الْأَبَوِيَّةُ تَحُثُّ الْأَبَوَيْنِ عَلَى إِطْعَامِ الْأَطْفَالِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّفْكِيرُ الصَّحِيحُ حَاضِرًا مَعَ هَذِهِ الِجِبلَّةِ؛ وَذَلِكَ بِأَلَّا يُؤَدِّيَ هَذَا الِاهْتِمَامُ إِلَى الْإِسْرَافِ فِي تَغْذِيَةِ الطِّفْلِ الَّذِي لَهُ أَضْرَارُهُ الصِّحِّيَّةُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْغِذَاءِ يُوَلِّدُ أَمْرَاضًا كَثِيرَةً، فَيَجِبُ الِانْتِبَاهُ لِهَذَا.
نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- الْإِعَانَةَ عَلَى تَلْبِيَةِ هَذِهِ الْحَاجَاتِ لِأَطْفَالِنَا، وَأَنْ يُصْلِحَهُمُ اللهُ لَنَا صِغَارًا وَكِبَارًا.
قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، الْفَرْدِ الصَّمَدِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنَ الْأَسَالِيبِ الْحَسَنَةِ فِي تَرْبِيَةِ الطِّفْلِ: تَحَيُّنُ الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ لِلنُّصْحِ، فَالنَّصِيحَةُ مِنَ الْأَسَالِيبِ التَّرْبَوِيَّةِ النَّاجِحَةِ الَّتِي كَانَتْ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الدَّعْوَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ مَارَسَهَا رَسُولُنَا الْكَرِيمُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-. لَكِنَّ الَّذِي يَنْبَغِي لَفْتُ الِانْتِبَاهِ إِلَيْهِ هُوَ تَحَيُّنُ الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ لِلنَّصِيحَةِ، وَتَأَمَّلُوا مَعِي هَذِهِ الْقِصَّةَ الْقَصِيرَةَ الَّتِي نُلَاحِظُ فِيهَا مَا هُوَ الْوَقْتُ الْمُنَاسِبُ لِلنَّصِيحَةِ. جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ".
فَانْظُرُوا هُنَا كَيْفَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مَنَعَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَقْطَعُوا عَلَى الْأَعْرَابِيِّ بَوْلَهُ، وَالسَّبَبُ: أَنَّ الْوَقْتَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْبَوْلِ سَيَضُرُّ الْأَعْرَابِيَّ، وَسَيُلَوِّثُ بُقَعًا كَثِيرَةً مِنَ الْمَسْجِدِ، وِلِأَنَّ الشِّدَّةَ فِي نُصْحِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ سَتُنَفِّرُهُ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَغَيْرِهَا نَهَى رَسُولُ اللهِ الصَّحَابَةَ عَنِ النُّصْحِ فِي ذَلِكَ الظَّرْفِ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: "إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ".
لَكِنَّ الْأَمْرَ قَدْ يَخْتَلِفُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ؛ فَفِي أَثْنَاءِ الطَّعَامِ الْفُرْصَةُ مُوَاتِيَةٌ لِلْوَالِدَيْنِ لِنُصْحِ الطِّفْلِ إِلَى آدَابِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ لِأَنَّ النَّصِيحَةَ لَوْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ بَعِيدٍ رُبَّمَا تُنْسَى عِنْدَ الطَّعَامِ؛ وَلِهَذَا تَحَيَّنَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُصْحَ رَبِيبِهِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عِنْدَ الْأَكْلِ مَعَهُ، فَعَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ؛ أَيْ: تَتَحَرَّكُ وَتَمْتَدُّ إِلَى نَوَاحِي الصَّحْفَةِ، وَلَا تَقْتَصِرُ عَلَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا غُلَامُ: سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ"(متفق عليه).
أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: وَمِنَ الْأَسَالِيبِ الصَّحِيحَةِ فِي تَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ: مُسَاعَدَتُهُمْ عَلَى الْبِرِّ وَالطَّاعَةِ، فَالطِّفْلُ قَدْ يَجْهَلُ وُجُوبَ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، فَلِهَذَا "يُعَوَّدُ الطِّفْلُ عَلَى احْتِرَامِ وَالِدَيْهِ وَطَاعَتِهِمَا وَبِرِّهِمَا، فَيَنْشَأُ عَلَى ذَلِكَ وَيَأْلَفُهُ، وَكَثِيرٌ مِنْ حَالَاتِ الْعُقُوقِ وَتَعَدِّي الْأَبْنَاءِ عَلَى حُقُوقِ آبَائِهِمْ إِنَّمَا حَصَلَتْ نَتِيجَةً لِتَقْصِيرِ الآبَاءِ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ، وَتَعْوِيدِهِمْ عَلَى الْبِرِّ مُنْذُ الصِّغَرِ"(الوجيز في التربية (ص: 13)).
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لِيُبَادِرِ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ إِلَى تَلْبِيَةِ حَاجَاتِ أَطْفَالِهِمُ الْمَشْرُوعَةِ، وَلْيَتَحَيَّنُوا فُرَصَ نُصْحِهِمْ، وَلْيُعِينُوهُمْ عَلَى بِرِّهِمْ، وَرَحِمَ اللهُ وَالِدًا أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].