البحث

عبارات مقترحة:

الحفيظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...

السبوح

كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...

المتكبر

كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...

أسرة من المدينة المنورة

العربية

المؤلف عبد الرحمن بن محمد بوكيلي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - أعلام الدعاة
عناصر الخطبة
  1. الحاجة لمعرفة النماذج المشرقة من حياة السلف .
  2. قصة أسرة تعيسة .
  3. مكونات أسرة أبي طلحة -رضي الله عنه- وقيام كل فرد فيها بدوره .
  4. مبادئ عاشت لها ولأجلها أسرة أبي طلحة -رضي الله عنه- .
  5. شجاعة وجهاد أم سليم -رضي الله عنه- .

اقتباس

عاش هذا الصحابي الجليل مجاهدًا مقدمًا متفانيًا بماله ونفسه ودمه في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وفي عهد أبي بكر -رضي الله عنه-، وفي جهاد الفُرس استعصت معركة على المسلمين والمجاهدين، فجاؤوا إلى...

الخطبة الأولى:

أما بعد: تعالوا بنا -أيها الإخوة الأعزاء- بعدما تحدثنا عن واجبات كل زوج نحو زوجه داخل الأسرة المسلمة، تعالوا بنا اليوم نعيش لحظات سريعة مع أسرة مرضية طيبة، مع أسرة يحبها الله وتحبه، مع أسرة يحبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتحبه، مع أسرة من المدينة المنورة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنني أعلم -معشر الإخوة الكرام- أن حاجتنا لمعرفة بعض النماذج والوقوف على المنهج الذي عاشوا عليه والمبادئ التي تربوا عليها، حاجتنا إلى هذا النموذج حاجة ماسة.

نعم -أيها الإخوة الكرام- واقعنا اليوم يزخر بعدد من الأسر والعائلات الطيبة، رغم ذلك فإن الأسر كي تعرف دينها أكثر لا بد من معرفة النماذج الطيبة والأمثلة الرائعة من سيرة سلفنا الصالح، خصوصًا في واقعنا الزاخر بنماذج أسر سيئة، فالعديد من العائلات -للأسف الشديد- تعيش الجحيم والشقاء، وتعيش الضنك والأزمات تلو الأزمات.

كنت أقرأ لقارئ مؤمن طيب يقرأ القرآن الكريم في بيته، وكانت له زوجة تَعِسة شقية معذَّبة ومعذِّبة، فلما وصل إلى قوله تعالى: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)[الزخرف: 70] وضع المصحف الشريف وقال: "اللهم يا رب لا تفعل، يا ربّ لا تفعل".

الآية الكريمة تبشّر المؤمنين، فتقول لهم: إن الله -سبحانه وتعالى- سيجمعكم أنتم وأزواجكم في الجنة، لما قرأ هذا الرجل صاحب الزوجة التعسة هذه الآية فزع، وقال: سيجمع الله بيني وبينها يوم القيامة مرة أخرى، فقال: اللهم لا تفعل، فقالت له: لماذا تدعو بهذا؟! لماذا تطلب أن لا يجمع الله بيني وبينك في الآخرة؟! قال لها: أنا في الدنيا أعيش معك الجحيم، ورغم ذلك فإني صابر، فكيف أصبر على عذابك مرة أخرى يوم القيامة؟! فقالت: بالله عليك لا تسأل ربك هذا، فإني تائبة إلى الله راجعة إليه.

ومن هذه الحكاية اللطيفة التي نفتتح بها هذه الخطبة يتضح أثر القرآن الكريم في إصلاح أحوالنا وأحوال الناس جميعًا متى تَلَوْه، وعملوا به، وتمسكوا به.

الأسرة التي سأتحدث عنها -إخواني- هي أسرة أم سُلَيم -رضي الله عنها- هذه المرأة الصالحة، هذه الصحابية الجليلة أم سُلَيم المكناة بالرُّمَيْصَاء، قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رَأَيْتُنِي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاءِ امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ"(أخرجه البخاري ومسلم)، ورؤَى الأنبياء وحي وحقّ، ألم تقرؤوا قول رب العزة عن إبراهيم إذ قال لابنه: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى)[الصافات: 102]؟! فهي امرأة لا كالنساء، وصحابية جليلة من خيرة الصحابة، هي مبشرة بالجنة، ولعل هذه البشارة بالجنة تثير الانتباه، وتجعلنا نتساءل: كيف وصلت هذه المرأة إلى هذه المرتبة؟

لما أسلمت جاءت إلى مالك زوجها، وكان رجلا مخمرًا، كان لا يفارق الخمر، كانت هذه المصيبة متجذّرة فيه لا يستطيع مفارقتها بتاتًا ولو ضحّى بكل شيء في سبيلها كشأن المخمرين، فقالت: جئت اليوم بما تكره، فقال: لا تزالين تجيئين بما أكره من عند هذا الأعرابي، قالت: كان أعرابيًا اصطفاه الله واختاره وجعله نبيًا، قال: ما الذي جئت به؟ قالت: حُرِّمت الخمر، قال: هذا فراق بيني وبينك، فمات مشركًا، وتركها وأبناءها"(رواه البزار بسند رجاله ثقات).

ولعل هذا -إخوتي الأعزاء- أول امتحان تعرضت له هذه المرأة الصالحة المؤمنة، ولا يخفى أنه امتحان عسير، فإنه ليس من السهل أن تعرض أسرتك بين عشية وضحاها لزلزال عظيم مثل هذا بدافع الإسلام، وفي سبيل الإسلام.

فجاءها أبو طلحة الأنصاري ـوهو المكوِّن الثاني للأسرة المؤمنة المرضية- يخطبها، وقد ترك لها مالك وَلَدين: أنس بن مالك والبراء بن مالك -رضي الله عنهما-، وسيأتي الحديث عنهما إن شاء الله، فقالت أم سُلَيم -رضي الله عنها-: يا أبا طلحة، أنت لست ممن يُردّ، ولكنك مشرك نجس، وأنت محرّم عليَّ ما دمت مشركًا، قالت: فإني أشهدك وأشهد نبي الله -صلى الله عليه وسلم- أنك إن أسلمت فقد رضيت بالإسلام منك، قال: فمن لي بهذا؟ قالت: يا أنس، قم فانطلق مع عمك، قال: فقام فوضع يده على عاتقي، فانطلقنا حتى إذا كنا قريبًا من نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فسمع كلامنا فقال: "هذا أبو طلحة بين عينيه عزة الإسلام"، فسلم على نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فزوّجه رسول الله على الإسلام"(رواه البزار) فكان هذا الصداق أعظم صداق في المدينة المنورة: الإسلام، الدين العظيم.

فتحسّن إسلام الرجل، فصار -رضي الله عنه- مضرب المثل في النفقة والاستجابة لأمر الله -تعالى-، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: "كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِد،ِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقُولُ: "لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا ـيَا رَسُولَ اللَّهِ- حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "بَخٍ! ذَلِكَ مَالٌ رَابِح،ٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ"، فَقَالَ: أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ".

كما أصبح هذا الرجل العظيم من كبار الصحابة المجاهدين، فشهد المشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان له يوم أحد موقف مشهود، إذ ثبت مع القلة مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال عنه: "لَصَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الْجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ فِئَة"(رواه أحمد).

ويوم حنين حين ضاقت على المسلمين الأرض بما رحبت كان أبو طلحة كعادته من أبرز أبطالها الصامدين، عن أنَسِ بنِ مَالِكٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَئِذٍ يَعْنِي يَوْمَ حُنَيْنٍ: "مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ" فَقَتَلَ أبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلاً وَأخَذَ أسْلاَبَهُمْ"(أخرجه أبُو دَاوُدَ وقال: "هَذَا حديثٌ حَسَنٌ").

وتابع مسيرته الجهادية في كبره حتى لقي الله -تعالى- في سبيل الجهاد، عن أنس أن أبا طلحة قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية: (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً)[التوبة: 41] فقال: ألا أرى ربي يستنفرني شابًا وشيخًا؟ جهزوني، فقال له بنوه: قد غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قبض، وغزوت مع أبي بكر حتى مات، وغزوت مع عمر، فنحن نغزو عنك، فقال: جهزوني، فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فلم يتغير" (قال الهيثمي: "رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح") فلقي الله -تعالى- بعد عمرٍ حافل بخدمة الإسلام والاجتهاد في طاعة الله، وذلك سنة أربع وثلاثين للهجرة، وهو ابن سبعين سنة -رضي الله عنه-.

العنصر الثالث من هذه الأسرة -معشر الإخوة-: هو أنس بن مالك -رضي الله عنه- خادم رسول الله عشر سنوات، حرصت أمه أن يكون رفيقَ سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم-؛ ليلتصق بنبع الخير والهداية، فجاءت به إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، خادمك أنس ادع الله له، فقال: "اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته"، قال أنس: "فلقد دفنت من صلبي سوى ولد ولدي خمسًا وعشرين ومائة، وإن أرضي ليثمر في السنة مرتين، وما في البلد شيء يثمر مرتين غيرها"(رواه الطبراني).

وكان رضي الله عنه من أكثر الناس رواية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

أما الشخصية الرابعة، فهو: البراء بن مالك أخو أنس بن مالك، هذا الرجل العظيم المجاهد، قال عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ"(أخرجه الترمذي وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْه").

إن الإنسان ـمعشر الأحبةـ لا يقاس بطوله ولا بعرضه ولا بماله ولا بجاهه ولا بسلطانه، وإنما يقاس بعمله وإيمانه، وعاش هذا الصحابي الجليل مجاهدًا مقدمًا متفانيًا بماله ونفسه ودمه في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وفي عهد أبي بكر -رضي الله عنه-، وفي جهاد الفُرس استعصت معركة على المسلمين والمجاهدين فجاؤوا إلى سيدنا البراء، فقالوا: إن الأمر اشتد علينا، فادع الله أن ينصرنا؛ لأن المسلمين الأوائل.

أيها الإخوة: كانوا يعرفون جيدًا أن الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء وينصر من يشاء هو الله، فلا أمريكا ولا الأمم المتحدة: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم)[آل عمران: 126] فرفع البراء في زحمة المعركة وشدتها يديه، فقال: "اللهم انصرنا، وارزقنا أكتافهم، وارزقني الشهادة في سبيلك"، فلما انتصر المجاهدون وأظهر الله -تعالى- الحق بحثوا عن البراء فإذا هو شهيد بين الشهداء.

فهذه ـأيها الإخوة الأعزاءـ عناصر هذه الأسرة العظيمة الفريدة، فما هي المبادئ التي كانت تعيش عليها ولأجلها مما جعلها تنال ما نالت من الفضل وجعلت منها منارة للهداية؟

أول هذه المبادئ وأعظمها هو: الإسلام وأولويته، فقد أسست على كلمة الله ووفق تقواه، فعلى أساس الإسلام بُنيت الأسرة، وعلى أساسه عاشت، وعلى أساسه يجب أن تحيا كل أسرة تنشد الرشد، فبسببه فارقت أم سُلَيم زوجها الأول مالكًا، وعلمنا أن أبا طلحة لما جاءها خاطبًا لم تطلب منه مالاً ولا جاهًا ولا سلطانًا، وإنما طلبت منه أن يكون مسلمًا وكفى.

إن الإنسان ـأيها الإخوةـ بلا دين مصيبة وكارثة، إذا جاءك إنسان لا دين له وزوجته ابنتك فقد قطعت رحمها، فقد أهلكتها، أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- جاءه أحد الناس، فقال: "إن الناس يخطبون مني ابنتي فلمن أزوجها؟ فقال رضي الله عنه: "يا أخي، زوجها لتقيّ، إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها".

ثم إن هذه الأسرة ـوعلى رأسها أم سُلَيم- كانت أحرص ما تكون على تعلّم دينها، فصحّ عند البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: "جَاءَتْ أُمُّ سُلَيم إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ"، فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ، تَعْنِي: وَجْهَهَا، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ تَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟! قَالَ: "نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا" فلقيها نسوة، فقلن لها: يا أم سُلَيم، فضحتنا عند رسول الله! قالت: ما كنت أنتهي حتى أعلم أفي حلال أنا أم في حرام".

هذا مبدأ -أيها الإخوة المؤمنون- ينبغي للحياة كلها أن تتأسّس عليه، ليس هناك من عمل سرّي أو خاص بفئة دون أخرى، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- بعثه الله للرجال والنساء، فما من خطوة يخطوها المسلم إلا وهو ملزم أن يعلم أفي حلال هو أو في حرام.

ومن حرص أم سُلَيم على العلم ما روي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "جَاءَتْ أُمّ سُلَيم إلَى النّبِيّ-صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ، عَلّمْنِي كَلِمَاتٍ أَدْعُو بِهِنّ فِي صَلاَتِي، قَالَ: "سَبّحِي اللّهَ عَشْرًا، وَاحْمَدِيهِ عَشَرًا، وَكَبّرِيهِ عَشْرًا، ثُمّ سَلِيهِ حَاجَتَكِ، يَقُلْ: نَعَمْ، نَعَمْ" يعني: إذا سبحت عشرًا، وكبرت عشرًا، وحمدت عشرًا، وطلبت الله تعالى، يقول لك الله: لبيك يا أمَتي، ويستجيب لك.

بل الأعظم من ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما عرف حرص هذه الأسرة على العلم والتعلم كان يخصها بزيارات، فكان صلى الله عليه وسلم كما ورد في أحاديث صحيحة يقيل عندها مرارًا، ويصلي بهم في بيتها، لماذا -أيها الإخوة-؟ ليتعلموا منه مباشرة، وليتبرّكوا به مباشرة.

وبالفعل لقد روي أنها من كثرة محبتها له، وكثرة الالتصاق به -صلى الله عليه وسلم- لما كان يأتي منزلها تبسط له أم سُلَيم بساطًا لكي يرتاح وينام، وكان الجو حارًّا كما تعلمون، فإذا استيقظ تجمع العرق الذي تصبّب فوق البساط، وتخلطه مع مسكها وتتطيب به -رضي الله عنها وأرضاها-، أخرج أبو داود عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ: "أَنّ النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَزُورُ أُمّ سُلَيم فَتُدْرِكُهُ الصلاةُ أحيَانًا فَيُصَلّي عَلَى بِسَاطٍ لَنَا، وَهُوَ حَصِيرٌ تَنْضَحُهُ بالماء"، وأخرج النسائي عن أنس قَالَ: "أَتَانَا رَسُولُ اللّه ِ-صلى الله عليه وسلم- فِي بَيْتِنَا فَصَلّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ لَنَا خَلْفَهُ، وَصَلّتْ أُمّ سُلَيم خَلْفَنَا".

وأخرج البخاري وأحمد عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّ أُمَّ سُلَيم كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- نِطَعًا فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ، قَالَ: فَإِذَا نَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعَرِهِ فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ، ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِي سُكٍّ".

وأخرج النسائي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اضْطَجَعَ عَلَى نَطْعٍ فَعَرِقَ، فَقَامَتْ أُمُّ سُلَيم إِلَى عَرَقِهِ فَنَشَّفَتْهُ فَجَعَلَتْهُ فِي قَارُورَةٍ، فَرَآهَا النَّبِيُّ-صلى الله عليه وسلم- قَال: "مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ يَا أُمَّ سُلَيم؟" قَالَتْ: أَجْعَلُ عَرَقَكَ فِي طِيبِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-.

قلنا -أيها الإخوة-: إن الركن الأساس الذي بنيت عليه هذه الأسرة الطيبة هو الإسلام وتعلمه، وبالفعل فالأسرة المحرومة من مجالس القرآن ومن أشرطة القرآن ومن الكتب الإسلامية ومن تفاسير القرآن ومن قصص الأنبياء والصالحين، هذه أسرة محرومة من الخير.

وهذا -للأسف- هو السائد اليوم، فكثير من الأسر إذا اطلعتَ على أحوالها وجدت الشيطان وجنوده مستحوذًا عليها، تجد الصغار والكبار غرقى في أمواج غوايته، فلا علم ولا تقوى، وإنما السائد الأغاني الماجنة والأفلام العارية والاهتمامات الدنية، فمتى تعيش هذه الأسر السعادة؟! ومتى تتذوق حلاوة الإيمان ولذة الاستقرار؟! متى وإبليسٌ يُدعى: التلفزيون هو المتربِّع على سياستها؟! إن هذا المفسد أضحى المعول الذي يهدم أخلاق الأمة ويهدم كرامتها، وذلك بسوء توجيهه وتسخيره.

إن الإنسان -معشر الإخوة- إذا أراد رحمة الله والسعادة في بيته لا بد له من إدخال التقوى والخير إلى بيته.

ولست أرى السعادة جمع مال

ولكن التقي هو السعيد

أخرج البخاري ومسلم عن أم عطية قالت: "أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْبَيْعَةِ: "أَلاَّ تَنُحْنَ"، فَمَا وَفَتْ مِنَّا غَيْرُ خَمْسٍ، مِنْهُنَّ أُمُّ سُلَيم. فأم سُلَيم من اللواتي وفين في الحين، ولم يشترطن ولا تلكأن، فطلّقت النياحة وما كانت نساء الجاهلية تفعلنه حزنًا على موتاهن".

كما كانت الغايةَ في حسن التلطف والتودّد إلى زوجها في كل حال، أخرج مسلم وأحمد وأبو داود، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كَانَ ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ يَشْتَكِي، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ فَقُبِضَ الصَّبِيُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِي؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيم: هُوَ أَسْكَنُ مِمَّا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ: وَارُوا الصَّبِيَّ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: "أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا"، فرزقهم الله بعد تسعة من الأولاد كلهم قرأوا القرآن الكريم.

وفي رواية لأحمد: "ثم تصنعت له فأصابها، فلما فرغ قالت: ألا تعجب لجيرانك، أُعيروا عارية، فطُلِبت منهم فجزعوا! فقال: بئس ما صنعوا، فقالت: ابنك كان عارية فقُبض، فحمد واسترجع".

ثم إن هذه الأسرة -أيها الإخوة الأعزاء- زيادة على ما ذكرناه، كانت القمة في الكرم والجود، والقمة في الضيافة، والمثال في الاهتمام بالحالة الاجتماعية للمجتمع، فمما يُروى عن هذه الأسرة الطيبة -رضي الله عنهم- أن أبا طلحة خرج يومًا فوجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلّم أهل الصفة سورة النساء كما جاء في بعض الروايات، ولاحَظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عصب بطنه من شدة الجوع، فأثَّر هذا في نفس أبي طلحة، فجاء إلى أم سُلَيم فقال لها: يا أم سُلَيم، لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعصب بطنه من شدة الجوع، فهل لديك شيء من الطعام؟ فقالت له: إذا جاءنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحده أشبعناه، فأرسل أنس بن مالك إلى الرسول، قَالَ أنس: بَعَثَنِي أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَدْعُوَه وَقَدْ جَعَلَ طَعَامًا، قَالَ: فَأَقْبَلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَعَ النَّاسِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقُلْتُ: أَجِبْ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: "قُومُوا" فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا صَنَعْتُ لَكَ شَيْئًا، قَالَ: فَمَسَّهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَدَعَا فِيهَا بِالْبَرَكَة،ِ ثُمَّ قَالَ: "أَدْخِلْ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِي عَشَرَةً"، وَقَالَ: "كُلُوا"، وَأَخْرَجَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِه،ِ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا فَخَرَجُوا، فَقَالَ: "أَدْخِلْ عَشَرَةً" فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، فَمَا زَالَ يُدْخِلُ عَشَرَةً وَيُخْرِجُ عَشَرَةً حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ فَأَكَلَ حَتَّى شَبِعَ، ثُمَّ هَيَّأَهَا فَإِذَا هِيَ مِثْلُهَا حِينَ أَكَلُوا مِنْهَا.

وفي أسرة أبي طلحة في الراجح نزل قوله تعالى: (وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9].

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلاَّ الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا؟" فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلاَّ قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً. فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ، أَوْ عَجِبَ مِنْ فعَالِكُمَا"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

فهذه الأسرة -إخواني- ليست أنانية لا تعيش سوى للذاتها ومصالحها، وإنما هي أسرة تعيش أحوال مجتمعها الإسلامي، وتسهم بكلّ ما تطيق لكشف ما به من خصاصة، وتجاوز ما يحل به من أزمات.

الخطبة الثانية:

كما كانت هذه الأسرة في طليعة العاملين لنشر دين الله -تعالى- وجهاد أعدائه الصادين عن سبيل الله، فقد سبقت الإشارة إلى بلاء أبي طلحة -رضي الله عنه- في ميادين الجهاد والفداء، وسبق ذكر جهاد البراء -رضي الله عنه-، وما أكرمه الله به من الشهادة في سبيله، قال البخاري: "حدثنا موسى، حدثنا إسحاق بن عثمان: سألت موسى بن أنس: كم غزا أنس مع النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: ثماني غزوات".

ولم تكن أم سُلَيم -رضي الله عنها- لتحرم نفسها من مرافقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في غزواته، فقد كانت مجتهدة في الخروج معه وتحمل المشاق في مساعدة المقاتلين ومداواتهم والقتال معهم إذا اقتضى الحال.

ومن ألطف ما يروى عن شجاعتها وثباتها ما حصل في غزوة حنين، أخرج مسلم وأبو داود عن أنس: "أن أم سُلَيم اتخذت يوم حنين خنجرًا فكان معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، هذه أم سُلَيم معها خنجر! فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما هذا الخنجر؟" قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضحك، قالت: يا رسول الله، اقتُلْ مَن بعدَنا من الطلقاء انهزَمُوا بك، فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "يا أم سُلَيم، إن الله قد كفى وأحسن".

هذه -إخواني- هي أسرة أم سُلَيم، وهذه بطاقة تعريف لعناصرها البارزة، وتلكم المبادئ التي تأسست عليها وعاشوا لأجلها، فغنموا السعادة والريادة في الدنيا، والفوز برضوان الله ورسوله، وذلك هو الفوز العظيم.

جعلني الله -تعالى- والإخوة من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ونسأله سبحانه أن يصلح أحوالنا، والحمد لله رب العالمين.