القاهر
كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | محمد بن سليمان المهوس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
فَتَأَمَّلُوا هَذِهِ الأَسْئِلَةَ الثَّلاَثَةَ الَّتِي وُجِّهَتْ لِهَذَا الرَّجُلِ فِي قَبْرِهِ، وَهِيَ سَوْفَ تُوَجَّهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَذَكَرٍ وَأُنْثَى: مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنِ الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ أَيِّ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ أَوْ فَنٍّ مِنَ الْفُنُونِ قَدْ بَرَزَ فِيهِ وَأَتْقَنَهُ فِي دُنْيَاهُ.
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ جَعَلَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ لِلْعَبْدِ دُورًا ثَلاثٍ: دَارَ الْعَمَلِ وَهِيَ هَذِهِ الدُّنْيَا، وَدَارَ الْبَرْزَخِ، وَالدَّارَ الآخِرَةَ؛ فَدَارُ الدُّنْيَا دَارُ عَمَلٍ، يَتَنَافَسُ فِيهَا الْمُتَنَافِسُونَ، وَيَتَسَابَقُ فِيهَا الْمُتَسَابِقُونَ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة:197]، وَقَالَ -تَعَالَى-: (وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ)[البقرة:123].
وَدَارُ الآخِرَةِ هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ، قَالَ -تَعَالَى-: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى)[النجم:31]، وَقَالَ: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ)[آل عمران:30].
وَدَارُ الْبَرْزَخِ هِيَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَهِيَ قَبْرُكَ الَّذِي تَسْكُنُهُ بَعْدَ مُفَارَقَتِكَ الدُّنْيَا، وَتَبْقَى فِيهِ إِلَى أَنْ يَأْذَنَ اللهُ بِقِيَامِ الْعِبَادِ لِرَبِّ الْعِبَادِ؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُواْ يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ)[يس:51-53].
وهَذَا الْقَبْرُ إمَّا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ لِلْعَبْدِ إِذَا اجْتَازَ الاِخْتِبَارَ وَوُفِّقَ لِحُسْنِ الإِخْبَارِ؛ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِ الْجَبَّارِ: (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)[إبراهيم:27]، وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ ذَلِكَ، كَمَا رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، وَكَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: "اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا...
إِلَى أَنْ قَالَ: "فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الإِسْلامُ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَيَقُولاَنِ لَهُ: وَمَا عِلْمُك؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ..".
فَتَأَمَّلُوا هَذِهِ الأَسْئِلَةَ الثَّلاَثَةَ الَّتِي وُجِّهَتْ لِهَذَا الرَّجُلِ فِي قَبْرِهِ، وَهِيَ سَوْفَ تُوَجَّهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَذَكَرٍ وَأُنْثَى: مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنِ الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ أَيِّ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ أَوْ فَنٍّ مِنَ الْفُنُونِ قَدْ بَرَزَ فِيهِ وَأَتْقَنَهُ فِي دُنْيَاهُ.
فَكَانَ الْجَوَابُ: رَبِّيَ اللهُ؛ أَيْ: مَعْبُودِي الَّذِي أُفْرِدُهُ بِالْعِبَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام: 162]؛ نَعَمْ، رَبِّيَ اللهُ الَّذِي لاَ أُشْرِكُ أَحَدًا مَعَهُ فِي عِبَادَتِهِ لاَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؛ لأَنَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)[ النساء:48]، وَقَالَ -تَعَالَى-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الزمر:65].
لأَنَّ مِنَ الشِّرْكِ: أَنْ تَجْعَلَ للهِ شَبِيهًا وَمَثِيلاً تَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللهِ، أَوْ أَنْ تَصْرِفَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لَهُ، كَأَنْ تَدْعُوهُ مِنْ دُونِ اللهِ، أَوْ تَسْتَغِيثَ بِهِ، أَوْ تَحْلِفَ بِهِ، أَوْ تَذْبَحَ لَهُ، كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَذْبَحُ لِلْمَقْبُورِ رَجَاءَ نَفْعِهِ أَوْ يَذْبَحُ لِلْجِنِّ، وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمْ رَجَاءَ نَفْعِهِمْ، أَوْ خَوْفًا مِنْ شَرِّهِمْ.
وَمِنَ الشِّرْكِ: إِتْيَانُ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ، وَطَلَبُ الْعِلاَجِ مِنْهُمْ، وَتَنْفِيذُ أَوَامِرِهِمُ الشِّرْكِيَّةِ.
وَمِنَ الشِّرْكِ: أَنْ يَعْتَقِدَ الإِنْسَانُ أَنَّ هُنَاكَ مَنْ يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرُ اللهِ، كَمَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فِي الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَالسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ وَالْمُشَعْوِذِينَ.
وَمِنَ الشِّرْكِ: تَعْلِيقُ التَّمَائِمِ وَلُبْسُ الْحَلْقَةِ وَالْخُيُوطِ لِدَفْعِ الضُّرِّ أَوْ جَلْبِ النَّفْعِ؛ فَهَذَا الرَّجُلُ قَدْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ، فَرُزِقَ الإِجَابَةَ وَالتَّسْدِيدَ، وَفَازَ الْفَوْزَ الأَكِيدَ، وَأَمِنَ يَوْمَ الْوَعِيدِ.
جَعَلَكُمُ اللهُ وَإِيَّانَا مِمَّنْ يُوَفَّقُ لِحُسْنِ الْجَوَابِ فِي قَبْرِهِ، لِيَفُوزَ بِجَنَّةِ رَبِّهِ، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنَ الأَسْئِلَةِ الثَّلاَثَةِ الَّتِي سَتُلْقَى عَلَيْنَا جَمِيعًا فِي قُبُورِنَا: مَا دِينُكَ؟ وَمَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ يُوَفَّقُ بِالإِجَابَةِ إِلاَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ دِينَهُ الإِسْلاَمُ، وَهُوَ الاِسْتِسْلاَمُ للهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالاِنْقِيَادُ للهِ بِالطَّاعَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.
وَعَلِمَ أَنَّ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَهِدَ بِذَلِكَ، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَى الشَّهَادَةِ بِتَصْدِيقِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا أَخْبَرَ، وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَاجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ، وَأَنْ لاَ يُعْبَدَ اللهُ إِلاَّ بِمَا شَرَعَ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا بِقَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُبُورَنَا رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ إِخْوَانِنِا الْمُسْلِمِينَ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).