الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | عبدالله محمد الطوالة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ومن صَدَقَ خوفه من الله -تعالى- هرب إليه من كل ما يسخطه ويبغضه، وكان متيقظًا لرقابة الله -تعالى- عليه في خواطر قلبه، ولفظات لسانه، وأعمال جوارحه.. ومن صَدَقَ خوفهُ من ربه راقبَ نفسهُ، ومن راقبَ نفسهُ حاسبها، وكلما قويَ الخوفُ قويت المراقبة، وكلما قويت المراقبة، اشتدت المحاسبة.
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ العليِّ الأعلى، الولي المَوْلَى، خلقَ فسوى، وقدرَ فهدى، سبحانهُ وبحمدهُ، أماتَ وأحيا، وأضحكَ وأبكى، وأفقرَ وأغنى، وأسعدَ وأشقى، نعمهُ تترى، وآلاؤه لا تحصى، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، من اتبعَ هداهُ فلا يضلِّ ولا يشقىَ، ومن أعرضَ عن ذكرهِ فإن لهُ معيشةً ضنكا، ويحشرُ يومَ القيامةِ أعمى.
وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولهُ، ومصطفاهُ وخليلهُ، من جاءنا بِالصِّدْقِ والهدى، والنورِ والبشرى، وَأَمَرَنا بالبر والتقوى، خاتمُ الأنبياءِ وأفضلُ المرسلينَ، وسيد الورى، صلى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليهِ وعلى آله نجومُ الدجى، وأصحابهُ شموسُ الضحى، والتابعينَ ومن تبعهم بإحسانٍ وكلُّ من سارَ على نهجهم واقتفى، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا متوالياً.
أمَّا بعدُ: فأوصيكم عبادَ اللهِ ونفسي بتقوى اللهِ والعملَ بطاعته، والمجانبةَ لسخطهِ ومعصيتهِ، وأحثُكم على أفضل ما يُدنيكم منهُ، ويقربكم إليهِ، ويرفعكم عندهُ، تقوى اللهِ يا عبادَ اللهِ، فتقوى اللهِ خيرُ ما تزودتم، وأحسنُ ما عمِلتُم، وأجملُ ما أظهَرتُم، وأكرَمُ ما أسررتُم، وأفضلُ ما ادَّخرتُم، وهي وصيةُ اللهِ لكم ولمن كان قبلكم: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء:131].
أيها الأحبة الأكارم: حديثنا اليوم عن سوطٍ من سياط الله العظيم، سوطٍ قويٍ، يقوّمُ الله به الشاردين عن بابه، ويردهم به إلى رحابه، سوطٍ فعال، كم فك الله به من أسير شهوةٍ ملكت عليه نفسهُ وأبعدته عن ربه، وكم أطلقَ من سجينٍ لذَّاتٍ أطبقت عليه سُرادقها، وكم كسّر من قيودِ مستَعبَدٍ لهواه، وكم أعان على خلق كريم، وكم كف عن خلق ذميم، كم أطفأ من نار حسد وحقد، وكم منع من إساءة وظلم وتعدٍّ، فهل عرفتموه يا عباد الله؟
إنه الخوف من الله العظيم، نعم يا عباد الله، الخوف من الله هو المانع من الذنب، العاصم من الخطأ، الحافظ من الزلل، المبعد عن الخلل، وأنَّى لنفس لا تخاف من الله أن ترتدع عن هواها؟!، وكيف لقلب لم تسكنه خشية الله، وهيبته وإجلاله، كيف له أن يُعمرَ بالطاعة، ويتجافى عن المعصية، ويستوحش من الذنب؟!
والكل يا عباد الله: يستشعر من نفسه ومن غيره، أنه ما كثرت الذنوب، ولا أظلمت القلوب، إلا لقلة الخوف من علام الغيوب، تحيط بنا العبر فما أقل من يعتبر، تتكاثر بيننا وحولنا الحوادث، وتتنوع الكوارث، والأغلب سادر في غيه غير مكترث، يُعلنُ بالمعصية بوسائل الإعلام ووسائطه، ويجاهر بها على رؤوس الأشهاد، ويجتمع لها الناس من كل مكان، ويختلط الحابل بالنابل، ويُستخفُ بالآداب والقيم الشرعية، ذبحٌ صارخٌ للحياء والحشمة، فأين الحياء من الله، أسواقٌ ومجمعاتٌ ومنتزهات، تعجٌ بالمعاصي والمنكرات، وجرأةٌ عجيبةٌ على تعدى الحدود والمحرمات، فأين الخوف والخشية من جبار الأرض والسموات؟!
ألسنا نؤمن أن الله هو الإله العظيم، الذي ذلَّ كلُّ شيءٍ لعظمته، وتواضعَ كلُّ شيءٍ لهيبَتِه، وخضعَ كلُّ شيءٍ لمشيئَتِه، ووسعَ كلُّ شيءٍ علمُهُ وإحاطته، فلم لا نخاف الله رب العالمين؟!
ألسنا نؤمن أن الله هو مالك الملك، وبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وانه أولٌ ليسَ قبلَه شيءٌ، آخِرٌ ليسَ بعدَه شيءٌ، ظاهرٌ ليسَ فوقَه شيءٌ، باطنٌ ليسَ دونَه شيءٌ، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[القصص:88]؛ فلم لا نخاف الله؟!
أولسنا نعلم شيئاً من عظمة ربنا -جل جلاله-، وأنه على كل شيء قدير، وإنه إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون، وأنه خالق كل شيء، خلق سبع سماواتٍ شدادٍ طِباق، سُمكُ كلِّ سماءٍ مسيرة خمسمائة عام، وأن ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وأن ما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وأن ما بين الكرسي والماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش العظيم على الماء، والله العظيم مستو على عرشه استواءً يليق بجلاله وكماله وعظمته، وأنه يطوي السماوات والأرضين يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده، ثم يقول: "أنا الملك! أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟!".
وأن من جنوده ملائكة كرام لا يحصي عددهم، ولا يعلم قوتهم، ولا يحيط بأعمالهم إلا من خلقهم -جل وعلا-، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وأن من ملائكة الله جبريل -عليه السلام-، جبريل ذاك الملك القوي المكين، له ستمائة جناح، كل جناح منها يسدُّ الأفق، وأنهُ عليه السلام اقتلع بطرف جناح واحد قرى قوم لوط الأربعة من أسافلها، ثم رفعهم إلى السماء حتى سمعت الملائكة صياحهم، ثم خسف بهم، ثم يراه النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة أسري به وكأنه حلسٌ بالٍ، وذلك من شدِّة خشيته لله -تعالى-.
إنه الله القوي العزيز الذي تتصاغر أمام قوته كل قوة، وتتضاءل عند ذكر عظمته كل عظمة، جاء حبرٌ من أحبار يهود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أبا القاسم! إننا نجد في كتابنا أن الله -تعالى- يوم القيامة، يضع السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك؛ فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعجبًا وتصديقًا لما قاله الحَبر، ثم قرأ: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)[الزمر:67]".
فكيف لا نخاف يا عباد الله هذا الإله العظيم؟!، كيف لا نخافه وقد خافه خليله وأحب الخلق إليه، سيد الورى وخير من وطئ الثرى، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "والله إني لأعلمكم بالله، وأشدَّكم له خشية"، كيف لا نخافه وقد خافه الصالحون من عباده، (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)، والذين (إِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ)، والذين (لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور:37].
وهذا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يبكي يوماً فيشتد بكاؤه، فتبكي فاطمةٌ زوجته لبكائه، فيبكى أهل الدار لبكائيهما، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلت عنهم العَبرةُ قالت فاطمة: يا أمير المؤمنين! ما الذي أبكاك؟! قال: "ذكرت منصرف الناس من بين يدي الله -عز وجل- يوم القيامة؛ فريق في الجنة وفريق في السعير، فخشيت أن لا تثبت لي حجة".
الإنسان -يا عباد الله- مخلوق ضعيف (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)[النساء:28]؛ فإن هو خاف الخالق -جل وعلا- نزع من قلبه الخوف من المخلوقين.
أيها المسلمون: يقول الله -جل وعلا-: (كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ)[المدثر:53] فالخوف المحمود هو ما أورث قربًا من الله وبعُدًا عن معاصيه، والخوف إذا باشرَ قلبَ العبدِ فاضَ أثرهُ على جوارحه ولا بد، فكفَّت عن المعاصي، والتزمت بالطاعات.
ومن صَدَقَ خوفه من الله -تعالى- هرب إليه من كل ما يسخطه ويبغضه ويأباه، وكان متيقظًا لرقابة الله -تعالى- عليه في خواطر قلبه، ولفظات لسانه، وأعمال جوارحه، وفي كل ما يذره ويأتيه.
ومن صَدَقَ خوفهُ من ربه راقبَ نفسهُ، ومن راقبَ نفسهُ حاسبها، وكلما قويَ الخوفُ قويت المراقبة، وكلما قويت المراقبة، اشتدت المحاسبة.
ومن ثمَّ ترى الخائف من الله يبادر بالخيرات قبل الفوات، ويغتنم الأيامَ والساعات واللحظات، كما جاء في الحديث الصحيح: "مَن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية! ألا إن سلعة الله الجنة".
وفي كتاب ربنا -تبارك وتعالى-: (وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِن الجَنّةَ هِيَ المَأْوَى)[النازعات:40-41]؛ فالذي يخاف مقام ربه ينهى نفسه عن الهوى، فلا يُقدم على معصية، فإن أقدم عليها بحكم ضعفه البشري أرجعَه خوفه إلى الندم والاستغفار والتوبة، والأعمال المكفرة، فَيظلّ حول دائرة الطاعة لا يذهب بعيداً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)[الرحمن:46-47].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فاتقوا عباد الله واستجيبوا لنداء ربكم العظيم، فها هو يناديكم من فوق عرشه بكلمات خلَّدها في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لقمان:33]، ويناديكم -تبارك وتعالى-: (فَلَا تَخْشَوُا النّاسَ وَاخْشَوْنِ)، ويناديكم سبحانه وبحمده (فَإِيّايَ فَارْهَبُونِ)[النحل:51].
فمتى يا عباد الله نستجيب لنداء الله؟!، أين مَن إذا دعته نفسه إلى مخالفة أمر الله قال: (إِنّي أَخَافُ اللهَ رَب العَالَمِينَ)[الحشر:16]؟!
أين مَن إذا دعته امرأة للحرام قال: (قال مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)[يوسف:23]؟!
أين مَن إذا سوَّلت له نفسه تضييع الصلوات وترك الجماعات واتباع الشهوات قال لها: (إِني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)[الزمر:13].
أخَي: لا يُغريكَ سربالُ الرَّخَاء، وسَرابُ دنيا بالغرور تفخَّخَ، فلسوف تتركُها لتُسكنَ بلقعاً، فاصرخ معاذ الله مِن دَربٍ مُشين، إني أخافُ الله ربَّ العالمين
فإذا سعت فتنُ الحياةِ تبشُّ لك، وتبرّجت في خلوة الرُّقباءِ لَك، وأتت تدندنُ في المكانِ بِهَيتَ لَك، فاصرخ: معاذَ اللهِ مِن دربٍ مُشين، إني أخافُ الله ربَّ العالمين.
وإن ضجّت القنواتُ في وسطِ البُيوت، وجرى الفجورُ على قناةِ العنكبوت، وتحَفزَ الشيطانُ في الليلِ الصموت، فاصرخ: معاذَ اللهِ من دربٍ مُشين؛ إني أخافُ الله ربَّ العالمين.
وإذا دعا للفسـقِ آلافُ الدُّعاة، وبكى الحياءُ على التعفّفِ والثبات، والعُهرُ يرقصُ في الليالي الصاخبات، فاصرخ: معاذَ اللهِ مِن دربٍ مُشِين، إني أخافُ اللهَ ربَّ العالَمِين.
وإذا اصطلى الوجدانُ من حَرِّ الذنوب، وتنكرّت لشتاتِ خطوتِكَ الدروب، وأتاك يُسـدي النصحَ سمسارٌ كذوب، فاصرخ: معاذَ اللهِ مِن دربٍ مُشِين، إني أخافُ الله ربَّ العالمين.
وإذا سمعتَ نداءَ: حيَّ على الصلاة، فهُنَا السَّنَا، وهنا النَّدَى.. وهنا الحياة.. وأتتك (سوفَ) تصدُّ عن درب النجاة، فاصرخ: معاذَ اللهِ مِن دربٍ مُشِين، إني أخافُ الله ربَّ العالمين، إني أخافُ الله رب العالمين.
إخواني في الله ليحذر كل منا مقامًا تعنو فيه الوجوه، وتخشع فيه الأصوات، ويذل فيه الجبارون، ويتضعضع فيه المتكبرون، ويستسلم فيه الأولون والآخرون، يذلون لرب العالمين ويخضعون.
فانظر وقوفك بين يدي العظيم، وأعد للسؤال جوابًا صوابًا، حيث لا ينجو إلا الصادقون.
يا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان، كما تدين تدان،
وصلوا وسلموا...