البحث

عبارات مقترحة:

الرقيب

كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

النصير

كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...

المصور

كلمة (المصور) في اللغة اسم فاعل من الفعل صوَّر ومضارعه يُصَوِّر،...

الحيدة -4

العربية

المؤلف عبدالله محمد الطوالة
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات أركان الإيمان
عناصر الخطبة
  1. سؤال بشرٍ للشيخ عن ماهية علم الله .
  2. إفحام ردِّ الشيخ بشراً وإقرار الخليفة بذلك .
  3. إفحامُه ثانيةً ببيان أقسام الأخبار الأربعة .
  4. إعلانُ بشرٍ أنّ معه آية ستقصم الشيخ .

اقتباس

هذه هي الحلقة الرابعة من سلسلة حلقات الحيدة، المناظرة الكبرى بين الشيخ عبد العزيز الكناني من أهل السنة والجماعة، وبين بشر المريسي زعيم القائلين بخلق القرآن، تعالى الله وكلامه عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ الواقِي من اتَّقاه، والهادي لمن استَهداه، المستجيب لمن دعاه، لا ناقضَ لما بناه، ولا باني لما أنهاه، ولا مانعَ لما أعطاه، ولا رادَّ لما قضاه، ولا مُضِلَّ لمنْ هَداه، ولا هاديَ لمن أغواه، بقدرته أنشأَ الكون وسواه، وبحكمته دبَّر الأمر وأجراه، (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوْا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء:23].

أحمده -سبحانه- وأشكرُه على جزيلِ ما أولاه، وعظيم ما أسداه، (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل:53]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا معبودَ بحقٍّ سِواه.

الله ربـــي لا إله ســـواهُ

هــل فــــي الــوجــود حـقـيـقـة إلا هُو

الشمـس والبدر مـن أنـوار حكمتـه

والبـر والبحـر فـيـضٌ مــن عطـايـاهُ

الطـيـرُ سبـحـهُ، والـوحــشُ مـجــدهُ

والـمــوجُ كـبَّــرهُ، والـحــوتُ نـاجــاهُ

والنمـلُ تحـت الصخـور الصُّـم قدَّسـهُ

والنحـلُ يهتـفُ حمـداً فــي خـلايـاهُ

والنـاسُ يعصونـهُ جهـراً فيسترهـم

والعـبـدُ ينـسـى وربــي لـيـس ينـسـاهُ

وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه ومصطفاه، وخليلهُ وخيرتهُ ومجتباه، من قرَّبَه ربه وأدناه، وآواه وأعطاه، وأرضاه وزكاه، وأراه من عظيمِ ملكُوته ما أراه، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا لا حدَّ لمُنتهاه.

أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا الله -رحمكم الله- ما استطعتم، واستدركوا بالتوبة ما أضعتم، وبادروا بالأعمال الصالحة ما فرطتم، من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن عمل لدينه يسَّر الله له أمر دنياه، ومن أحسن فيما بينه وبين الله، أحسن الله فيما بينه وبين الناس، فاتقِ الله يا عبد الله حيثما كنت، واحفظ الله يحفظك، وأتبِع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].

وبعد: أحبتي في الله، فهذه هي الحلقة الرابعة من سلسلة حلقات الحيدة، المناظرة الكبرى بين الشيخ عبد العزيز الكناني من أهل السنة والجماعة، وبين بشر المريسي زعيم القائلين بخلق القرآن، تعالى الله وكلامه عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

وكنا قد ذكرنا في الحلقة السابقة كيف رد الشيخ على الفهم الخاطئ في تعميم قوله -تعالى-: (كُلّ شيء)، وأنها ليست دائماً على إطلاقها، فالريح التي قال الله عنها: (تدمر كُلَّ شيء)، لم تدمر الجبال والمساكن.

ثم ذكرنا كيف حاد بشرٌ وراغ عن الجواب حين سأله الشيخ عبد العزيز: أتقرُّ أن لله علماً؟ كما أخبر -سبحانه- عن نفسه بقوله: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ) [النساء:166]، فأجاب بشرٌ بأن الله لا يجهل.

وتوقفنا حين قال الخليفة المأمون لبشر: يأبي عليك عبد العزيز إلا أن تقرَّ أن للهِ علماً. فأجبهُ ولا تَحِد عن جوابهِ.

فقال بشر: قد أجبته أن معنى العلم أن الله لا يجهل، ولكنه يتعنت.

قال الشيخ: صحيحٌ أن الله لا يجهل، ولكني -يا أمير المؤمنين- لم أسأله عن هذا، وإنما سألته عن الإقرار بعلم الله، فإما أن يثبت ويقرَّ أن لله علماً كما أخبر -سبحانه- عن نفسه، أو أن يردّ نص التنزيل، أو أن يحيد عن الجواب ويراوغ كما فعل بقوله: إن الله لا يجهل.

فقال بشرٌ: هذا هو الجواب، وليس عندي غيره.

فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن من الواجب على الخلق جميعاً أن يثبتوا ما أثبت الله لنفسه، وأن يقرُّوا له بذلك، وأن ينفوا ما نفى الله عن نفسه، وأن يسكتوا عما سكت الله عنه. قال الخليفة: فلو أقرَّ بشرٌ إن لله علماً، فماذا سيكون عليه في ذلك يا عبد العزيز؟.

قال الشيخ: فإني سأسأله -يا أمير المؤمنين- عن علم الله، هل هو داخل في الأشياء المخلوقة، حين احتج بقوله -تعالى-: (الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ). وزعم إنه لم يبق شيءٌ إلا وقد شمله هذا الخبر العام، فإن قال: نعم، علمُ الله مخلوق، فقد نسب الجهل والنقص لله قبل (أن يخلق علمه)، وشبه اللهَ بخلقه، الذين أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، والله أعظم وأجلُّ من أن ينسب إليه شيءٌ من النقص أو الجهل، ومن قال ذلك فقد كفر وحلَّ دمه. وإن قال لا، وأقرَّ أن علم الله ليس من الأشياء المخلوقة، فمثله كذلك كلام الله، فهو -أيضا- ليس من الأشياء المخلوقة، وبذلك يكون قد ترك قوله وأبطل مذهبه، وثبتت عليه الحجة يا أمير المؤمنين. فقال المأمون: أحسنت، أحسنت يا عبد العزيز، وإنما فرَّ بشرٌ من أن يجيبك لهذا.

فقال بشرٌ: قد زعمت أن لله علماً، فأيُّ شيءٍ هو علمُ الله؟.

فقال الشيخ: هذا مما تفرد الله بعلمه، ألم تسمع إلى قوله -عز وجل-: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ) [البقرة:255].

فقال بشر: لا بد أن تقول أيُ شيءٍ هو عِلمُ اللهِ، أو يقف أمير المؤمنين -أطال الله بقاءه- على حيدتك عن الجواب، فأكون أنا وأنت في الحيدة سواء.

فقال الشيخ: إنما تأمرني بما نهاني الله عنه، وحرَّم عليّ القول به، وتأمرني بما أمرني به الشيطان.

فتبسم الخليفة وقال: يا عبد العزيز، أأمرك بشرٌ بما نهاك الله عنه وأمرك به الشيطان؟ قال الشيخ: نعم يا أمير المؤمنين. قال الخليفة: وكيف ذلك؟ قال الشيخ: من كتاب الله وكلامه بنص التنزيل. قال الخليفة: فهاته. قال الشيخ: قال -تعالى-: (إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف:33]، فحرم الله على الخلق أن يقولوا على الله مالا يعلمون، وقال -عز وجل- عن الشيطان: (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة:168-169].

فكثر تبسم المأمون حتى غطى فمه بيده.

فقال بشرٌ: فلو جاءك -يا عبد العزيز- شخصان قد تنازعا في علم الله -عز وجل-، فحلف أحدهما بالطلاق: أن علم الله هو الله. وحلف الآخر بالطلاق: أن علم الله غير الله، فماذا سيكون جوابك لهما؟  قال الشيخ: الجواب تركهما بغير جواب. قال بشرٌ يلزمك إن كنت تدعي العلم أن تجيبهما، وإلا فأنت وهما في الجهل سواء.

فقال الشيخ: هل يجب عليَّ -يا بشر- أن أجيب كل من سألني عن مسألة، ولو لم أجد لها جواباً في كتاب الله ولا في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال بشرٌ: نعم، يجبُ عليك أن تجيبهُ، فإنه لا بدَّ لكلِّ مسألة من جواب.

قال الشيخ: بل هذا من أجهل الجهل، فلو جاءك -يا أمير المؤمنين- ثلاثة نفرٍ يتنازعون في الكوكب الذي أخبر الله -عز وجل- أن إبراهيم -عليه السلام- قد رآه بقوله: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) [الأنعام:76]، فقال أحدهم: حلفت بالطلاق إنه كوكب المشتري، وقال الآخر: حلفت بالطلاق إنه كوكب الزهرة، وقال الثالث: حلفت بالطلاق إنه كوكب المريخ؛ فأفتنا في أيماننا وأجبنا في مسألتنا، أكان علي أن أُجيبهم في مسألتهم، وأُفتِيهم في أيمانهم، وذلك مما لم يخبرنا الله -عز وجل- به ولا رسوله، ولا أجد لجوابه سبيلاً صحيحاً؟ هذه واحدة.

ولو جاءك ثلاثةُ نفرٍ قد تنازعوا في المؤذن الذي يؤذن بين أهل الجنة والنار كما أخبر الله -عز وجل- في سورة الأعراف بقوله: (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [الأعراف:44]، فقال أحدهم: حلفت بالطلاق إن المؤذن من الملائكة، وقال الآخر: حلفت بالطلاق إن المؤذن من الإنس، وقال الثالث: حلفت بالطلاق إن المؤذن من الجن؛ فأجبنا عن مسألتنا، وأفتنا في أيماننا، وذلك مما لا أجده في كتاب الله -عز وجل- ولا في سنه نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ أكان علي -يا أمير المؤمنين- أن أجيبهم في مسألتهم وأفتيهم في أيمانهم؟ فقال المأمون: لا، ليس عليك إجابتهم ولا يلزمك إفتاؤهم.

فقال بشرٌ: واحدة بواحدة يا أمير المؤمنين، سألني عبد العزيز أن أقول أن لله علمًا فلم أجبه، وسألته ما هو عِلمُ الله فلم يجبني، فقد استوينا في الحيدة عن الجواب، ونخرج من هذه المسألة متساويين، سواء بسواء، من غير حُجة تثبت لأحدنا على صاحبه.

قال عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، إن بشرا حين أُفحم وانقطع عن الجواب، لجأ إلى مسألةٍ مُحال، لا جواب لها؛ لكي يقول: سألني عبد العزيز عن مسألة فلم أجبه، وسألته عن مسألةٍ فلم يجبني عنها فقد تعادلنا، ونحن لسنا كذلك؛ لأنني سألته عن مسألةٍ جوابها في كتاب الله، شهد الله بها لنفسه، وشهدت له بها الملائكة، وأمر الله الناس أن يؤمنوا بها، وآمن النبي  -صلى الله عليه وسلم- وأقرَّ بها، وبشرٌ -يا أمير المؤمنين- يأبى أن يؤمن ويقرَّ بها! وسألني بشرٌ عن مسألةٍ أخفى الله علمها عن الخلق جميعاً، فلم يكن لي أن أجيبه عن مسألته، وإنما يدخلُ النقص عليَّ يا أمير المؤمنين لو كان بشرٌ يعلم جواب ما سألني عنه، فأما إن كنت أنا وهو وسائر الخلق سواء في الجهل بهذه المسألة، فمسألتانا ليستا بسواء.

فقال الخليفة: أنتما في مسألتيكما على غير السواء، وقد صح قولك في هذه المسألة يا عبد العزيز، وظهرت حُجتك على بشرٍ فيها.

فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، قد انقطع بشرٌ، وظهرت الحجةُ لي عليه، ومع ذلك فسأدع مسألةَ علم اللهِ، لأُبطلَ مذهبه بشيء آخر. فقال المأمون: هات ما عندك يا عبد العزيز. قال الشيخ: أطال الله بقاءك. من اكتال بمكيالٍ وُفّي به، ألست يا بشرُ تزعمُ أن قوله -تعالى-: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر:62]، لفظهٌ عامة شاملة، لا يخرج عنها شيءٌ البتة؟.

قال بشر: نعم، هكذا قلت، وهكذا أقول، ولستُ أرجعُ عنه أبداً. فقال الشيخ: فقد قال الله يا بشر: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ) [آل عمران:30]، وقال أيضاً: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام:54]،  أفتُقرُّ -يا بشرُ- أنّ لله نفساً كما أخبرنا الله -عز وجل- بهذه الأخبار؟ قال بشرٌ: نعم، أقرُّ أن لله نفساً.

قال الشيخ عبد العزيز: فقد قال الله -عز وجل-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران:185]، أفتقول -يا بشر- إنّ نفسَ ربِّ العالمين داخلة في هذا؟ فصاح المأمون بأعلى صوته، وكان جهير الصوت: معاذ الله! معاذ الله!.

قال الشيخ: فرفعت صوتي وقلت: ومعاذ الله! معاذ الله أن يكون كلامُ الله داخلاً في الأشياء المخلوقة، كما أن نفسهُ العلية ليست بداخلهٍ في الأنفسِ الميتة، وأن كلامُه ليس من الأشياءِ المخلوقةِ،كما أنّ نفسهُ العلية ليست من الأنفس الميتة.

ثم قلت: يا أمير المؤمنين، قد كسرتُ قولهُ بقوله، ودحضتُ حُجتهُ بحجته، وبطلَ ما كان يدعو إليه من بدعته.

فقال المأمون: نعم يا عبد العزيز، قد وضحت حُجتك، وبان قولك، وانكسرَ قولُ بشرٍ، لكن نحتاج أن تشرح ذلك بشكل أوسع، وتفصل هذه الأخبار التي في القرآن ومعانيها، وما أراد الله -عز وجل- بها؛ ليسمع من بحضرتنا، فقد أتيت اليوم بأشياء كثيرة يحتاج من سمعها إلى معرفتها وفهمها.

وهذا ما سنعرفه بإذن الله في الخطبة الثانية...

الخطبة الثانية:

الحمد لله كما ينبغي لجلاله وكماله وعظيم سلطانه...

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من أهل الحق وأنصاره.

قال الشيخ عبد العزيز: أجل يا أمير المؤمنين، إن الله -عز وجل- قد أنزل أخبار القرآن العظيم من حيث العموم والخصوص على أربعة أقسام.

فالأول: خبرٌ لفظه عام ومعناه عامٌ، كقوله -عز وجل-: (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) [النمل:91]، فيشمل هذا الخبر كلَّ الخلقِ والأمرِ، لا يُستثنى من ذلك شيءٌ، مما هو مخلوق وغير مخلوق. فهذا خبرُ لفظه عامٌ. ومعناه عام.

والثاني: خبرٌ لفظه خاصٌ ومعناهُ عامٌ، كقوله -تعالى-: (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى) [النجم:49]، فكان لفظُ الخبر خاصٌ ولكن معناه عامٌ، إذ إن الجميع يعقلُ أن الله -عز وجل- كما أنه هو ربُّ الشعرى فهو -أيضا- ربُّ غيرها من النجوم وجميع المخلوقات.

والثالث: خبرٌ لفظه خاص ومعناه خاص، كقوله -عز وجل-: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [آل عمران:59]، فكان لفظُ الخبر خاصا بآدم وعيسى -عليهما السلام-، وكذلك معناه فهو خاصٌ بهما فقط.

والرابع: خبرٌ لفظه عامٌ ومعناهُ خاصٌ، كقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى) [الحجرات:13]، فهذا خبرٌ لفظه عام ومعناه خاص، فالناسُ لفظٌ عام، ولكن المؤمنين عقلوا عن الله -عز وجل- أن هذا اللفظ العام لا يشملُ آدم وعيسى، عليهما السلام، لأنه قد قُدم في حقهما خبرٌ خاص، فهذا الخبر لفظه عام لهما ولغيرهما، ومعناه خاصٌّ بالناس دونهما.

ومثله قوله -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف:156]، فالمؤمنون قد عقلوا عن الله -عز وجل- عند نزول هذا الخبر العام أنه لم يشمل إبليس وأتباعه، فلا تشملهم رحمة الله، لأن الله قد قدّم فيهم خبرا خاصا قبل ذلك، قال -تعالى-: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص:85]، فإبليس وأتباعه قد خرجوا بهذا الخبر الخاص من رحمة الله التي وسعت كل شيء، فهذا خبرٌ لفظه عام ومعناه خاص.

ومثله -كذلك- حين أخبرنا الله -عز وجل- عن نفسه العلية خبراً خاصاً أنه حيٌ لا يموت بقوله: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) [الفرقان:58]، ثم أنزل خبراً لفظه عامٌ ومعناه خاصٌ فقال -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران:185]، فعقل المؤمنون أن الله -عز وجل- لم يشمل نفسه مع هذه النفوس الميتة؛ لأنه قد قدم إليهم في الخبر الخاص أنه حيٌ لا يموت.

ومثله كذلك حين قدم الله إلينا في كتابه خبراً خاصاً عن كلامه فقال -عز وجل-: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [النحل:40]، فدل على أن قوله ليس من الأشياء المخلوقة، بل إنه -تعالى- إنما يخلق الأشياء بقوله للشيء المخلوق كن فيكون، ثم قال الله -عز وجل-: (الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر:62]، فعقل المؤمنون عن الله -عز وجل- عند نزول هذا الخبر العام أنه لم يشمل كلامه وقوله في الأشياء المخلوقة، لأنه قد قدم في ذلك خبراً خاصاً، وأن الأشياء المخلوقة إنما تخلق بقوله، فقوله إذن ليس من الأشياء المخلوقة.

فقال المأمون: أحسنت، أحسنت يا عبد العزيز.

قال بشر: قد تركتك تخطب وتهذي كما تشاء، ومعي الآن آية من كتاب الله لا يتهيأ لك معارضتها ولا دفعها، كما فعلت في غيرها، وإنما أخرتها لتكون قاطعة لحجتك، ويكون بها سفك دمك.

هذا ما تيسر ذكره اليوم، نتوقف هنا، ونكمل بإذن الله في الخطبة القادمة.