الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | محمود بن أحمد الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
السَّريرة أمرها عظيم, وشأنها خطير, وهي لا تخفى على الله -تعالى- وإن خَفِيَتْ على الناس؛ لأنَّ السر عنده علانية, وخفايا القلوب له بادية.. فحرِيٌّ لِمَنْ خاف مقامَ ربِّه؛ أنْ يُعِدَّ لهذا اليوم عُدَّتَه, ويسعى -ما دام في الزَّمنِ مُهلة- إلى إصلاح سريرته, وسلامةِ قلبه..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الحليمِ الغفَّار, العزيزِ الجبار, والصلاةُ والسلام على النبيِّ المُختار, وآله وصحبه ما تعاقَبَ الليل والنهار.
أمَّا بعد: السَّريرة أمرها عظيم, وشأنها خطير, وهي لا تخفى على الله -تعالى- وإن خَفِيَتْ على الناس؛ لأنَّ السر عنده علانية, وخفايا القلوب له بادية.
والسريرة: هي ما يكتمه المرءُ ويُخْفِيه في نفسه من خيرٍ أو شرّ. وقد حذَّرَنا الله -تعالى- من يومٍ تبدو فيه السرائر وتُختبر, وتَنْكشف فيه البواطِنُ وتُمتَحَن, فيَظْهر ما فيها من الإخلاص والصِّدق واليقين, أو ما يُضادُّه من النِّفاق والكذب, والرِّياء, والحسد, والعُجْبِ والكِبْر, والحرصِ على الشُّهرة والظُّهور, قال -تعالى-: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)[الطارق: 9]؛ وقال -سبحانه-: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)[الحاقة: 18].
فحرِيٌّ لِمَنْ خاف مقامَ ربِّه؛ أنْ يُعِدَّ لهذا اليوم عُدَّتَه, ويسعى -ما دام في الزَّمنِ مُهلة- إلى إصلاح سريرته, وسلامةِ قلبه؛ لَعلَّه ينجو من الخِزْيِ والفضيحة, والعقوبةِ يوم القيامة, (يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88, 89].
ولا يكون القلب سليماً, والسريرة صالحة, حتى يتحلَّى بصفاتٍ, ويتخلَّى عن صفات؛ يتحلَّى: بالأعمال والاعتقادات القلبية الصالحة التي هي أساس صلاح الأعمال الظاهرة, ويتخلَّى: عن الأعمال والاعتقادات القلبية الفاسدة, وعن الاعتراضات التي تُفسِد على القلب تسلِيمَه لخبر الله -تعالى- في كتابه, وخبر رسوله -صلى الله عليه وسلم- في السُّنة الصحيحة.
والأنبياءُ هم قُدوَتُنا في صلاح السريرة وسلامة القلب, فقد وصف الله -تعالى- إبراهيمَ - عليه السلام - بقوله: (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الصافات: 84]. واللهُ -تعالى- وصف نبِيَّنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- بأحسن الأوصاف, فقال -سبحانه-: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4], وهذا يشمل جمالَ أخلاقِه الباطنة والظاهرة.
ثم يأتي بعد الأنبياء في صلاح السريرة وسلامة القلب: الصِّدِّيقون, وعلى رأسهم: صِدِّيقُ الأُمَّة الأكبر؛ أبو بكرٍ الصديق -رضي الله عنه-, الذي ظَهَرَ صلاحُ سريرتِه وصفاءُ باطنِه في مواطنَ كثيرةٍ من حياته, قال أبو بكر المزني -رحمه الله-: "ما فاق أبو بكر -رضي الله عنه- أصحابَ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- بصومٍ ولا صلاة, ولكنْ بشيءٍ كان في قلبه".
وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "ما أدرك عندنا مَنْ أدرك بكثرةِ الصلاةِ والصيام, وإنما أدرك عندنا بسخاء الأَنْفُسِ, وسلامةِ الصُّدور, والنُّصْحِ للأُمَّة". وقال ابن المبارك - رحمه الله: "ما رأيتُ أحداً ارتفع مِثْلَ مَالكٍ, ليس له كثيرُ صلاةٍ ولا صيام, إلاَّ أنْ تكون له سريرة".
عباد الله: ويوم القيامة يَظْهَرُ ما كان مستتراً في الصدور من خيرٍ وشر, فتصير الأمورُ علانية, قال -تعالى-: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)[الطارق: 8-9]. فتُخْتبر سرائر الصدور، ويَظهر ما كان في القلوب من خيرٍ وشرٍّ على صفحاتِ الوجوه: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)[آل عمران: 106].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "فمَنْ كانت سَرِيرتُه صالحة؛ كان عَمَلُه صالحاً, فتبدو سريرتُه على وجهه نوراً وإشراقاً وحياءً, ومَنْ كانت سريرتُه فاسدة؛ كان عِلْمُه تابعاً لسريرته, لا اعتبار بصورته, فتبدو سريرته على وجهه سواداً وظُلمةً وشَيناً".
ولخطورة شأنِ السريرة؛ كان مِنْ دعاء إبراهيم -عليه السلام-: (وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 87-89]. قال السعدي -رحمه الله-: "والقلب السليم: هو الذي سَلِمَ من الشرك, والشك, ومحبةِ الشرِّ, والإصرارِ على البدعة والذنوب, ويلزم من سلامته مِمَّا ذُكِرَ اتِّصافُه بأضدادها؛ من الإخلاص, والعلمِ واليقين, ومحبةِ الخير وتزيينه في قلبه, وأن تكون إرادتُه ومحبَّتُه تابعةً لِمحبة الله, وهواه تابعاً لما جاء عن الله".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "فهذا القلب السليم في جَنَّةٍ مُعجَّلةٍ في الدنيا, وفي جَنَّةِ في البرزخ, وفي جَنَّةِ يوم المعاد, ولا يتمّ له سلامته مُطلَقاً حتى يَسْلَمَ من خمسة أشياء: من شِرْكٍ يُناقِضُ التوحيدَ, وبدعةٍ تُخالِفُ السُّنةَ, وشهوةٍ تُخالِفُ الأمرَ, وغَفْلةٍ تُناقِضُ الذِّكرَ".
وكثيراً ما يؤكِّد القرآنُ على إصلاح السريرة؛ كما في قوله -سبحانه-: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ)[الأنعام: 120]. فقد نهى الله -تعالى- عِبادَه عن اقتراف الإثم الظاهر والباطن، أي: في السر والعلانية، وأكثر الناس تخفى عليه المعاصي الباطنة المُتعلِّقة بالقلب؛ كالكِبر والعُجب, والرياء, والحسد, والغل، وهو لا يشعر, وهذا من عدم البصيرة في الدِّين.
قال وهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ -رحمه الله-: "لا تخافَنَّ على عَمَلٍ صالحٍ أسْرَرْتَه إلى الله -عز وجل- ضَياعاً, ولا تخافَنَّ من ظُلْمِه ولا هَضْمِه, ولا تظُنَّنَّ أنَّ العلانيةَ هي أنجحُ من السَّريرة, فإنَّ مَثَلَ العلانية مع السَّريرة؛ كَمَثَلِ ورَقِ الشجر مع عِرْقِها: العلانية ورقُها, والسريرة عِرْقُها, إنْ نُخِرَ العِرقُ هلكت الشجرةُ كلُّها, ورَقُها وعُودُها, وإنْ صَلَحَتْ صَلَحَت الشجرةُ كلُّها, ثمرُها وورقُها".
وإذا أخرج اللهُ -سبحانه- الأمواتَ من قبورهم لحشرهم, ونشرهم؛ صار السرُّ علانية, والباطنُ ظاهراً: (أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)[العاديات: 9-11].
ومما يدعو الإنسان إلى مراقبة خالقه المُطَّلِع على ضميره وباطنه؛ أنه -تبارك وتعالى- قريبٌ منه في جميع أحواله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)[ق: 16], فيجب على العبد أنْ يستحي من الله -تعالى-؛ أن يراه حيث نهاه, أو يفقده حيث أمره.
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
عباد الله: إنَّ العبرة بصلاح السريرة, لا بصلاح الظاهر فقط, وقد يبدو للناس صلاحُ شخصٍ في ظاهره, لكنه يحمل قلباً خبيثاً, وسريرةً فاسدة, تخذله عند الخاتمة, ويُظهرها الله -تعالى- عند الموت, فيُختَم له بها, ويشهد له: قولُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهْوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ"(رواه البخاري).
قال بلال بن سعد -رحمه الله-: "لا تكنْ وليًّا لله في العلانية, وعدُوَّه في السريرة".
وعن الحسن البصري -رحمه الله- قال: "يُعَدُّ من النفاق: اختلاف القول والعمل, واختلاف السر والعلانية, والمدخل والمخرج".
وقال عثمان -رضي الله عنه-: "ما أسرَّ أحد سريرةً إلاَّ أظهرها الله على صفحات وجهه, وفلَتَات لسانه".
والأعمال الظاهرة لا تحصل بها التقوى, وإنما تحصل التقوى بما يقع في القلب؛ من تعظيم الله -تعالى-, وخشيته, ومراقبته, ونحو ذلك؛ ويدل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلاَ إِلَى صُوَرِكُمْ, وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ", وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ.(رواه مسلم)؛ لأنَّ القلب هو أمير البدن, وبصلاح الأمير تصلح الرعية, وبفساده تفسد.
ويؤيده: قولُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّه؛ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ"(رواه البخاري ومسلم). قال الحسن -رحمه الله-: "ابنَ آدم! لك قولٌ وعمل؛ وعملُكَ أولى بك من قولك. ولك سَرِيرة وعلانية؛ وسريرتُك أولى بك من علانيتك".
وأَوْلَى السلفُ الصالح عنايةً خاصة بالسرائر؛ لخطورتها, ولأنَّ إصلاحها أوجب على العباد من أعمال الجوارح, فبصلاح القلوب والسرائر تصلح الظواهر, وبفسادها تفسد. وها هو الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- يُحذِّر الناسَ من شِرْكِ السَّرائر, فيقول: "أَيُّهَا النَّاسُ! إِيَّاكُمْ وَشِرْكَ السَّرَائِرِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: "يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي, فَيُزَيِّنُ صَلاَتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ, فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ"(رواه ابن خزيمة).
قال يحيى بن معاذ -رحمه الله-: "النُّسُك: هو العناية بالسرائر, وإخراجُ ما سوى اللهِ -عز وجل- من القلب".
وقال سفيان بن عيينة -رحمه الله-: "إذا وافقت السريرةُ العلانيةَ فذلك العدل, وإذا كانت السريرةُ أفضل من العلانية فذلك الفضل, وإذا كانت العلانيةُ أفضل من السريرة فذلك الجَوْر".
وصلوا وسلموا...