الرزاق
كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...
العربية
المؤلف | عبدالله بن حسن القعود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
ماذا يَبقى لمُسلم عَلِم أنَّه سيُسأل عن هذه القوة وعن هذه الشَّباب فيما استنفده؟ ماذا يبقى أيُّها المسلمون؟ أيبقى طول الأمل ونسيان الأجل؟ كلا؛ لا يجوز ذلكم أم يبقى التسويف والتّأويل حتى يؤخَذ الإنسان على غرَّة فيُفارق عالم الأحياء نادماً على ما قدّم؟ كلا، لا يجوز أن يبقى شيء من ذلكم أبداً ..
الحمد لله ذي الحوْل والطوْل لا إله إلاَّ هو الحيّ القيّوم؛ الحمد لله الذي لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، الحمد لله الأول الذي ليس قبله شيء، والآخِر الذي ليس بعده شيء، والظّاهر الذي ليس فوقه شيء، والْباطن الذي ليس دونه شيء.
وأشهَد أن لا إله إلاَّ الله الْعلي الأعلى الذي خلقَ فسوّى، والذي قدّر فهدى؛ وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله خيرُ مُجتبي وأكرم مصطفى، اللَّهُمَّ صلِّ وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه؛ كما صلّيت وباركتَ على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أمَّا بعد: فياَ عبادَ الله: أُذكِّركم والذكرى تنفع المؤمنين، أُذكّركم بشيء من مفاد تأويل قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم:54]
أيُّها الناس: لقد سيقت هذه الآية الكريمة للادّكار والاعتبار، وبيان قُدرة الله تعالى، ففيها يُنبّه جلَّ وعلا بني الإنسان إلى أصل خَلقهم، ثم إلى الأدوار التي مرُّوا وسيمرُّون بها في هذه الحياة؛ وقد جاء ما أشارت إليه هذه الآية، مفصَّلاً في كتاب الله، فأصلُ خلقِ آدمَ من تُراب (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ) [الحجر:28]
وأصلُ خلقِ ذُرِّيته من ماء مَهين، من نطفة كما هو معروف، ثم من عَلَقة، ثم من مُضغَة، ثم يصير عظاماً، ثم تُكسى العظام لحماً، وتُنفخُ فيه الرُّوح، ثم يخرج من بطن أُمِّه إلى الدُّنيا ضعيفاً واهن القُوى، أحوج ما يكون إلى غيره (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ).
ثم يأخُذ في القوَّة حتى يصير شابًّا مُكتمل القوى (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) ثم يأخذ في النقص فيكتهل، ثم يشيخ ثم يهرم (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل:88]
أيُّها النّاس: لقد أنعم الله عليكم بأن أوجدكم من العدم، وخلقكم في أحسن تقويم، وكرَّمكم أحسن تكريم، وأعدكم أحسن إعداد، ووهب لكم السمع والبصر والفؤاد، وهداكم النجدين، وأوضح لكم الطريقين: طريق النجاة والسعادة، وطريق الهلكة والشقاوة، وأسبغ عليكم نعمَهُ ظاهرةً وباطنة، وسخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه.
فماذا يَبقى من عُذرٍ -أيُّها المسلمون- بعد هذا الإِنعام؛ بعد هذا التّذكير من الله وبيان المصير؟ ماذا يبقى من عذرٍ لدى مَن علِمَ عِلْم اليْقين أنَّه مرَّ بدَورين من هذه الأدوار الثلاثة: دور الضعف الأول ودور الشباب وهو دور القوّة ولم يبق له إن وُهبَ له استكمال العمر العادي إلاَّ الدور النهائي الذي هو دور الضعف وانحطاط القوى، دور تجعُّد البشرة وتقلُّص الجسم، وتقارب الخطى، دور ذهاب البهاء والنضارة، والدُّنو من الموت لا محالة.
ماذا يبقى لشيخ أُمهل حتى شابت اللمة وضعُفت الهمَّة؟ ماذا يَبقى لدى مَن أدرك سرَّ إيجاده في هذه الحياة؟ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]
ماذا يَبقى لمُسلم عَلِم أنَّه سيُسأل عن هذه القوة وعن هذه الشَّباب فيما استنفده؟ ماذا يبقى أيُّها المسلمون؟ أيبقى طول الأمل ونسيان الأجل؟ كلا؛ لا يجوز ذلكم أم يبقى التسويف والتّأويل حتى يؤخَذ الإنسان على غرَّة فيُفارق عالم الأحياء نادماً على ما قدّم؟ كلا، لا يجوز أن يبقى شيء من ذلكم أبداً.
فاتَّقوا الله –أيُّها المسلمون- اتَّقوا الله يا شباب الإسلام، ولا يُنسينَّكم ما أنتم فيه من قوة ونضارة، ما أمامكم من ضعف وشيبة، فآباؤكم ومن تُشاهدون يتوكّأ من الشيُوخ أمامكم سلفكم، وأنتم في الأثر.
فاتَّقوا الله بشُكر نِعَم الله عليكم، اتَّقوا الله بطاعته، اتَّقوا الله بالحفاظ على هذه الموهبة الرّبّانية العُظمى، موهبة الشباب الناضر والفُتوّة المتوقِّدة، لا تُضيِّعوها في مَعصيةِ فتظلموها، فالشَّباب النَّافع ما أفنى في طاعة الله؛ ولقد أُعطيتُم الشَّباب لتطيعوا الله فيه لا لتُحارِبوه به، أُعطيتُم الشبَّاب غُنماً لتغنموا باستغلاله في الأعمال الصَّالحة.
يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الحاكم وصححه عن ابن عبّاس -رضي الله عنه-: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" ويقول -فيما رواه البخاري- عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أعذر الله إلى امرئٍ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة".
ويقول خير قائل وأصدقه: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر:37]
أقول قولي هذا، وأسألُ الله تعالى أن يختم لنا بالصالحات والخيرات الحسان، وأن يجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا آخرها، وأبرك أيامنا يومَ نَلقاه. إنَّه تعالى حسبنا ونِعم الوكيل.