العربية
المؤلف | راشد البداح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
وأما الصحَابةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فبَعْضُهُمْ لَا يَأْكُلُ الْجَرَادَ؛ لِأنَّهُ يَتَقَذَّرُهُ؛ كابْنِ عُمَرَ, وأمَّا أبُوهُ عُمَرُ فَقَدْ قَالَ: "وَدِدْتُ أَنَّ عِنْدِي قَفْعَةً -أيْ إنَاءًا- نَأْكُلُ مِنْهُ"(موطأ مالك), وقَالَ مَرَّةً: "أَشْتَهِي جَرَادًا مَقْلِيًّا"(مصنف ابن أبي شيبة), وقَالَ أَنَسٌ: "كُنَّا نَشْتَرِيهِ وَنُكْثِرُ، وَنُجَفِّفُهُ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ ربِ كلِ شيءٍ ومليكِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه؛ صلى اللهُ وسلمَ عليهِ تسليمًا كثيرًا, أما بعدُ:
معاشِرَ المُؤمِنينَ: ألَا تَعْجَبُونَ؟! ألاَ تَتَفكَّرونَ في هَذَا الُجنْدِ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ؟!؛ خِلْقتُهُ ضعيفةٌ، لكنَّ أضرارَه مُخِيْفَةٌ, ليسَ كُورونا، وكُورونا أدهَى وأمَرَّ، ولكنُه هذا الجرادُ المِليونيُ الذي انتَشَرَ, "فَإِذَا رأيتَ عساكِرَه قَدْ أَقْبَلَتْ أبصرتَ جُندًا لَا يَحْمِي مِنْه عَدَدٌ وَلَا عُدَدٌ, يَنْسَابُ عَلَى الْأَرْضِ كالسَّيلِ، فيغشى السَّهلَ والوعرَ، حَتَّى يستُرَ نورَ الشَّمْس بِكَثْرَتِه، ويَسُدَّ وجهَ السَّماءِ بأجنحتِهِ، ويَذَرُ الْأَرْضَ قفرًا مِنْهَا!. وَهَذَا مِنْ حِكْمَتِهِ -سُبْحَانَهُ- أَنْ يسلِّطَ الضعيفَ مِنْ خَلْقِه عَلَى القويِّ، فَيَنْتَقِمَ بِهِ مِنْهُ؛ ليُذكِّرَنا -تَعَالَى- بإرادَتهِ التي لا مرَدَّ لها؛ كمَا قالَ: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)[القصص: 5]"(مفتاح دار السعادة لابن القيم).
"فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ؛ فأَكَلَ أَبْوَابَهُمْ حَتَّى أَكَلَ مَسَامِيرَهَا"(العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني), "وأَكَلَ زُرُوعَهُم وَطَعَامَهَم، حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمْ لَيَبْنِيْ لِطَعَامِهِ الْأُسْطُوَانَةَ المُرْتَفِعَةَ، فَإِذَا صَعِدَ لِيَأْكُلَهُ وَجَدَهُ مَلْآنَ دَبًى"(تفسير الطبري), فعذَّبَ –سبحانَه- جُنْدَ فرعونَ- بأضعَفِ جُنْدِهِ: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ)[الأعراف: 133], واُنْظُرْ كَيْفَ قَرَنَ الْجَرَادَ مَعَ حَقارَتِهِ، إلَى الطُّوفَانِ مَعَ غَلَبَتِهِ؟!.
أتَدْرِيْ لِمَ عذَّبَهمْ بِالْجَرَادِ والقُمَّلِ، وهُوَ قَادِرٌ أَن يُعذّبَهمْ بِقَلْبِ الْأَرَضِينَ، أوْ بالسِّبَاعِ والثَعَابِينَ؟! "أَرَادَ أَنْ يُعرِّفَهُمْ عَجْزَهُم، ويُذِلَّهمْ ويَدُلَّهُمْ بأذَلِّ خَلْقِهِ عَلَى أَنَّ القويَّ مَنْ قَوّاهُ وَأَعَانَه، وَالضَّعِيفَ مَنْ ضَعّفَه وَأهَانَهُ"(بتصرف واختصار من الحيوان للجاحظ), فَسُبْحَانَ مَنْ يُهْلِكُ القويَّ الْأَكُولَ، بِالضَّعِيفِ الْمَأْكُولِ!.
ألَا فلنعتبرْ بهذهِ الجرادَةِ وخِلْقَتِها وفِعْلَتِها؛ فإنَّ ابتداءَ خَلْقِها يُقَالُ: منَ البَحرِ! قَالَ ابْنُ عَمْرِو وكَعْبٌ: "إِنَّمَا هُوَ نَثْرُ حُوتٍ"(مصنف عبد الرزاق الصنعاني).
وقَدْ خَلَقَ اللهُ لَهَا ستَّ أَرْجُلٍ، وَطَرَفا رِجْلَيْهَا مِنشارانِ, "وَفِيهَا شَبَهٌ مِنْ عَشَرَةِ حَيَوَانَاتٍ: وَجْهُ فَرَسٍ، وَعُنُقُ ثَورٍ، وَصَدرُ أَسَدٍ، وَبَطْنُ عَقْرَبٍ، وَذَنَبُ حَيّةٍ، وَعَيْنَا فِيلٍ، وقَرْنَا إيِّلٍ، وجَناحَا نَسْرٍ، وفَخِذا جَمَلٍ، وَرِجْلا نَعَامَةٍ"(نهاية الأرب في فنون الأدب).
وَلُعَابُها سُمٌّ عَلَى الْأَشْجَارِ, وفي أمثالِ العربِ: "أفْسَدُ مِنَ الْجَرَادِ", وكميةُ الطعامِ الَّتِي تأكلُها الجرادةُ يومياً تُعادِلُ وَزْنَها!.
ومِنْ عَجائِبِها: أنَّها تَغْمِزُ ذَنَبَها في الأرضِ؛ لتغرِسَ بَيْضَها وتَدفِنَهُ حتى يَتَتَامَّ نُموُهُ، ويَعجَزَ عنه عَدوُهُ, فيا سبحانَ الخالقِ الذي جعلَ كائِنًا يَنْبُتُ منَ الأرضِ!, فيَخرُجُ منْ بَيضِهِ دَبَىً أبْيَضُ، ثم أزْعَرُ يَصْفَرُّ، وخَيْفانُ بينَ الحُمْرَةِ والصُفْرَةِ، ثم أحمَرُ مِكْنٌ ممْتَلئٌ بَيْضًا, "يَغْرِزُ بَيضَهُ بِأَيَّامٍ قَلِيلِةٍ، وَيُفَرِّخُ فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ، وَيَطِيرُ فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ"(موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة).
ومَنْظَرُهُ وهو يَدْبِي على الأرضِ مَهُولٌ، يُذَكِّر وَصَفَ اللَّهِ النَّاسَ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ؛ (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ)[القمر: 7], مُنتظِمِينَ؛ (يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ)[طه: 108], خَلْفَ الْمَلَكِ إسْرَافِيلَ إلَى أَرْضِ المَحْشَرِ, قَالَتْ رَابِعَةُ: "مَا رَأَيْتُ جَرَادًا قَطُّ إِلَّا ذَكَرْتُ الْحَشْرَ"(شعب الإيمان).
وهلْ أكَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الجَرَادَ؟؛ والجوابُ أنهمْ "غَزَوْا مَعَهُ سَبْعَ غَزَوَاتٍ، في كُلِّهِنَّ كَانُوا يَأكُلُونَ مَعَهُ الجَرَادَ"(صحيح البخاري ومسلم), وقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ، الْحُوتُ وَالْجَرَادُ"(مسند أحمد).
ورُوِيَ "أنَّ مَرْيَمَ سَأَلَتْ رَبَّهَا لَحْمًا لَا دَمَ فِيهِ؛ فَأَطْعَمَهَا الْجَرَادَ"(المعجم الكبير للطبراني), وكُنَّ "أَزْوَاجُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَهَادَيْنَ الْجَرَادَ فِي الْأَطْبَاقِ"(مصنف عبد الرزاق الصنعاني), "وَكُنَّ يَقْلِيْنَهُ بِالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ، وَيُفَضِّلْنَهُ عَلَى السَّمَكِ"(والسنن الكبرى للبيهقي).
وأما الصحَابةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فبَعْضُهُمْ لَا يَأْكُلُ الْجَرَادَ؛ لِأنَّهُ يَتَقَذَّرُهُ؛ كابْنِ عُمَرَ, وأمَّا أبُوهُ عُمَرُ فَقَدْ قَالَ: "وَدِدْتُ أَنَّ عِنْدِي قَفْعَةً -أيْ إنَاءًا- نَأْكُلُ مِنْهُ"(موطأ مالك), وقَالَ مَرَّةً: "أَشْتَهِي جَرَادًا مَقْلِيًّا"(مصنف ابن أبي شيبة), وقَالَ أَنَسٌ: "كُنَّا نَشْتَرِيهِ وَنُكْثِرُ، وَنُجَفِّفُهُ، فَنَأْكُلُ مِنْهُ زَمَانًا"(السنن الكبرى للبيهقي), وقَالَ التابِعِيُّ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: "لَقَصْعَةٌ مِنْ جَرَادٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ"(مصنف ابن أبي شيبة).
ومِن أَحكَامِ الْجَرَادِ قَوْلُ عَطَاءٍ: "إِنْ ضَرَبْتَهُ بِعَصَاكَ فَقَتَلْتَهُ فَمَاتَ؛ فَكُلْهُ"(مصنف عبد الرزاق الصنعاني).
وإذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ جَرَادَةً فَلْيَتَصَدَّقْ بِتَمْرَةٍ, قَالَ عُمَرُ: "ولَتَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ"(موطأ مالك).
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ مغيثِنا، ومُعْطِيْنَا، والصلاةُ والسلامُ على داعِينا وهادِينا.
أما بعدُ: فَقَدْ باكَرَنَا وَسْميٌ ناشِرٌ باذِرٌ، ثُمَّ خَلْفَهُ رَبِيْعٌ وعَبيرٌ، كَأنهُ تِبْرٌ ولؤلؤٌ مَنْثُورٌ, ثُمّ أَتَتْنَا غيومُ جَرَادٍ منتشِرٍ، قَرَّتْ وَقليلاً ضرَّتْ؛ لُطفًا من اللهِ ثم مُكافحةً منْ وَزَارةِ البِيئةِ والمِياهِ والزراعةِ، وربَّما كَثْرَةُ عُشْبِ الأَرْضِ قد أغْنَتْهُ عَنِ المَحَاصيلِ.
فسُبْحَانَ رَبِّ الْجَرَادِ وَرَازِقِهِ، إِذَا شَاءَ بَعَثَهُ رِزْقًا لِقَوْمٍ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى قَوْمٍ بَلَاءً, أكَلَ مَا وَجَدَهُ، وأَكَلَهُ مَنْ وَجَدَهُ, فهَلَّا تفكّرتَ فِيمَا جَعَلَهُ عَلَيْك عَادِيًا أنْ جَعَلَهُ لَك غاذيًا؟!.
فاللَّهُمَّ خُذْ بِأَفْوَاهِ هذَا الجَرَادِ، عَنْ مَعَايِشِنَا وَأَرْزَاقِنَا، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ, وَلَا تَكِلْنَا إلَى حَوْلَنَا وقُوَّتِنَا, اللّهُمّ ادْفَعْ عَنّا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يَدْفَعُهُ سِوَاك, اللَّهُمّ اجْبُرْ مُصِيبِةَ مَنْ لَحِقَتْهُ مِنهُ أضرارٌ، وَتَفْضَّل عَلَيْه بِالْخَلَفِ الْعَاجِلِ المِدرارِ.
اللهمَ أعنَّا على أنْ نشكُرَكَ على لُطفِكَ في بلائِكَ، وأن علمتَنا سبيلَ دفعهِ، ورفعهِ, اللهمَ لكَ الحمدُ على تَتَابُعِ بركاتِك منَ السماءِ، وبَديعِ نَبْتِكَ في الرياضِ والفِياضِ, وإنه لا غِنَى لنا عنْ مَزيدِ فضلِكَ.
اللهم سلِّمْنا إلى رمضانَ ونحنُ في إيمانٍ وأمنٍ وصحةٍ ورغدٍ, اللهمَ احفظْ دينَنَا وأعراضَنا وأولادَنا وتعليمَنا وصحتَنا وحدودَنا وجنودَنا, اللهمَ وآمنْ أوطانَنا، واحفظْ وسدِدْ إمامَنا، ووليِ عهدِهِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.